q

قبل دقائق من الشروع بالكتابة عن القصف الكيمياوي الداعشي لناحية تازه خورماتو جنوب كركوك، وصلني نبأ قصف جديد بصواريخ كاتيوشا عصر يوم الاربعاء، مما يعني أننا أمام تحدي إرهابي من نوع خاص، يتجاهل وجود أية قوة عسكرية في الميدان، إذ نقلت المصادر أن قوات الحشد الشعبي تتمركز في الناحية وقد ردّت على النيران بالمثل في محاولة لإبعاد القوة الصاروخية لداعش عن محور الناحية.

للعلم فقط؛ فان ناحية تازة خورماتو، ليست قضاء طوزخورماتو، فالناحية تقع على مسافة 20 كيلومتراً جنوب كركوك، بينما القضاء يقع ضمن الحدود الادارية لمحافظة صلاح الدين، حسب التغيير الذي أجراه النظام البائد واقتطاعه من كركوك. هذه الناحية الصغيرة التي تسكنها الاكثرية الشيعية، حالها من حال النواحي والقصبات الاخرى جنوب كركوك، باتت ضحية الاجتياح الداعشي منذ عامين، وما يزال أهلها يتعرضون للقصف والتشريد والتهديد بالموت يومياً.

لا أجدني بحاجة لتوزيع المسؤوليات على الجهات الفاعلة في العراق للتصدّي بقوة لهذه الجريمة المروعة والسافرة، مثل المؤسسات الحكومية والاعلامية والثقافية ومنظمات المجتمع المدني وعلماء الدين. بقدر ما أرى الحاجة في تسليط الضوء على اسباب الصمت المريب إزاء هذا التطور الخطير في المواجهة مع الارهاب.

إن استهداف المدنيين بالاسلحة الكيمياوية يمثل بالنسبة للعالم مادة إعلامية وقضية حقوقية لإثارة الجرح الانساني وخلق رأي عام عالمي من شأنه أن يمارس الضغوط، ليس على الجماعات الارهابية الخارجة عن دائرة التعامل الطبيعي، وإنما على الدول الداعمة لهذه الجماعات بالغطاء الشرعي والدعم المعنوي والمادي وحتى السياسي. وهذا ماحصل تحديداً منطقة "الغوطة الشرقية" بسوريا العام الماضي عندما ادّعت الجماعات الارهابية المسلحة كذباً، استخدام القوات السورية اسلحة كيمياوية ضد المدنيين، فملئوا الدنيا زعيقاً وصراخاً في المحافل الاعلامية والسياسية، في محاولة لتعبئة الرأي العام ضد الحكومة السورية، وتفعيل خيار الحرب للاطاحة بالرئيس بشار الاسد.

حتى هذا؛ لم "يشجّع" أهل الحل والعقد في العراق على اتخاذ مواقف شديد وحازمة إزاء هذا العدوان، وهناك سبب واحد من جملة اسباب لا نخوض فيها، منها ما يتعلق بأولوية حفظ التوازنات السياسية بين القوى الحاكمة في بغداد، ومنها ايضاً الاعتقاد بأن السياسي والمسؤول، ليس دائماً هو المسؤول عن كل شيء...!

إن كثرة الاشلاء والدماء في صفوف المدنيين الشيعة في العراق منذ الاطاحة بنظام صدام، خلق حالة من الاستسهال مهما كان الخطب فضيعاً، تدفع الوزير او النائب – مثلاً- لتبني الرؤية السياسية البحتة واتباع الاسلوب والخطاب الدبلوماسي على طول الخط، والابتعاد عن الحالة الانسانية التي يتوهم البعض أنها تحجم من منزلته ومكانته السياسية، لذا عليه أن يفكر بما هو أكبر من الحديث عن أطفال أصيبوا بطفح جلدي او أمهات تعرضن للاختناق بسبب القصف الكيمياوي.

وربما هنالك تصور بأن هذا الخطاب هو الذي يوفر حصون الردع للمدنيين في النواحي النائية التي يقطنها الشيعة في مناطق الصراع، مثل محافظات ديالى وكركوك وصلاح الدين، وهو الذي يدفع خطر الموت البطيئ عن المحاصرين من قبل قوات داعش وحواضنهم في تلك المناطق، ولعل بقاء ناحية "بشير" حتى الآن خارج السيطرة الحكومية، يؤكد مدى التمسك بهذا الخطاب المريب الذي يدفع ثمنه الاطفال والنساء بالجوع والرعب وأخيراً الاسلحة الكيمياوية والغازات السامة.

وتؤكد المصادر أن استعادة بشير ليست بعيدة المنال، بعد سلسلة الهزائم التي مُني بها داعش خلال العام الماضي، وتحديداً في مناطق ديالى وكركوك وصلاح الدين، وتحرير مناطق واسعة احتلها داعش في وقت سابق، فيما تتجه القوات المسلحة بفصائلها المتعددة لتطهير باقي مناطق الانبار وتطويق الفلوجة والاستعداد لتحرير الموصل.

لنفترض إعطاء الاولوية لهذا الخطاب وأنه سيد الموقف وقادر على تغيير مجرى الاحداث في الميدان، فهل هو من الجدارة لأن يصوغ موقفاً سياسياً يفرض نفسه على الاطراف الاقليمية والدولية، بحيث تجعل من القوات المسلحة التي تقاتل الجماعات الارهابية في العراق، تجربة ناجحة وجديرة بالثناء من قبل الجميع؟

إن ما تفوّه به السفير السعودي في بغداد، يمثل علامة فارقة في السياسة الخارجية العراقية منذ تشكيل النظام السياسي الجديد على أنقاض نظام صدام، فقد تهجّم بصورة علنية أمام الشعب العراقي من خلال الشاشة الصغيرة، على الحشد الشعبي الذي ما يزال قائماً ومقاتلاً بفضل التضحيات الجسام لهذا الشعب، وبعد اكثر من مقابلة صحفية أجرته قنوات عراقية مع هذا السفير، نسى الجميع الأمر وكأن شيئاً لم يكن.

بالمحصلة؛ يبدو أن الحلقة المفقودة في الخطاب السياسي للدولة، على صعيد الداخل والخارج، تتمثل في حقوق الشعب العراقي وكرامته ومصيره، وهذا ما يجب أن يسمعه المسؤولون في السعودية تحديداً وأي طرف آخر متورط في جرائم الارهاب التكفيري، فالذين قضوا نحبهم بالقصف الكيمياوي مع مئات المصابين بحالات خطرة لا تزول بسهولة، إنما هم بشر، بقطع النظر عن انتمائهم، فهل تعرضت قرية سنية – مثلاً- لهكذا هجمات وسكتت عنها الحكومة؟.

إن الجانب الانساني يمثل بالحقيقة أداة فاعلة في الخطاب السياسي لابد من استثمارها، فهي تغذي الاعلام وتشحذ النفوس وتحرك المنظمات الحقوقية والانسانية، لانها لا تتعامل مع مزايدات وتجاذبات ومصالح معينة، إنما مع أرقام ووقائع على الارض تدفع أي انسان في العالم الى التضامن وخلق رأي عام مؤثر على القرار السياسي.

اضف تعليق