فلو طبقناها على الوضع الراهن مع ما هو متعارف عليه من مفاهيم إنسانية، وأيضا مع التنازل عن الحقوق الفردية والفئوية للمصالح العامة لتقلصت النزاعات والصراعات والعداوات في مختلف المجالات ولتحقق السلم الاجتماعي. ونموذج الغدير هو الرمز الأمثل حيث أنتج الصبر الطويل في قبال الحق المضيع، وفي...

كيف قرأ الامام علي (ع) فشل اساليب البطش والأمن الصلب في تحقيق السلم الإجتماعي؟ كيف يمكن للحكومات أن تبني الاستقامة الاجتماعية من خلال نهج الغدير؟

وردت فقرة في بداية عهد أمير المؤمنين عليه السلام إلى مالك الأشتر قال فيها عليه السلام: "ثم اعلم يا مالك أني قد وجهتك إلى بلاد قد جرت عليها دول قبلك من عدل وجور، وأن الناس ينظرون من أمورك في مثل ما كنت تنظر فيه من أمور الولاة قبلك، ويقولون فيك ما كنت تقول فيهم..".

من خلال هذه العبارات نستلهم أن أمير المؤمنين عليه السلام كان ينظر إلى الفترة الزمنية التي سبقته حين استلامه للأمر وهي التي طالت ربع قرن من الزمن بعد رحيل رسول الله صلى الله عليه وآله، كما أنه أوصى مالك الأشتر أن يلاحظ الفترات السابقة التي كانت تحكم على مصر قبل أن يشرع بالحكم، فيضع التجربة الماضية نصب عينيه ولا يكرر ما يدعو إلى السخط وأبرزها أساليب البطش والأمن.

وإضافة إلى ذلك كان هو عليه السلام أول من وضع عبرة التجارب الماضية نصب عينيه وقام بتصليح ما فسد من أمور.

وفي هذا الوادي يمكن ذكر بعض الأمثلة من سيرته العملية؛ فهو عليه السلام لم يجبر أحد على بيعته من رؤوس القوم كابن الخليفة الثاني، وذلك على عكس ما قام هو وصاحبه من شن الحروب التي تسمى بـ (الردة) وسبي النساء على كل من لم يدخل في طاعتهما. 

كما أنه واصل عطائه لمن أعلن معارضته ولم يمنعه من حقه الاجتماعي في إبداء (الرأي) وحتى غير (الرأي) من إساءة وإهانة وتجاوزات، ونموذج ذلك ما ورد في نهج البلاغة؛ أن أمير المؤمنين عليه السلام كان جالسا مع أصحابه، فمرَّت امرأة جميلة، فرمقها القوم بأبصارهم، فقال الإمام: "إنَّ هذه الفحول طوامح، وإنَّ ذلك سبب هبابها، فمن وَجَدَ منكم في نفسه شيئا فليلامس امرأته، فإنّما هي امرأة كامرأة"، فقال: أحد الخوارج ـ وهو يعبّر عن إعجابه بهذه الكلمة ـ: "قاتله الله كافرا ما أفقهه!"، فوثب إليه القوم ليقتلوه، فقال الإمام: "رويدا، إنّما هو سبّ بسبّ، أو عفو عن ذنب". وذلك بالرغم من أن القانون والعرف قد أعطته حق العقوبة.

ومثال آخر ما ورد أيضا في نهج البلاغة حول سبي بني ناجية؛ وهم البغاة المرتدون الذين شهروا السيف في وجه أمير المؤمنين عليه السلام وتحالفوا مع أعدائه وهو في ذروة دفع الإعتداءات الداخلية، وحينما هرب مصقلة بن هبيرة الشيباني إلى معاوية، وكان قد ابتاع سبى بني ناجية من عامل أمير المؤمنين عليه السلام وأعتقه، فلما طالبه بالمال خاس به وهرب إلى الشام، فقال: قبح الله مصقلة! فعل فعل السادة، وفر فرار العبيد.."، وحينما تمكن من بني ناجية أشار إليه بعض أصحابه أن يرد الأسرى في الرق، قال عليه السلام: "ليس ذلك في القضاء بحق، فقد أُعتقوا، إذ أعتقهم الذي اشتراهم.."، مع أنه سلام الله عليه لم يستلم المال المتعارف عليه آنذاك، والسلطة القضائية قد منحت له حق المعاقبة. على عكس ما قام به من كان قبله من قتل الذراري بذنب الآباء!

والكثير من النماذج التي لا يسع المقام لإيردها. فلو طبقناها على الوضع الراهن مع ما هو متعارف عليه من مفاهيم إنسانية، وأيضا مع التنازل عن الحقوق الفردية والفئوية للمصالح العامة لتقلصت النزاعات والصراعات والعداوات في مختلف المجالات ولتحقق السلم الاجتماعي.

ونموذج الغدير هو الرمز الأمثل حيث أنتج الصبر الطويل في قبال الحق المضيع، وفي نفس الوقت أثبت إمكانية الاستقامة والثبات على المبدأ رغم غلبة المناوئين لسنوات عجاف، ولذلك بقي هذا النهج خالدا بخلود التاريخ رغم محدودية الزمنية التي استغرقت حوالي أربعة أعوام من حكم صاحبه سلام الله عليه.

* مداخلة مقدمة الى الجلسة الحوارية التي عقدها مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث تحت عنوان: (الحكم الرشيد وسياسات الرحمة في نهج الغدير)

اضف تعليق