فإقرار الاقتراع العام يعد وبحق أهم وسيلة للحد من استبداد المجالس التمثيلة فهذا النظام يتيح للأفراد التعرف على المرشحين وبرامجهم وبالإطلاع على المشاكل الحقيقية للوطن يمكن الموازنة بين القوائم والمرشحين في ضوء خططهم وكفاءتهم لا بسبب انتماءهم أو أفكارهم، كما ان حياة البرلمان مؤقتة بمدة معينة والى جواره...
للديمقراطية معنى محدد يتمثل بحكم الشعب أو نظام الحكم المستند إلى الشعب، وهي نظام حكم مستند إلى فلسفة تتلخص بأهمية الاستناد للإرادة العامة بدل من اختزال نظام الحكم في شخص، أو حزب، أو فئة، بما يمنح قدراً من الحرية للرأي والتعبير والتنوع في الاتجاهات بعيداً عن الاملاءات.
وقد شهد التيار الديمقراطي تطورات وتاريخ حافل وتقلبات شديدة انتهت إلى تغلبه على بقية الأفكار الرجعية بشكل كبير في بداية القرن الماضي وبالتحديد بعد الحرب العالمية الأولى إذ انهارت الأنظمة الدكتاتورية في روسيا وألمانيا وتركيا والنمسا والمجر، واضطرت الدول العريقة بتبني المبدأ الديمقراطي إلى إحداث تعديلات جوهرية على أنظمتها القانونية والاجتماعية مثل الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا إذ انهارت أنظمة الفصل العنصري وتغلبت الأفكار الاجتماعية الأكثر قرباً للواقع وأعطيت النساء حريات أوسع وقدرة على الإسهام بالشأن العام، نعم لم تسر الأمور على نحو إيجابي وعادت الأنظمة الشمولية للحكم في العديد من الدول لا سيما ألمانيا وإيطاليا لتنهار بعد الحرب العالمية الثانية وتسود أنظمة حكم أقرب إلى المبدأ الديمقراطي.
ولابد من التنويه ان الديمقراطية تعد وبحق مذهب فلسفي ونظام للحكم، فالشعب مصدر السلطة وشرعيتها وان إرادته هي المعبر عنها بالسيادة، فلا تكون الأخيرة شرعية إلا ان انبثقت عن إرادة الشعب، وهي أيضاً توصف بنظام الحكم أي الحكم المستوحى من الإرادة العامة ويتميز بمراعاة الحقوق والحريات الفردية ويكفل ضماناتها الأساسية، بمعنى ان الديمقراطية تنسب السيادة للشعب ليمارسها بوضع القواعد القانونية الملزمة للجميع، وقد يمارس الشعب هذه السيادة بنفسه فتكون الديمقراطية مباشرة أو بواسطة نواب عنه فتكون الديمقراطية نيابية أو يتم المزج بين الصورتين لتكون الديمقراطية شبه مباشرة، وللحكم الديمقراطي مجموعة من الخصائص أهمها الآتي:
أولاً: تعد نظرية حكم سياسي يمتاز بالتكامل: فتركز القواعد القانونية التي ترسخ النظام الديمقراطي على ترسيخ الحريات السياسية، لذا بدى لخصوم الحكم الديمقراطي ان يعيبوا عليها أنها ذات أبعاد سياسية وليست اجتماعية، بمعنى ما الغاية من كفالة الحريات كالانتخاب والاستفتاء والترشح والشعب يعاني من الجوع والخوف والفقر والبطالة، فليس للديمقراطية ان تحقق الأمن الاجتماعي أو الاقتصادي، ولذا تعالت بعض الأصوات النشاز الداعية لنصرة بعض الأنظمة المستبدة كالأنظمة الشيوعية والاشتراكية بحجة أنها تتبنى الديمقراطية الاجتماعية بدل السياسية، بمعنى التركيز على سعادة الفرد اجتماعياً بتوفير أسباب العيش الكريم والعمل والمساواة في الأجر، بيد ان ما تقدم مصادرة على المطلوب فالنظام الديمقراطي الحقيقي يقوم على التطبيق الشامل على جميع المستويات الشعبية والاجتماعية والاقتصادية فيتم بذلك تحقيق المراد بعلو الإرادة العامة المشتركة وسيادتها.
ثانياً: تحقق الديمقراطية الحرية السياسية: بأن يسهم أكبر عدد من أفرا الشعب في اختيار الحكام فمن الثابت ان الديمقراطية كنظام حكم لم تنشأ إلا لمواجهة استبداد الحكام، وان أداة التداول السلمي للسلطة هي الانتخاب الذي من شأنه ان يفرز حكاماً يمارسون السلطة باسم ولمصلحة الشعب ويقوم الأخير بمراقبتهم وهو القادر على مساءلتهم لذا سيسهم الأفراد بشكل متزايد بالشأن العام.
ثالثاً: المبدأ الديمقراطي فردي: بمعنى إسهام الأفراد بالشأن العام وامتلاك أياً منهم جزءً من السيادة بلا أي تمييز بسبب انتماءهم أو وظائفهم أو مستوى تعليمهم أو قدراتهم المالية.
رابعاً: الديمقراطية شعبية بأصلها: بمعنى أنها مستندة لإرادة الشعب وتستمد أصولها وقوتها منهم فلو لم يقتنع الأفراد بها أو يطيعوها ويخضعوا لقواعدها طواعية سنكون إمام مقاومة شعبية من شأنها ان تنفي الشرعية عن النظام السياسي أو عمن يمارس السلطة، لذا يمكننا القول ان الأساس القانوني لوجود الحاكم هو رضا الشعب، الرضا الحقيقي المستند إلى القناعة الذاتية بلا أي إملاء أو إجبار.
خامساً: الانسجام بين الواقع والقانون: بمعنى ان الديمقراطية من شأنها ان تحقق التوافق بين القواعد القانونية والواقع كونها منبثقة من الشعب مباشرة وبموافقته أو من قبل ممثليه وهي تعبر عن حاجات حقيقية أو ضرورية لذا تجد القاعدة فاعليتها وتتبع من الأفراد طواعية ولا يضطر هؤلاء إلى مقاومتها كنوع من مقاومة طغيان السلطة ان تفردت بوضع القواعد القانونية بعيداً عن الإرادة الشعبية أو عن الحاجات الحقيقية للمجتمع البشري.
كما ان للمذهب الديمقراطي أنصار يؤيدونه ويرونه الأصلح فهنالك من انتقده وحدد بعض المآخذ التي تنسب إليه وسنعرض فيما يلي أهم الانتقادات التي وجهت للأنظمة المستندة لإرادة الشعب والرؤية المؤيدة لتلك الأنظمة مع مقارنتها بالحالة العراقية لتأصيلها استناداً للدستور.
1- الديمقراطية تمثل حكم الأقلية: لاسيما الديمقراطية النيابية التي تفرز مجلس نيابي تسند إليه وظيفة التشريع ورقابة السلطة التنفيذية ومن المتوقع ان لا يشترك جميع أفراد الشعب السياسي بالانتخابات، بل ان من يشتركون بالغالب تضيع أصواتهم بسبب نظام احتساب الأصوات في الانتخابات، والتي تبيح للأحزاب المهيمنة ان تتحكم بتوزيع المقاعد لتضمن حصولها على غالبية المقاعد النيابية وتشكل الحكومة فتكون مهيمنة على السلطتين التشريعية والتنفيذية وتضيع غالبية أصوات الشعب لا سيما المعارضين لتوجهات هذا الحزب.
ويمكن الرد على ما تقدم ان الرأي العام الواعي والفاعل من شأنه ان يمنع حصول الانحراف المشار إليه أنفا، فالانتخابات العامة فرصة حقيقية للشعب ليقدم رؤيته في محاسبة الحكام ومعارضة النواب الذين فشلوا في تمثيل الإرادة العامة، فالمبدأ الديمقراطي من شأنه ان يجعل الشعب هو المالك الحقيقي والوحيد للإرادة العامة (السيادة) وبواسطتها يمكن إصلاح الأوضاع، وفي العراق لا يمكن إثارة الملاحظات المتقدمة إذ يمكن حتى للأقليات الدينية والأثنية ان تساهم في الانتخابات وضمن لهم دستور 2005 مقاعد تمثل الحد الأدنى لتمثيلهم بما يسمى (الكوتا) التي شملت النساء بنسبة لا تقل عن الربع فقد ورد بالمادة (49) ما نصه "يستهدف قانون الانتخابات تحقيــق نسبــة تمثيـل للنساء لا تقل عن الربع من عدد أعضاء مجلس النواب" كما ان قانون انتخابات مجلس النواب رقم (9) لسنة 2020 كفل للمكونات أو الأقليات الدينية عدداً من المقاعد وهو ما أشارت إليه المادة (13)
2- الانتخاب كأداة الديمقراطية الأساسية يغيب دور التكنوقراط والكفاءات: إذ المعيار كم الأصوات لا نوعها، وعدد النواب لا نوعهم أو مدى قدراتهم أو كفاءتهم في التمثيل الحقيقي للإرادة الشعبية، بل ذهب البعض إلى القول ان الانتخابات لا تمييز بين العلماء وعامة الناس من البسطاء والكثير من هؤلاء ينظر إلى مصلحته الشخصية من منطلق فردي بعيد عن النظر في المصلحة العامة ومقوماتها.
ويرد على ما تقدم ان تغليب الكم على النوع لا يمس أصل النظام الديمقراطي كما يمكن تجاوزه بسيادة الوعي الشعبي ورفع مستويات التعليم وتكرار التجارب الديمقراطية وما تقدم من شأنه ان يصحح الخيارات الشعبية وتوجهها صوب الأشخاص الأكفأ والأفضل، ويشار إلى ان قوانين الانتخابات في العراق لاسيما التي أقرت مؤخراً رفعت من شرط الشهادة للمرشح ليكون حائزاً على شهادة البكالوريوس باستثناء كوتا المكونات، وهو ما أشارت إليه المادة (8) من قانون انتخابات مجلس النواب رقم (9) لسنة 2020 المعدل.
3- الديمقراطية تغلب الأيدلوجية على التقنية: بمعنى ان الوزراء والقادة ليسوا من المتخصصين بل من السياسيين، بعبارة أخرى يتم اختيار الوزراء من قادة الأحزاب المؤتلفة بتشكيل الحكومة وجلهم لا يملكون أدنى فكرة عن عمل الوزارة وأولوياتها وسبل النهوض بمهامها وتجاوز المعوقات التي تواجهها.
ومما يمكن قوله ان الاعتماد على الموظفين الأكفاء وانتقاء المدراء والوكلاء بعناية يمكن ان يمنح الوزارة القدرة على تجاوز هذه السلبية.
4- توزيع المسؤولية: بسبب ان القرار موزع بين الحكومة والبرلمان والهيئات المستقلة مما يعني تشتت الرقابة الشعبية واستحالة إعمالها في مراقبة الفشل ومؤاخذة الفاشل في التعبير عن تطلعات الشعب وتلبية احتياجاته وتحقيق المصلحة العامة.
يمكن الرد على ما تقدم ان وسائل الرقابة الشعبية قد تطورت وتنوعت بل ان المشرع العراقي كفل إشراك الرأي العام بالرقابة على أعمال الفئات المنتخبة في المجالس التمثيلية وان التقارير التي تنجزها الهيئات المستقلة من شأنها ان تنقل للرأي العام ليتمكن من متابعتها والتقصي عن أسباب الفشل أو الفساد ولنعط لما تقدم مثالا ورد بقانون المحافظات غي المنتظمة في إقليم رقم (21) لسنة 2008 بالمادة (7) التي تنص على ان من اختصاصات مجلس المحافظة "إعداد مشروع الموازنة، ... إعلان مشروع الموازنة العامة للمحافظة في وسائل الإعلام المقروءة والمرئية والمسموعة، وعقد الندوات والمؤتمرات لمشاركة مواطني المحافظة ومنظمات المجتمع المدني والوقوف على أرائهم"
5- تزايد عدد الأحزاب: وبالنتيجة يكون التنافس على أشده وتميل بعض الأحزاب إلى وسائل غير ديمقراطية لنيل رضا وثقة الناخب بل ان الكثير منهم يعمد إلى التضليل بصياغة برامج انتخابية غير واقعية.
والرد على ما تقدم ان النظام الحزبي نعم هو سلاح ذو حدين إلا ان مزايا التعددية الحزبية لا يمكن إحصائها إذ أنها تشكل رقابة فاعلة على الحكومة ودافعاً لحث الخطى في العمل والانجاز للبقاء في السباق الانتخابي أو على الأقل للمحافظة على المكاسب الانتخابية.
6- تؤدي الديمقراطية إلى استبداد البرلمان أو الحكومة: فيحل الاستبداد الدستوري بدل الفردي وهنالك دائما غطاء من شأنه تضليل الأفراد يتمثل بالادعاء بتمثيل إرادة الشعب أو الأمة.
ويمكن القول ان ما تقدم نسبي وليس مطلقاً فإقرار الاقتراع العام يعد وبحق أهم وسيلة للحد من استبداد المجالس التمثيلة فهذا النظام يتيح للأفراد التعرف على المرشحين وبرامجهم وبالإطلاع على المشاكل الحقيقية للوطن يمكن الموازنة بين القوائم والمرشحين في ضوء خططهم وكفاءتهم لا بسبب انتماءهم أو أفكارهم، كما ان حياة البرلمان مؤقتة بمدة معينة والى جواره الحكومة والقضاء والرقابة على عمل البرلمان حكومياً وقضائياً وشعبياً من شأنها الحد من المخاطر المتقدمة، ولذا أشار الدستور العراقي النافذ لذلك بالمادة (93) على ان من اختصاصات المحكمة الاتحادية العليا "الرقابة على دستورية القوانين والأنظمة النافذة"
7- الوسائل الديمقراطية لا تجدي في الظروف الاستثنائية: إذ تمر الدولة في أحيان بظروف استثنائية كما في أحوال التهديد أو التعرض لغارات عدائية أو أزمات اقتصادية أو اجتماعية أو ما سواها من شأنها ان تهدد السلم الاجتماعي والرأي المعارض للديمقراطية يثير ان الحكم الجماعي غير قادر على مواجهة مثل هذه الظروف التي تحتاج إلى قوة القرار والحزم في التعامل والسرعة في التصرف.
والقول المتقدم رغم وجاهته ظاهراً إلا انه غير صحيح واقعاً فقد تغلبت الدول التي تتبنى الديمقراطية ولو ظاهراً المتمثلة بأمريكا وبريطانيا على الدول الاستبدادية التي توصف أنظمتها بالقوة والحزم (إيطاليا، ألمانيا، اليابان) لذا يمكننا القول ان نظام الحكم الديمقراطي صالح للتطبيق بكل الظروف، إذ ترسم القواعد القانونية علاجاً للظروف الاستثنائية يمكن الدولة وأجهزتها التنفيذية من تجاوز الأزمة، وهو بالفعل ما أشار إليه الدستور العراقي النافذ لعام 2005 بالمادة (61/ تاسعاً) والتي تنص على ان من اختصاصات البرلمان العراقي "
1- الموافقة على إعلان الحرب وحالة الطوارئ بأغلبية الثلثين، بناءً على طلبٍ مشترك من رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء.
2- تعلن حالة الطوارئ لمدة ثلاثين يوماً قابلة للتمديد وبموافقةٍ عليها في كل مرة.
3- يخول رئيس مجلس الوزراء الصلاحيات اللازمة التي تمكنه من إدارة شؤون البلاد في أثناء مدة إعلان الحرب وحالة الطوارئ وتنظم هذه الصلاحيات بقانون بما لا يتعارض مع الدستور
4- يعرض رئيس مجلس الوزراء على مجلس النواب الإجراءات المتخذة والنتائج في إثناء مدة إعلان الحرب وحالة الطوارئ خلال خمسة عشر يوماً من انتهائها".
اضف تعليق