إنسانيات - حقوق

لماذا نحتاج حرية التعبير؟

ما يلفت النظر في تفاصيل هذا الحق أن الإمام أنزل حق الخصم المدعي في حال صدقه منزلة حق الله جلّ وعلا، فلا مجال للطرف المخاطب هنا للتفكير بإبطال دعوى خصمه أبدا، بل الواجب عليه أن يكون خصما لنفسه هو وشاهدا عليها، وأن (يتقيّد) في كلامه في مخاطبة الخصم...

لماذا نحتاج حرية التعبير؟ هذا السؤال يبدو غريبًا، بل مستفزًّا من وجهة نظر الغالبية العظمى من الناس فحريّة التعبير مسلّمة منطقية، وضرورة حياتية لا ينبغي التشكيك بها تحت أي ظرف أو أية ذريعة، لكن ثمة من يرى وجاهة في طرح السؤال معرض النقاش، فهذه الحرية التي كافحت البشرية آمادا طويلة كي تصل بها إلى مستوى البديهيات والضرورات تشهد توظيفًا مستمرًا لحرف مساراتها الطبيعية باتجاه (مجرى) خطابات الكراهية، والاعتداء على خصوصيات الآخرين، فضلا عن التضليل المعلوماتي المصاحب لتشويه الحقائق، أو تزويرها. 

لا نأتي بجديد حين نقول إن الحق في استعمال حرية التعبير يعدّ منهلا خصبا لتطور النقاش العام، ومن ثم ترقيه، وبلوغه إلى مرتبة القرار المستنير، كما لا نأتي بجديد أيضا حين نؤكد بأن فكرة الحق في حرية التعبير لها امتداد تاريخي يمكن التأصيل له في الحضارات الإنسانية القديمة الكبرى، وبقدر ما يتعلق الأمر بالحضارة الإسلامية فإن أفضل مصداق لممارسة هذا الحق يتجلى في مبدأ الشورى...

 وتتوزع حرية التعبير على حقول مختلفة يأتي في مقدمتها حرية الكلام، والصحافة، والتجمع والتظاهر، وكذلك حرية التعبير في مجالات الفنون المختلفة كالرسم وغيره، ومن هنا استحق هذا الحق أن يحظى بحماية قانونية مركزة كانت ثمرة لكفاح باسل قاده أعلام الفلاسفة والمفكرين في العصر الحديث، وقد أخذت هذه الحماية صيغة إلزامية لا يمكن تجاوزها بسهولة في كثير من دول العالم، وشكّلت حضورا بارزا ودائما في أعمال وتوجهات المنظمات العالمية المهتمة بفلسفة حقوق الإنسان. ومن المنطقي بطبيعة الحال تصور إمكانية أن يساء استعمال هذا الحق فيستدعي وضعه هو نفسه تحت المسائلة القانونية، غير أن هذا الاستدعاء في حالة تحققه لا يكون غالبا إلا بوجود سلطة نافذة ترى من مصلحتها محاكمة من أساء استعمال هذا الحق؛ لأنها قد لا ترى محاكمته أصلا في أحيان أخرى، وذلك وفقا لحدود تلك المصلحة التي تأخذها تلك السلطة بعين الاعتبار. 

وعلى هذا الأساس تعددت تفاسير حرية التعبير من بيئة إلى أخرى، ومع تعدد وجوه التفسير اختلفت مجالات التطبيق أيضا، كما شاعت لوائح التقييد المفروضة على مستعملي هذا الحق وفي حقوله كافة إلى الحدّ الذي لا نكاد نعثر معه على استثناءات لتلك اللوائح في دولة من دول العالم، وهذا الأسلوب لم يعد حكرا على سلطة المؤسسة التقليدية في إطار منظومة المصالح التي تديرها أو تشرف عليها، أو تحرسها.

بل سرت عدوى ذلك الأسلوب في وقتنا الحاضر إلى العوالم الافتراضية، ومنها مواقع التواصل الاجتماعي المملوكة لفرد واحد غالبا، وكان يُظن سابقا أنها متحررة سياسيا واقتصاديا، ومحايدة اجتماعيا، بملاحظة ما يجري حاليا من (تحديث) لتحديد القدرة على المشاركة عبر الإنترنت من خلال خوارزميات الإشراف على المحتوى التي صارت بحكم الأمر الواقع تمارس مهام (تشريعية وقضائية وتنفيذية) وتتحكم من طرف واحد في تفسير هذا الحق، وتبت في إمكانية تطبيقه، وتحدد شروطه، وأحكامه، وقواعده، وأبرز الأمثلة على ذلك ما يجري في ساحتي: فيس بوك، وتويتر( (X. وأكبر الظن أن ما يحدث من تحكم في مسألة النظر إلى حرية التعبير لاسيما في إجراءات (التقييد) داخل المنصات الرقمية المؤثرة، والأكثر رواجا لا يمثل قرارات ارتجالية لمالكي تلك المنصات، بل هي ترجمة لإرادات قوى كبرى بصرف النظر عن كونها دولا أو منظمات. 

وليس من شك في أهمية وجود لوائح منظمة، وحتى مقيدة لممارسة الحق في حرية التعبير إذا لم يكن الداعي لها أجندة سياسية متحيّزة بل كان الداعي هو منع تحوّل حرية التعبير عن مسارها الطبيعي فتغدو وسيلة للهدم، والتجني، والتباغض، ونفث السموم، والأكاذيب، والبذاءات...الخ، لأن انتفاءها في هذه الصورة سيكون أولى من بقائها، ذلك أن تخلي حرية التعبير عن مسؤولياتها الأخلاقية سينتهي بها حتما إلى نتيجة مؤسفة بل إلى عدم محض، وفي هذا السياق من المناسب التذكير ببعض ومضات التراث المتصلة بالحق في حرية التعبير، والاستشهاد -على سبيل المثال- بما ذكره الإمام علي بن الحسين في كتابه (رسالة الحقوق) لاسيما في تناوله لحق (الخصم المدعي)، إذ يقول عليه السلام في هذا السياق: (( فإن كان ما يدّعي عليك حقًا لم تنفسخ في حجته ولم تعمل في إبطال دعوته وكنت خصم نفسك والحاكم عليها والشاهد له بحقه دون شهادة الشهود فإن ذلك حق الله عليك وإن كان ما يدّعيه باطلًا أرفقتَ به، وورّعته وناشدته بدينه وكسرت حدته عنك بذكر الله وألغيت حشو الكلام ولغطه... لأنّ لفظة السوء تبعث الشر، والخير مقمعة للشر..)).

وما يلفت النظر في تفاصيل هذا الحق أن الإمام أنزل حق الخصم المدعي في حال صدقه منزلة حق الله جلّ وعلا، فلا مجال للطرف المخاطب هنا للتفكير بإبطال دعوى خصمه أبدا، بل الواجب عليه أن يكون خصما لنفسه هو وشاهدا عليها، وأن (يتقيّد) في كلامه في مخاطبة الخصم، فيتحاشى حشو الكلام، ولغطه، وهما الصفتان المذمومتان اللتان تطبعان عادة حرية التعبير في صورتها المبتذلة والمشينة، وتهبطان بها إلى درك مُخزٍ، ومصير معتم فيكون حينئذ الاستغناء عنها أفضل من الاحتياج إليها، ولعلّ في هذا المختتم ما يصلح جوابًا للسؤال الذي وُسِم به عنوان المقال...

اضف تعليق