وجود مثل هذه المؤسسة الإسلامية (ديوان المظالم) في الوقت الحاضر يمكن أن يسهم إسهاما كبيرا في إنصاف المواطنين في الدولة، ويقف في وجه المسؤولين الظالمين والفاسدين والمغتصبين لحقوق الناس والمتعديين على حقوقهم. وللأسف يغفل الكثير من القادة والرؤساء في الدول ومنها الإسلامية متابعة المظالم التي تقع على الناس...

إن التعدي على حقوق الناس وحرياتهم، وإلحاق الأذى بهم وظلمهم هي من الأمور التي تتكرر في كل زمان ومكان، فأينما وجد الإنسان وجد معه التعدي والظلم على الحقوق والحريات. وقد يصدر الظلم عن أحد أفراد المجتمع تجاه فرد آخر أو مجموعة أفراد أخرى. أو يصدر عن مجموعة أفراد تجاه مجموعة أفراد آخرين، لأسباب اجتماعية أو مالية أو فكرية أو عرقية، أو دينية أو مذهبية أو غيرها. وفي جميع هذه النزاعات والخصومات الاجتماعية في الأغلب يكون القضاء هو الملجأ، وهو الحكم فيما شجر بين الناس، وهو الذي يفصل بينهم، فيأخذ الحق من الظالم ويرجعه إلى صاحبه على وفق القواعد القانونية المتفق عليها في كل مجتمع أو دولة. وهكذا تحل النزاعات والخصومات في المجتمعات كافة.

في قبال التعدي والظلم الذي يصدر عن الناس تجاه بعضهم بعضا، فان هناك تعدي وظلم أخر، قد يكون أشد من ظلم الناس لبعضهم، وهو تعدي وظلم المؤسسة الحكومية أو أحد رؤساءها أو أحد مسؤوليها أو أحد موظفيها على فرد من أفراد المجتمع، أو مجموعة من مجموعات المجتمع، سواء كانت لأسباب عرقية، أو دينية، أو مالية أو اجتماعية. وقد لا يستطيع القضاء أن يفصل بالعدل والإنصاف بين هؤلاء المتخاصمين.

فالمشتكي هو إنسان عادي، والمشكو منه هو صاحب سلطان وقرار، وهو يمتلك من الجاه والنفوذ والمال ما يمكنه من التأثير على القضاء أو حرفه عن مسيرته في تحقيق العدل بين المتخاصمين، بل لا يجرؤ القضاء في كثير من الأحيان من النظر في مثل هذه الخصومات خاصة إذا كان المشكو منه هو الحاكم أو أحد أفراد أسرته، أو أحد الرؤساء والقادة المتنفذين في المجتمع، خشية أن يلحق المؤسسة القضائية أو القضاة ضرر بالغ من جراء إحقاق الحق وإنصاف المظلوم.

ولم تكن الدولة الإسلامية بمنأى عن هذا النوع من الظلم والتعدي على حقوق الناس وحرياتهم، فقد دون التاريخ الإسلامي العديد من التعديات والمظالم التي تسببها بها رؤساء الدولة الإسلامية أو قادتها أو عمالها أو رجالها، من المتصرفين باسمها أو من أبناءهم وأقرباءهم، أومن المحسوبين عليها، فكان لزاما -من منطق أن الإسلام دين عدل وإنصاف- أن يجتهد رئيس الدولة أو رجالها العدول في إيجاد حل لهذه المشكلة، ومساءلة مسؤولي الدولة موظفيها، ورد الحقوق لأهلها.

والسؤال هنا، ما هو الموقف النظري للإسلام من الظلم والتعدي على حقوق الناس وحرياتهم، لاسيما ظلم الحاكم وأتباعه لرعيته؟ وماهي الآليات التي وجدها الحاكم الإسلامي العادل للتصدي لهذا النوع من الظلم؟ وما هي وظيفة (ديوان المظالم) ومدى أهميته في الحال الحاضر في تحقق العدل والقسط بين الحاكمين وذويهم من جهة وبين عموم الناس من جهة ثانية؟

لا شك أن الظلم والتعدي على حقوق الآخرين من المسائل التي ينكرها العقل، وهي قبيحة لذاتها، ولا يمكن أن يرتكبها عاقل. وقد جاء الشرع مؤيدا وناصرا للعقل. إذ حرم الله تعالى الظلم على نفسه فقال: (وأن الله ليس بظلام للعبيد) أي لا يجور أن يظلم أحدا من خلقه، بل هو الحكم العدل. وقد جاء في الحديث القدسي أن رسول الله، صلى الله عليه واله وسلم، قال: قال الله تعالى: (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا… يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه).

من هذا المنطلق؛ فإن من إحدى الوظائف المهمة للأنبياء (ع) هو إقامة العدل والقسط، وإزالة أي نوع من الظلم والاضطهاد، وقد أشار الله سبحانه إلى هذه الحقيقة، بقوله جل وعلا: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط) وقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله) وهكذا كانت حكومة رسول الله (ص) والإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع) فقد جاء عنه أنه قال: (والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها واسترق لي قطانها مذعنة بأملاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها شعيرة ما فعلته وإن دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة تقضمها).

وإذا ما كان الظلم والحيف لا يصدر عن الأنبياء كونهم رسل الله، حيث لا يجور أن يصدر عنهم ظلم، بل أنهم مبعوثون من الله لإقامة العدل بين الناس إلا أن أتباعهم يمكن أن يصدر الظلم عنهم تجاه بعضهم، ويمكن أن يصدر الظلم والتعدي من أتباعهم المقربين بقصد أو دون قصد، ويمكن أن يصدر الظلم من القادة والزعماء والرؤساء والولاة والمحاسبين الذين عينهم النبي أو الخليفة أو الإمام.

وهذا ما حصل ويحصل في المجتمع الإسلامي، مما أستوجب من النبي (ص) ومن الخلفاء والأئمة من بعده، أن يتولوا الفصل بأنفسهم بين هؤلاء المقربين والمنصبين من قبلهم لإدارة شؤون الأمة، وبين الناس العاديين الذين تضرروا أو ظلموا جراء قيام هؤلاء الولاة بأعمالهم المخولين بها. ومع تزايد الخصومات بين الولاة والقادة من جهة، وبين الناس العادين تشكل ما يُعرف في الإسلام بـ(ديوان المظالم)

والمظالم في اللغة هي: جمع مظلمة، مصدر ظلم يظلم، وهو اسم: لما أخذ بغير حق، والظلم وضع الشيء في غير موضعه الشرعي. والمظالم في الاصطلاح، يدل على الظلم، وتعدي كبار أصحاب النفوذ في المجتمع أو الولاة أو الجباة أو الحكام، على أفراد الشعب. وعرف أبن خلدون (ديوان المظالم) بأنه (النظر في المظالم وظيفة ممتزجة من سطوة السلطة ونصفه القضاء وتحتاج إلى علو يد وعظيم رهبة تقمع الظالم من الخصمين وتزجر المعتدي، وكأنه يمضي ما عجز القضاة على إمضاءه)، ومن مهمات ديوان المظالم النظر في الشكاوى التي يرفعها أفراد الرعية ضد الولاة والحكام وكتاب الدواوين وجباة الضرائب، وإنزال العقوبات بمن تثبت أدانته. وتنفيذ ما وقف من أحكام القضاة لأن والي المظالم أقوى نفوذاً وسلطة منهم. والنظر في تظلم الجند خاصة المرتزقة منهم إذا نقصت أرزاقهم أو تأخر دفعها.

وقد اختلف الفقه في تحديد طبيعة ديوان المظالم، فهناك من اعتبره وظيفة قضائية، ومنهم من اعتبره وظيفة غير قضائية، بينما البعض اعتبره قضاء إداري، والبعض الآخر اعتبره قضاء من نوع خاص. ويرى الماوردي في كتابه الأحكام السلطانية أن هناك فرقا بين وظيفة القضاء ووظيفة المظالم والفرق هو (1. لناظر المظالم من فضل الهيبة وقوة ما ليس للقضاة.2. الناظر في المظالم أفسح مجالا وأوسع مقالا.3. يستعمل من فضل الإرهاب وكشف الأسباب والإمارات الدالة ما يضيق على الحكام، فيصل به إلى ظهور الحق ومعرفة المبطل من الحق.4. أن يقابل من ظهر ظلمه بالتأديب، ويأخذ من بان عدوانه بالتقويم والتهذيب.5. إذا سأله أحد الخصمين فصل الحكم، فلا يسوغ أن يؤخر الحاكم، ويسوغ أن يؤخره والي المظالم عند اشتباه أمرها ورغبته في التأني.6. له رد الخصوم إذا أعضلوا وساطة الأمناء ليفصلوا التنازع بينهم صلحا عن تراض وليس للقاضي ذلك إلا عن رضى الخصمين بالرد.7. أن يفسح المجال في ملازمة الخصمين إذا وضحت أمارات الجاحد، ويأذن في إلزام الكفالة فيما يسوغ فيه التكفل لينقاد الخصوم إلى التناصف ويعدلوا عن التجاحد والتكاذب.).

ورغم أن بعض المؤرخين يرجع تأسيس ديوان المظالم بشكله الأولي إلى عهد الرسول (ص) حيث كان الرسول (ص) يسمع شكاوى الرعية ويحكم فيما بينهم إلا أن جميع المؤرخين يوعزون تأسيس ديوان المظالم كمؤسسة إسلامية تناط بها مهمة النظر في الخصومات والنزاعات التي تنشأ بين كبار قادة الدولة وبين المسلمين العاديين إلى الإمام علي بن أبي طالب(ع) فقد قام بتأسيس ديوان المظالم ليقف بوجه تجاوزات وغارات عمال الخليفة الثالث، وليسترجع منهم ما أخذوه من حقوق الناس. فكان الغرض من إنشاء هذا الديوان هو التصدي لتعدي أصحاب النفوذ والجاه.

لذا تنبه الإمام علي (ع) في حكومته إلى أهمية وجود مؤسسة حكومية ترعى مظالم الناس وتؤمن لهم جزء من العدالة والإنصاف، ويعد الإمام علي (ع) أول من أسّس ديوان متابعة المظالم لرفع الظلم المتسلّط على رقاب المستضعفين وإعطائهم حقوقهم. وهدف ديوان المظالم الذي أسّسه الإمام علي (عليه السلام) هو النظر في الشكاوى التي يرفعها المواطنون ضدّ الولاة والحكّام إذا انحرفوا عن طريق الحقّ وجاروا على الرعية، وسلبوا حقوقهم المادّية والمعنوية وتنفيذ الأحكام الصادرة عن القضاة والمحتسبين، لأنّ والي المظالم أقوى يداً وأنفذ أمراً من غيرهم ومحاسبة العمّال وغيرهم من كبار الموظّفين إذا شذّوا في سلوكهم، ولم يؤدّوا واجباتهم.

وفي التعاليم والقوانين الإدارية في حكومة أمير المؤمنين (ع) نصوص يمكن أن نعتبرها الأسس الفقهية والإدارية للنظام القضائي والمظالم، ومن جملتها هذا النص الذي كتبه الإمام علي (ع) أيام خلافته لعماله: (فإني قد سيرت جنوداً هي مارة بكم إن شاء الله، وقد أوصيتهم بما يحب الله عليهم من كف الأذى، وصرف الشذى، وأنا أبرأ إليكم وإلى ذمتكم من معرة الجيش، إلا من جوعة المضطر لا يجد عنها مذهباً إلى شبعه، فنكلوا من تناول منهم شيئاً ظلما عن ظلمهم… وأنا من بين أظهر الجيش، فارفعوا إلى مظالمكم وما عراكم مما يغلبكم من أمرهم، ولا تطيقون دفعه إلا بالله ربي، فأنا أغيره بمعونة الله، إن شاء الله).

وفي مكان آخر يقول (ع): (واجعل لذوي الحاجات منك قسماً تفرغ لهم فيه شخصك، ولا تجلس لهم مجلساً عاماً، فتتواضع فيه لله الذي خلقك، وتقعد عنهم جندك وأعوانك من أحراسك وشرطك حتى يكلمك متكلميهم غير متتعتع) وكذلك جاء في عهده (ع): (ثم إن للوالي خاصة وبطانة فيهم استئثار وتطاول وقلة إنصاف في معاملة، فاحسم مادة أولئك بقطع أسباب تلك الأحوال، ولا تقطعن لأحدٍ من حاشيتك وحامتك قطيعة، ولا يطمعن منك في اعتقاد عقدة تضر بمن يليها من الناس في شرب أو عمل مشترك).

ولا شك أن وجود مثل هذه المؤسسة الإسلامية (ديوان المظالم) في الوقت الحاضر يمكن أن يسهم إسهاما كبيرا في إنصاف المواطنين في الدولة، ويقف في وجه المسؤولين الظالمين والفاسدين والمغتصبين لحقوق الناس والمتعديين على حقوقهم. وللأسف يغفل الكثير من القادة والرؤساء في الدول ومنها الإسلامية متابعة المظالم التي تقع على الناس من مؤسسات الدولة أو من قادتها أو من أجهزتها الأمنية، والاعتداء على الناس أو أموالهم، دون وجه حق.

فالناس عادة ما يكونون بحاجة إلى الوصول إلى الرئيس أو القائد أو من ينوب عنه لينظر فيما أخذته هذه المؤسسة الحكومية من إجراءات تعسفية بحق المواطنين، أو فيما تصرف هذا المسؤول أو ذلك الموظف من تصرف شخصي في الاعتداء على حقوق المواطنين مستغلا منصبه أو وظيفته في إحدى المؤسسات الحكومية المدنية أو العسكرية أو الأمنية. فإذا لم يجد المواطنون من يذهبون إليه للشكوى من الظلمة زادت المظالم، واتسعت الهوة بين السلطة وبين الشعب، وقد يصل الأمر إلى أن يثور الناس ضد الحكومة وولاتها وموظفيها، ويحصل القتل والجرح والنهب والسلب، فتخسر الحكومة مكانتها بين الناس، ويفقد الناس الأمن والاستقرار.

وخلاصة ما تقدم يمكن القول:

1. إن مؤسسة (ديوان المظالم) هي من أقدم مؤسسات الدولة الإسلامية، التي تنظر في المظالم التي يرتكبها رجال الدولة تجاه أفراد المجتمع العاديين. وهي من أهم المؤسسات الإسلامية التي حققت نوعا من العدل والإنصاف في العلاقة ما بين الحاكمين والمحكومين.

2. إن مؤسسة (ديون المظالم) هي ليست مؤسسة قضائية يتولاها قاض مختص، ولا هي مؤسسة إدارية يتولى مدير خبر الإدارة، بل هي مؤسسة تجمع بين إجراءات القضاء وإجراءات الإدارة.

3. إن مؤسسة (ديوان المظالم) هي مؤسسة يقودها الرجل الأول في الدولة الإسلامية، أو يشرف عليها مباشرة، أو يسند إدارتها إلى أناس خبرهم الحاكم، ووثق في قدراتهم الإدارة، ويعمل على إسناد قراراتهم ودعهم ولو كانت ستؤدي إلى الإطاحة بعض قادة الدولة الكبار.

4. يغلب على عمل والي المظالم النظر في أعمال الولاة ورجال الدولة في تعاملهم مع عامة الناس لأنهم الطرف الأقوى، وليس هذا قاصرا على الظلامات الشخصية التي تكون من الوالي إزاء أحد الرعية، ولكن أيضا في حالة ما إذا تجاوز الوالي الأحكام والأنظمة المرعية وانتقل إلى بدل منها بغير مسوغ مقبول، فإن على والي المظالم أن يرده عن ذلك ويبطل تصرفه بحيث لا يترتب عليه أثر، وذلك أن الأمير أو الوالي ليس مطلق التصرف فيما يأتي ويذر بل عليه أن يتقيد بأحكام الشريعة ويخضع لها،

5. فما أحوج دولتنا إلى وجود مثل هذه المؤسسة التي يمكن أن تسند إلى أنزه المسؤولين وقواهم، وأكثرهم قدرة على إنصاف الناس المظلومين ومساءلة المسؤولين الذين تجاوزا حددوهم الوظيفية والقانونية لاسيما أننا نعيش في دولة تدعي أنها تستلهم مبادئها من مبادئ الإمام علي (ع) وفي دولة تدعي أنها تطبق حقوق الإنسان.

....................................................
** مركز آدم للدفاع عن الحقوق والحريات/2009-Ⓒ2023
هو أحد منظمات المجتمع المدني المستقلة غير الربحية مهمته الدفاع عن الحقوق والحريات في مختلف دول العالم، تحت شعار (ولقد كرمنا بني آدم) بغض النظر عن اللون أو الجنس أو الدين أو المذهب. ويسعى من أجل تحقيق هدفه الى نشر الوعي والثقافة الحقوقية في المجتمع وتقديم المشورة والدعم القانوني، والتشجيع على استعمال الحقوق والحريات بواسطة الطرق السلمية، كما يقوم برصد الانتهاكات والخروقات التي يتعرض لها الأشخاص والجماعات، ويدعو الحكومات ذات العلاقة إلى تطبيق معايير حقوق الإنسان في مختلف الاتجاهات...
http://ademrights.org
ademrights@gmail.com
https://twitter.com/ademrights

اضف تعليق