تصميم بيئة رقمية هادفة للأحداث لاسيما في سن المراهقة على ان يؤخذ بنظر الاعتبار عند التصميم وتغذيتها بالمحتوى مصلحة الطفل وجعلها الفضلى أو العليا وبما يكفل حق الطفل في التماس المعلومات والحصول عليها ونقلها، ومنع المخاطر الإلكترونية من ان تحيق به ومعالجة أثارها ان تضرر منها وفق...
تتسارع التطورات التقنية في عصرنا الراهن والتي تحمل بين طياتها العديد من الفوائد والمضار وبات التوغل الرقمي في حياة الأفراد اليومية معضلة يصعب التغلب عليها، وهنا بات السؤال الأكثر الحاحاً كيف يمكن توظيف التقنية لخدمة الإنسان؟ وما هي ضمانات الالتزام بمعايير السلوك الرقمي الصالح بما يضمن العيش المشترك والاندماج الاجتماعي؟
بيد ان الواقع يحمل بين طياته حقيقة تعرض الكثير من الأفراد لمضايقات الكترونية متزايدة لاسيما فئة الأطفال، لكون هؤلاء الأكثر استخداماً للتقنيات الحديثة لحبهم وشغفهم بالإطلاع ويقضي الكثير منهم ساعات طويلة خلف الشاشات الصغيرة يتصفحون المواقع الإلكترونية والألعاب الإلكترونية وغيرها من مواقع التواصل وغرف الدردشة، لذا هم الأكثر عرضة للمضايقات ويتعرضون في الغالب لمحاولات لاستغلالهم أو التضييق عليهم أو استمالتهم بحكم حداثة سنهم وقلة خبرتهم في الحياة وعدم معرفتهم كيفية التعامل مع المخاطر، فجل مرتادي الانترنيت اليوم من الأطفال والشبان.
ولما كان الخطر الذي يحول بهم يتمثل في جعل صحة الطفل أو أخلاقه أو تربيته أو أمنه في خطر عام أو خاص، أو يتعرض لاعتداء على عرضه، أو يكون وجوده في أسرته أو ظروفه معيشية أو سلوكه الاجتماعي أو الأسري في خطر، حتى لو كان هذا الخطر غير محقق الوقوع أو مستقبلي فالضرر حتمي بالشخص ذاته أو بأسرته، فمن الممكن ان تتعرض حالته الصحية أو النفسية للضرر الحال أو المستقبل.
فمن شأن البيئة الرقمية أن تحقق كل أو جزء مما تقدم ولا شك أنها سبب رئيس لتعرض سلامة الطفل للخطر سواء من ناحية الأجهزة الرقمية أو المحتويات المرتبطة بالانترنيت ما لم تحط بالطفل إجراءات السلامة والوقاية، وبعبارة أخرى تعرف المخاطر الرقمية بأنها "كل ما يهدد سلامة الطفل الجسدية والنفسية ويؤثر على سلوكه سلباً"، وبحسب المادة الأولى من اتفاقية حقوق الطفل للعام 1989، فإن الطفل هو أي شخص يقل عمره عن 18 سنة، ما لم يبلغ سن الرشد قبل ذلك بموجب القانون الوطني، ونعني بالبيئة الرقمية أنها الوسط الافتراضي الذي يجري فيه تبادل البيانات والمعلومات والاتصالات بشكل رقمي، بوساطة تكنولوجيا تدعمها شركات وسيطة تستثمر وسائل الاتصالات مناسبة بما يمكن المستفيدين من الوصول المباشر والكامل للمعلومات التي يريدونها، فهي إذن بيئة افتراضية معلوماتية بشكل رقمي متاحة للجميع بشرط الدخول بوساطة الشبكة العالمية التي تدعى بالانترنت.
وقد شددت الأمم المتحدة في أحدث وثائقها التي تتصل بالموضوع العام 2022 المرقمة بـ(CRC/C/ISL/CO/5-6 المؤرخة في 23 July 2022) والوثيقة (A/HRC/56/L.11/Rev.1/ المؤرخة في 8 July 2024) على أن البيئة الرقمية تشمل تكنولوجيا المعلومات والاتصالات بما في ذلك الشبكات الرقمية، والمحتوى، والخدمات، والتطبيقات، والأجهزة المتصلة، والبيئات والواقع الافتراضي المعزز، والذكاء الاصطناعي، والتقنيات الروبوتية، والنظم الآلية للتشغيل، والخوارزميات المتعلقة بتحليل البيانات، والاستدلال البيولوجي، وتكنولوجيا الشرائح الدقيقة، وكل ما تقدم مرشح ان يتعامل معه الطفل بشكل مباشر، وهدف الأمم المتحدة من وراء التوجيهات الصادرة عنها تحديد المحتوى الرقمي غير المناسب أو غير اللائق للفئة العمرية دون التاسعة عشر عاماً من العمر، فهنالك عدد غير محدود من المحتوى الرقمي على شبكة الانترنيت يمكن للأفراد الإطلاع عليه وقد يأخذ صورة معلومات يمكن تنزيلها أو التفاعل معها، أو توزيعها إلكترونياً أو إعادة نشرها، كالكتب الإلكترونية والرسومات والصور والبيانات، والمقاطع الصورية أو الصوتية وغيرها كثير جداً يصعب حصر صورها أو الإحاطة بها.
ومن نافلة القول ان الانترنيت وفر فرصة مؤاتيه لعالم أجمل ممكن ان يساعد الجميع بضمنهم الأطفال بفضل الابتكارات العظيمة التي سهلت الاتصال والتواصل بين الجميع، ومكنت من التفاعل مع الآخرين دون الاعتداد بالحواجز المادية أو الحدود الدولية، وفي الوقت الذي يمكن للمحتوى الرقمي ان يساهم في مساعدة الإحداث في التعلم والتطور والتفاعل الإنساني مع الآخرين، لكنه أيضاً يحمل مخاطر حقيقية لا يمكن إغفالها يمكن ان تتعلق بمحتوى غير لائق أو غير صحيح يتسبب بالضرر المادي أو النفسي للحدث، ومن صور تلك المخاطر:
1- المحتوى الهابط.
2- المحتوى الإجرامي، أو محتوى الخاص بالبالغين كأفلام الأكشن أو الرعب أو الخيال العلمي.
3- التطرف والحث على الكراهية.
4- التيارات الفكرية المنحرفة.
5- التنمر والتحرش بكل أشكاله لاسيما الالكتروني منها.
6- التشجيع على إيذاء الذات أو الآخرين كالتحريض على الانتحار.
7- المحتوى التربوي الخاطئ فيما يشاهد الطفل من أفلام أو مسلسلات أو حلقات تنقل له أفكار مغلوطة.
8- الاعتداء على الخصوصية واستغلال البيانات الشخصية.
9- التعرض لمحتوى من المعلومات غير المتكاملة كما في الدعاية التجارية.
كما تظهر المخاطر الإلكترونية على الطفل بصيغ فنية تتمثل في:
1- البرامج الخبيثة: وهي برامج مصممة لإلحاق الضرر بالأجهزة الرقمية كسرقة بياناتها أو السيطرة الخفية عليها للتجسس ومختلف الفايروسات الإلكترونية التي تضر بالطفل كونه كثير التعلق بتلك الأجهزة.
2- الإدمان: إذ يدمن الطفل على مشاهدة الرسوم المتحركة أو ألعاب الفيديو ما يتسبب بمشاكل أسرية ومدرسية كبيرة جداً لأولياء الأمور.
3- السلامة النفسية للطفل: فالتعرض للمواد المضرة الإباحية أو العنيفة يشكل خطر جدي يلحق أشد الضرر بسلامة الطفل النفسية.
4- السلامة الجسدية: الاستخدام المفرط للأجهزة الرقمية يمكن ان يلحق الضرر بصحة البصر، الدماغ، العمود الفقري، الإصابة بالسمنة، اضطرابات النوم، الإرهاق.
ومن هنا يبرز دور المشرع في دعم وتعزيز حق الطفل في السلامة الرقمية بوضع تشريعات عراقية من شأنها ان تدعم الحق المتقدم وتعززه وتمنع مصادرة حق الطفل من قبل الجهات التنفيذية أو الجهات الأخرى التي تسيء استخدام التكنولوجيا وما تقدم يتم وفق مبادئ محددة أهمها الآتي:
أولاً: عدم التمييز: ويعني ان تكفل الدولة للحدث الدخول الحر والآمن إلى الشبكات العالمية الرقمية لتعزيز الفائدة العلمية والأخلاقية باستحداث بوابات فلترة خاصة بالفئات العمرية تصنف بحسب العمر تمكن ذوي الحدث من الإشراف المباشر على المحتوى الرقمي الذي يتلقاه، بما يكفل المساواة التامة بين الجميع في الوصول الآمن والمتكافئ إلى العالم الرقمي، على ان يكون ما تقدم شراكة بين الجهات الرسمية المختصة بتتبع الجرائم الإلكترونية والأسرة واستحداث ورش ودورات تدريبية لأرباب وأمهات الأسر والصغار للتعرف على كيفية التعامل مع المخاطر وسبل الإبلاغ عن المخالفات والمحتويات غير التربوية الهادفة.
ثانياً: تقديم مصلحة الطفل الفضلى: وتعني تصميم بيئة رقمية هادفة للأحداث لاسيما في سن المراهقة على ان يؤخذ بنظر الاعتبار عند التصميم وتغذيتها بالمحتوى مصلحة الطفل وجعلها الفضلى أو العليا وبما يكفل حق الطفل في التماس المعلومات والحصول عليها ونقلها، ومنع المخاطر الإلكترونية من ان تحيق به ومعالجة أثارها ان تضرر منها وفق أسس تربوية علمية، وضمان الشفافية في التعامل مع البيئة الرقمية التي يتم استحداثها للأطفال وبما يلبي احتياجاتهم لاسيما السلوكية والوجدانية كالاهتمام الحذر بالعقائد والقيم الروحية التي يجب ان تكون خالية تماماً من الشوائب وتتفق مع دين وعقيدة وحرية الطفل.
ثالثاً: حق الطفل في الحياة والنمو والخصوصية: إن البيئة الرقمية تلعب دوراً حاسماً في حماية وتعزيز حق الطفل في الحياة والنمو والخصوصية لاسيما في أوقات الأزمات ويمكن ان توفر له متطلبات تتصل بالحياة الكريمة وترفع عن كاهله المخاطر التي يمكن ان يتعرض لها في الحياة الواقعية لذا ينبغي اتخاذ التدابير اللازمة لتكون هذه البيئة مؤاتيه بتنقيتها من المخاطر والأشخاص والهيئات التي تمثل خطراً على هذه الفئة من الناس.
رابعاً: احترام حق الطفل في حرية الرأي: وتعزيز وعيه بالمخاطر التي تحيق بهذا الحق المصيري الذي من شأن حمايته وتعزيزه ان يسهم في تنشئة طفل قادر على مواجهة المصاعب والإسهام الإيجابي في المستقبل في الشأن العام ويمنحه القدرة على إنشاء المحتوى الرقمي الهادف القادر على التغيير الإيجابي في وسطه وأسرته ومدرسته ومجتمعه، ولا يكون ما تقدم ان لم يؤخذ بنظر الاعتبار أهمية الاستماع لرأي الطفل والأخذ بنظر الاعتبار اهتماماته وميوله ومواهبه ومؤهلاته.
كما نرى أهمية ان تتحمل الشركات الراعية لوسائل التواصل والخدمات الرقمية المسؤولية القانونية والأخلاقية إزاء حقوق الطفل فتحرص على ان تخضع المواد التي يسمح له بمشاهدتها للمراجعة الصارمة، لمنع تعرض هذه الفئة البريئة لمناظر أو محتوى غير ملائم وان تأخذ بنظر الاعتبار الملاحظات التي يبديها أرباب الأسر ومسؤولي المدارس أو من سواهم من دوائر وهيئات عامة أو حقوقية لضمان وصول آمن للطفل إلى التكنولوجيا، ولعل ما تقدم لا يعدو كونه مجرد أمنيات إذ يبقى الأمر رهين تدخل السلطات العامة في البلد لتحويله إلى واقع بإلزام الشركات الداعمة للتطبيقات على ما تقدم فان خالفت تملك السلطات العامة الوسائل الناجعة التي تمكنها من إلزام تلك الكيانات التجارية بالامتثال إلى ما تقدم.
وعلى نحو ذي صلة تتعاظم مخاطر استغلال السلطات التنفيذية لهذه الآليات لتنقض على وسائل وتطبيقات التعبير عن الرأي ولذا يصعب في الكثير من الأحيان التوفيق بين كل ما تقدم، لذا ستبقى المبادرة الفردية من الأسر والمدرسة والجهات الاجتماعية والحقوقية هي المعول عليها كونها تهدف إلى الوصول الآمن الحقيقي للحدث إلى التكنولوجيا ولا تسعى إلى الهيمنة أو فرض القيود بقدر ما هي تهدف إلى الموازنة بين الحق في التعبير والوصول إلى المعلومة وبين واجب الحماية للحدث من مخاطر يصعب التنبؤ بحجمها أو بأشكالها ومظاهرها التي تتطور في كل يوم وتتخفى بالغالب خلف مظاهر جذابة تمثل فخاخاً توقع هذه الشرائح في براثن مكائدها.
لذا حددت لجنة حقوق الطفل (التابعة لمفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان) في التعليق العام رقم (25 للعام 2021)، بشأن حقوق الطفل والتقارير المرتبطة بتنفيذ اتفاقية الطفل للعام 1989 فيما يخص الحقوق المتصلة بالبيئة الرقمية ما يأتي:
1- حق الطفل في الوصول إلى المعلومة وتلقيها أو نقلها: وهذا الحق يضع واجباً على هيئة الإعلام والاتصالات في العراق وشبكة الإعلام العراقي ووزارة الاتصالات بضرورة وضع برامج تربوية وتعليمية وثقافية تخاطب الطفل بمختلف مراحل نموه على ان تكون معدة من قبل مختصين لا ان يترك الأمر لمجرد الفوضى الإعلامية التي نعيشها اليوم بظل وجود قنوات تلفزيونية ومواقع الكترونية تقدم محتوى يخالف الفطرة السليمة للإنسان، لذا ندعو إلى عقد مؤتمر وطني بين أصحاب القرار الرسمي وكل المنظمات الحقوقية العاملة في العراق وممثلين عن وزارة التربية والتعليم والصحة والعمل والشؤون الاجتماعية والوجهاء والمؤسسات الدينية لصياغة معايير وطنية للمحتوى العلمي والثقافي والتربوي الموجه للطفل في المدارس أو البيت أو مكان العمل على ان يتم الخروج بميثاق عمل وطني يتضمن التزم الجميع بتحقيق مخرجات المؤتمر وتفعيل مضامين المعايير المنوه عنها أعلاه.
2- حق الطفل في حرية التعبير عن الرأي: وننصح لمعالجة الأمر ان يتم إلزام الشركات المالكة أو التي تدير وسائل التواصل الاجتماعي والألعاب الإلكترونية في العراق بتفعيل خيار الرقابة الأبوية ليتمكن رب الأسرة من الإطلاع على ما ينشر من القاصر أو الصفحات والمواقع التي يتفقدها ليتمكن من تصويب خياراته ومعالجة الاختلال السلوكي بمساعدة المؤسسة المدرسية والجهات ذات العلاقة كوزارة الشباب والرياضة، فهنالك ثوابت يتحتم التقيد بها كالتزام الطفل باحترام الأديان والمذاهب وعدم الإساءة للآخرين لأي سبب كان وممارسته لحرية التعبير في ضوء التقيد التام بالقانون والنظام العام والآداب العامة وحقوق الغير.
3- حق الطفل في الترفيه واللعب: إذ تدعم البيئة الرقمية حق الأطفال في الترفيه واللعب، ويعد ما تقدم أمراً مهماً جداً لنمو الطفل نموا سليماً وهو ما أشارت إليه اتفاقية حقوق الطفل للعتم 1989 في المادة (31) بنصها على أن "تعترف الدول الأطراف بحق الطفل في الراحة وقت الفراغ ومزاولة الألعاب".
اضف تعليق