ثلاثة احداث متزامنة في يوم واحد، واحد اوربي واثنان عراقيان. رغم اختلاف الجغرافيا الا ان الدين والسياسة توحد بين هذه الاحداث.
الحدث الاوربي هو الذكرى العشرون لمجزرة سريبرينيتسا التي ارتكبها الصرب الارثوذكس بحق المسلمين في البوسنة، ايام الاقتتال الاهلي بين المكونات الثلاث (المسلمين – الصرب الكروات) هل من وجه للتطابق بين المكونات العراقية الكبرى (الشيعة – السنة – الاكراد؟) وصراعها الدائم والذي اتخذ اشكالا متعددة لعل اقصى تمظهراتها واقساها هي جريمة سبايكر؟
المكونات الاثنية والدينية في البوسنة (تعيش دون أن تتعايش) والقادة السياسيون لم يتخلوا عن الاهداف التي رفعوها خلال فترة الحرب. وفق سركو لاتال مدير مجموعة سوشال اوفرفيو سرفيس للدراسات. ويضيف أن هذه الاهداف تتنوع بين (المركزية التي ينادي بها المسلمون، وانشقاق الصرب واقامة كيان كرواتي).
ويسهم رجال السياسة في تعميق الخلافات بين هذه المجموعات الثلاث في المناسبات العامة، مثل احياء ذكرى مجزرة سريبرينيتسا في شرق البلاد.
فالمسلمون يريدون أن يعترف الصرب بارتكاب ابادة، وهو الوصف الذي استخدمته العدالة الدولية لوصف المجزرة، لكن الصرب يرفضون ذلك.
الزعيم السياسي لصرب البوسنة ميلوراد دوديك يصرح (انها كذبة تتكرر. يقولون لنا عليكم ألا تنكروا ذلك، كيف لا ننكر كذبة؟).
وتقول المحللة تانيا توبيتش انه بعد عشرين سنة من النزاع لا يزال زعماء المجموعات الثلاث عاجزين عن الاتفاق على (أي قضية تخص الصالح العام مهما صغرت). وتضيف أن القوميين منهم (يلجؤون الى سياسات انعزالية ويعملون باستمرار على اثارة التوتر (...) لرص الصفوف) داخل مجموعاتهم.
وتتابع توبيتش (لقد قسموا البلاد الى مناطق أثنية وذات مصالح حيث يسيطرون تمامًا على تدفق الأموال، وحيث أصبح زعماء القبائل الاثنية يتحكمون بكل شاردة وواردة).
هل من وجه للشبه بين ماحدث في تلك المجزرة البوسنية وماحدث في سبايكر، وما يحدث على صعيد السياسيين؟
الحدثان العراقيان، احدهما يتعلق بانعقاد المحكمة الجنائية المركزية لمحاكمة عدد من المتهمين بمجزرة سبايكر، والثاني هو البيان الذي أصدره تحالف القوى العراقية السنية الذي اعرب فيه عن قلقه بشأن التلويح باعتماد سياسة الارض المحروقة خلال عمليات تحرير المدن التي يحتلها تنظيم داعش، مشددا على ان الحلول الأمنية والعسكرية لايمكن ان تكون فاعلة دون ان تمر عبر بوابة الحلول السياسية وتبني منهج إصلاحات حقيقية قادر على طمأنة ابناء المحافظات المحتلة واعادة تجسير العلاقة بين السكان والحكومة الاتحادية في بغداد وانهاء مساحة الشعور بالمظلومية التي استطاع ان ينفذ من خلالها تنظيم داعش الارهابي على حد تعبير البيان. مع التلويح بالانسحاب من البرلمان والحكومة. توقيت اصدار هذا البيان هل يكون للتغطية على المحاكمة؟ وهل هو هروب من الاعتراف بهذه المجزرة، او انها لم تحدث أصلا الا في الفضاء الافتراضي؟ مجرد تساؤل.
حتى الآن تم تسليم 49 جثمانًا من ضحايا سبايكر الى ذويهم بعد التعرف على جثثهم رسميًا اثر اجراء فحوصات مطابقة الحمض النووي، فيما اسفرت عمليات فتح القبور في المقابر الجماعية عن رفع رفات 700 ضحية حتى الان. من اصل ما بين 2000 و2200 طالب في القوة الجوية العراقية تم اقتيادهم إلى القصور الرئاسية في تكريت وتناوب عناصر التنظيم وعدد من ابناء المنطقة على قتلهم هناك وفي مناطق أخرى رمياً بالرصاص ودفنوا بعضًا منهم وهم أحياء.
مجزرة سريبرينيتسا ولدى البحث عما كتب عنها في الشبكة العنكبوتية، تجد الكثير من الشهادات والاستذكارات على السنة الناجين، على العكس من مجزرة سبايكر التي اكتفت الشبكة العنكبوتية بتوثيقها عبر مقاطع اليوتيوب، مع شهادات تحريرية قليلة، والفرق شاسع بين التوثيقين بعد أجيال وعقود وقرون. فما لم يدون لم يحدث.
انتقل الان الى نقل عدد من الشهادات للحدث الأوربي، على لسان اباء وامهات، لازالت عيونهم ترقب عتبة الدار لعل ظلا يحجب دخول ضوء الشمس الى باحة تلك الدار، ويكون ابنا او زوجا او اخا. وهي شهادات من المؤكد انها لسان حال العديد من الآباء والامهات العراقيات، وهن ينتظرن نفس الظل الذي يمرق كالخيال الى الداخل.
(ظللنا نسأل أنفسنا طيلة هذه السنوات ما الذنب الذي اقترفه هؤلاء في تلك الأيام الكالحة ومع من؟).
(كنت آمل العثور على كل عظامه، ساقيه وذراعيه وجمجمته، تصور كيف تشعر أم يقال لها إنها ستدفن فقط قطعتين من عظام ابنها).
(لو اني اجد فقط عظمة واحدة من ابني حتى ادفنه واعرف اخيرا مكان قبره واضع حدا لهذا الكابوس المستمر منذ 11 تموز/يوليو 1995).
(لقد استدار نحوي خمس مرات ليقول لي : لن اراك بعد اليوم، قبل ان يتوجه نحو الجبال).
(اخشى الا يتم العثور عليهما في حياتي، فانا اعيش يوميا في انتظار ان يتصل بي احد).
(اشعر اني ما زلت اشم رائحته وهو طفل.).
(في احد الايام اتصل بي الاطباء الشرعيون ليخبروني انه تم العثور على جمجمة وجزء من رجل ابني الاكبر، لكن هذا لا يكفي لإقامة جنازة. اما ابني الاصغر مسعود فلم يظهر عنه شيء).
(وضعنا اولادنا بصحة جيدة والآن ندفن اجزاء صغيرة منهم).
(تم العثور على اربع عظمات من ابني الذي كان عمره 19 سنة في اربعة قبور جماعية مختلفة).
(لقد اختفوا من حياتي كالرماد يحمله الريح. اشعر دائما بأيديهما على كتفي عندما قالا لي: الى اللقاء امي).
(أشارك كل سنة في هذه المسيرة لكي لا يصبح ما عشناه في طي النسيان. على كل ناج أن يتذكر ما عاشه هنا. على العالم أجمع ألا ينسى بأن إبادة ارتكبت هنا).
(أصعب لحظة كانت تلك التي رأيت فيها والدي وشقيقي وأفرادا آخرين من أسرتي لآخر مرة. كانت لحظة وداع لأني لم أرهم بعد ذلك).
(كان الامر فظيعا. كان هناك قتلى ودماء في كل مكان. رأيت جيرانا واصدقاء وافرادا من اسرتي لكن لم نكن نستطيع مساعدتهم. كافح الجميع لإنقاذ حياتهم. حتى ان البعض تركوا اولادهم وراءهم).
(ان مسيرة الذكرى العشرين ستكون سهلة جسديا لكن صعبة جدا معنويا).
(الخيانة أوصلتنا على طبق من ذهب الى المسلحين ونحن عزّل من دون الدفاع عن انفسنا).
(سيارات عسكرية نقلتنا من داخل قاعدة "سبايكر"، وأنزلتنا على مقربة من الطريق السريعة الرابطة بين الموصل وتكريت، فسبقت وعدداً من الجنود الآخرين، وركبنا سيارات اجرة كانت تنتظرنا على الشارع العام، لم نكن نعلم وقتها أن سائقيها قد اتفقوا مع مسلحي (داعش) على تسليمنا اليهم، وانطلقت بنا السيارة وبعد مسافة وصلنا الى نقطة تفتيش يقف فيها مسلحون بعضهم يرتدي الزي الأفغاني وآخرون ملثمون بزي عربي، طلبوا منّا الترجل من السيارة، واقتادونا الى جانب الطريق وطلبوا منا النوم على وجوهنا، وعدم الكلام بأي شيء، وقتلوا جندياً كان بجواري مباشرة لأنه تحدث اليهم وأشار بيديه، فملأ دمه ملابسي).
(الوضع كان محموماً ومربكاً وهستيرياً، فأيقنت أن الموت قادم لا محالة، وأخذت اتشهد عندما احسست بالمسلحين يقومون بتفتيشي والآخرين بحثاً عن الاوراق الثبوتية او الهواتف النقالة). (المسلحون قيدونا وعصبوا أعيننا وأركبونا في سيارات حكومية، وبعد برهة توقفت السيارات وطلبوا منا الترجل منها، وبدأوا يضربوننا بأعقاب البنادق، الى ان ادخلونا في أحد القصور الرئاسية، ووضعونا فوق بعضنا في غرفة كانت ضيقة لكثرة من فيها من الأسرى، وبعد نحو ساعة أزاحوا العصابة عن عيوننا).
"المسلحون أخذوا يحققون معنا ان كنا في الجيش ومن يحمل منا رتبة عسكرية، وقاموا بأخذ من يعترف بذلك الى خارج الغرفة، لم نكن نعرف ما كان يحدث لهم، لكن كل ما خرجت مجموعة كنا نسمع بعدها أصوات الرصاص واطلاقات البنادق).
(دخل مسلح علينا وسألنا، من منكم شيعي (رافضي)، فليجلس مكانه والسني يرفع يده، فرفعت يدي مع الأسرى السنة، واقتادوا الشيعة الى خارج الغرفة التي كنا فيها ولم نعرف أو نسمع شيئا عنهم، سوى صوت الرصاص).
(المسلحين بدأوا يأخذون من كانوا معي في الغرفة منفردين للتحقيق معهم والتأكد من انتمائهم، وكان بعضهم يعادون الينا وهم مبرحون ضرباً وتعذيباً وبالكاد يتنفسون، فيما ذهب البعض الآخر ولم يرجع لأنهم كشفوا حقيقة انتمائه المذهبي، استمر الوضع على هذا الحال لأربعة أيام، كنا نعيش خلالها على ما يطعمنا به المسلحون، من نصف بسكوتة وشربة ماء لمرتين فقط في كل يوم لنبقى أحياء لا أكثر، مع شدة التعذيب الذي كنا نتعرض له).
(لم يكن احد منا يثق بالحديث الى من يجلس بقربه ليعرف ما حدث معه او ما سأل عنه في التحقيق، بخاصة بعد أن أعترف البعض على آخرين معنا لأنهم جنود وأنكروا، أو لأنهم شيعة وأدعو بأنهم من السنة، وتم اقتيادهم من الغرفة التي كنا فيها الى مكان آخر، لكن صوت اطلاق الرصاص والتكبير دلالة على نهاية مصيرهم وما حل بهم، واستمر الوضع على ذلك حتى تم نقلنا الى مكان آخر في رابع الايام).
(جمعنا المسلحون في قاعة كبيرة، يقتادون كل منا منفرداً أمام محكمة شرعية يترأسها قاضٍ شرعي ومدّعي ومحام يقف خلفهم سياف، وما أن دخلت عليهم اخبرني أحدهم أن أسماءنا موجودة في الحاسبة التي كانت بوحدتي ولن ينفع الكذب أو الادعاء، لأنهم يعرفون كل شيء عنا، وبدأ القاضي يسألني، من انا ومن أي عشيرة ومدينة أو مذهب، فأجبته أني من عشيرة الجبور في منطقة عرب جبور بمدينة الدورة، وأني سني، فطلب مني رفع الآذان للصلاة، فنفذت ذلك كما يفعل اخوتنا السنة).
(أحدهم كان يحمل خرطوم ماء، فطلب مني الوضوء بعد ذلك، فبدأت بمراحل الوضوء فأخطأت بتثبيت القدمين ومسح الرأس، وما أن رفعت رأسي حتى بدأ الجميع يضربني بأعمدة من حديد وخشب، الى أن أحسست بتكسر أضلاعي اليمنى، فصرخ بي الحاكم لما كذبت علينا وأنت شيعي (رافضي)، فأجبته لست شيعيا بل أنا سني، لكني أميّ لا اعرف القراءة والكتابة، ووالدي متوفي ولم يعلمني أحد الصلاة، فطلب منهم الكف عن ضربي ووضعي مع الاسرى السنة).
(في القصر قاعتان واحدة للشيعة وأخرى للسنّة، فوضعت مع أسرى السنّة، وفي خامس الأيام جاء لنا أحد المسلحين مستبشراً بعفو "خليفة المسلمين أبو بكر البغدادي"، عن الأسرى السنّة).
اضف تعليق