مقبرة ومسجد البقيع أحد هذه الأماكن الآثارية التي توارثها المسلمون، وتعد جزءً من الإرث الثقافي الإنساني والإسلامي فهي جزء من ذاكرة الشعوب المسلمة ومعبر عن هويتها الدينية والتاريخية، وأحد روافد حاضرها فليست هي مجرد أثر مادي تكون عبر الزمن بل هي ذاكرة حية تختزن تراثاً مادياً...
لكل مجتمع موروثاته الثقافية التي تكونت على مر العصور والتي تعد بحقيقتها قيم إنسانية كامنة في النفس وان تجسدت بشكل أبنية أو منحوتات أثرية معينة أو ممارسات وعقائد أو غيرها، فالموروث الثقافي هو "ميراث إنساني مادي أو غير مادي يختص بظاهرة بزمان ومكان محدد وشعب معين وفي حقيقته يتصل بالإنسانية جمعاء" كونه يختصر حقبة زمنية معينة ويمثل هبة للأجيال القادمة لتتعرف على الثقافات التي سبقتهم زمانياً.
ويصنف التراث إلى مادي يتمثل بالمباني والعمارة والقطع الآثارية والتحف وغيرها، وغير المادي المتمثل بالتقاليد الموروثة من الأسلاف والفنون وأساليب التعايش مع فصول السنة والشعائر الدينية والممارسات الجماعية أياً كان طابعها سواء ديني أو اجتماعي، ويشمل ما تقدم حتى المهارات المستعملة في إنتاج بعض الصناعات والحرف اليدوية وغيرها، فلهذه الموروثات عظيم القيمة المعنوية لدى شريحة من البشر ينبغي احترامها من الجميع ولو أختلف معها الآخر حيث تتمثل أهميتها بالآتي:
1- القيمة التاريخية: حيث تحكي هذه الموروثات حقب زمنية ماضية تمتد لألاف السنين وتكون شاهدا على ما تم إنجازه في الماضي.
2- القيمة الجمالية: فهي تمثل قيمة معمارية أو تأسيسية إبداعية توضح ما انتهت إليه أذواق الماضين وتشهد على مقدار تطور العلوم والعمارة أو سمو العقول والتفكير الإبداعي.
3- القيمة الموضوعية: وتتمثل بالأهمية الإجمالية للموروث الثقافي وتنعكس بصيغة قيم فرعية تتمثل في الآتي:
أ- الأهمية الاقتصادية: والتي تنعكس إيجاباً على من يرث التراث الإنساني ويمكن توظيف الأماكن أو المواسم لتحقيق مداخيل للأفراد.
ب- الأهمية المجتمعية والأسرية: حيث يتوارث الأبناء ثقافة الأباء وتنعكس على أواصر العلاقة الاجتماعية والأسرية وتظهر بصيغ تتصل بالزي التقليدي والطعام التقليدي والعبادات أو الطقوس العبادية والتي من شأنها التأثير الإيجابي على تنشئة الأجيال.
ت- الأهمية الحضارية: إذ تتصل هذه الأماكن والممارسات بالحضارة الإنسانية وتكون جزء من موروث عالمي مادي أو غير مادي يجب المحافظة عليه.
ومقبرة ومسجد البقيع أحد هذه الأماكن الآثارية التي توارثها المسلمون، وتعد جزءً من الإرث الثقافي الإنساني والإسلامي فهي جزء من ذاكرة الشعوب المسلمة ومعبر عن هويتها الدينية والتاريخية، وأحد روافد حاضرها فليست هي مجرد أثر مادي تكون عبر الزمن بل هي ذاكرة حية تختزن تراثاً مادياً وآخر غير مادي يتصل بالموروث المعرفي والعقائدي فهي تمثل قيمة كبيرة من نواحي الأدب والفنون والأثار والتراث والهندسة والعمارة وفهم تطور أساليب التفكير.
ووفقاً لما انتهت إليه منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) من إن الثقافة أثبتت قدرتها على تحول المجتمعات من حال إلى حال فتجليات الثقافة بدءً من الآثار التاريخية والمتاحف وانتهاءً بالممارسات التقليدية التي تعتز بها الشعوب والأمم من شأنها ان تثري الحياة بشكل عام وتزيد من تماسك الشعوب لاسيما الشعوب التي شهدت تحولات اقتصادية أو اجتماعية معينة وعاشت حالة من عدم الاستقرار، فالتراث من شأنه ان يسهم في صناعة الحياة المفعمة بالإبداع والتعددية والاستقرار بل ان الثقافة من شأنها ان تسهم في تحقيق التنمية المستدامة على جميع المستويات لا سيما الاقتصادية والتعليمية والثقافية، وحيث نعطف الكلام على أرض البقيع فبالتأكيد هي تحقق ما تقدم فهي السبيل إلى جمع كلمة المسلمين وتفتح الأفق واسعاً لحوار حضاري فيما بينهم، تمهيداً للمصالحة مع الذات للانطلاق نحو حوار مع الأديان الأخرى والثقافات المغايرة.
على الجانب الأخر يعد الحفاظ على التراث الإنساني والإسلامي واجباً على السلطات السعودية فقد انتهت اتفاقيات الأمم المتحدة ذات الصلة إلى العديد من الواجبات عل جميع الدول لاسيما التي انضمت لهذه الاتفاقيات ونذكر منها:
1- اتفاقية الأمم المتحدة بشأن الوسائل التي تستخدم لحظر ومنع استيراد وتصدير ونقل ملكية الممتلكات الثقافية بطرق غير مشروعة للعام 1970: إذ ورد في مادتها الأولى "تعني عبارة الممتلكات الثقافية لأغراض هذه الاتفاقية الممتلكات التي تقرر كل دولة لاعتبارات دينية أو علمانية أهميتها لعلم الأثار أو ما قبل التاريخ أو التاريخ أو الأدب أو الفن أو العلم،.....
وتعترف الدول الأطراف في هذه الاتفاقية بان استيراد وتصدير ونقل ملكية الممتلكات الثقافية بطرق غير مشروعة هي من الأسباب الرئيسية لإفقار التراث الثقافي في المواطن الأصلية...".
2- اتفاقية حماية التراث العالمي الثقافي والطبيعي للعام 1972، إذ عرفت مادتها الأولى التراث الثقافي لأغراض الاتفاقية بأنه "الآثار: الأعمال المعمارية وأعمال النحت والتصوير والمباني والعناصر والتكاوين ذات الصفة الآثارية والنقوش...المجمعات: مجموعات المباني المنعزلة أو المتصلة التي لها بسبب عمارتها أو تناسقها أو اندماجها في منظر طبيعي قيمة عالمية استثنائية من وجهة نظر التاريخ أو الفن أو العلم....،" وقد القت الاتفاقية واجباً على الدول بأن "تعترف كل دولة من الدول الأطراف في هذه الاتفاقية بان واجب القيام بتعيين التراث الثقافي والطبيعي الذي يقوم في إقليمها وحمايته والمحافظة عليه وإصلاحه ونقله إلى الأجيال المقبلة..."
3- اتفاقية صون التراث الثقافي غير المادي للعام 2003 والتي أشارت في مادتها الأولى إلى ان "التراث الثقافي غير المادي الممارسات والتصورات وأشكال التعبير والمعارف والمهارات، وما يرتبط بها من آلات وقطع ومصنوعات وأماكن ثقافية، التي تعتبرها الجماعات والمجموعات، وأحيانا الأفراد، جزءا من تراثهم الثقافي.
وهذا التراث الثقافي غير المادي المتوارث جيلا عن جيل، تبدعه الجماعات والمجموعات من جديد بصورة مستمرة بما يتفق مع بيئتها وتفاعلاتها مع الطبيعة، وتاريخها، وهو ينمي لديها الإحساس بهويتها والشعور باستمراريتها، ويعزز من ثم احترام التنوع الثقافي والقدرة الإبداعية البشرية.
وعلى ضوء التعريف الوارد أعلاه يتجلى “التراث الثقافي غير المادي” بصفة خاصة في المجالات التالية:
أ- التقاليد وأشكال التعبير الشفهي، بما في ذلك اللغة كواسطة للتعبير عن التراث الثقافي غير المادي.
ب- فنون وتقاليد أداء العروض.
ج- الممارسات الاجتماعية والطقوس والاحتفالات.
د- المعارف والممارسات المتعلقة بالطبيعة والكون.
ه- المهارات المرتبطة بالفنون الحرفية التقليدية.
ويقصد بعبارة «الصون» التدابير الرامية إلى ضمان استدامة التراث الثقافي غير المادي، بما في ذلك تحديد هذا التراث وتوثيقه وإجراء البحوث بشأنه والمحافظة عليه وحمايته وتعزيزه وإبرازه ونقله، لا سيما عن طريق التعليم النظامي وغير النظامي، وإحياء مختلف جوانب هذا التراث".
4- وقد أشار إليه قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم (69/281 في العام 2015) من أن "تدمير التراث الثقافي، الذي هو تجسيد للثقافة الإنسانية على تنوعها يمحو الذكريات الجماعية لكل الأمة ويزعزع استقرار المجتمعات، ويهدد هويته الثقافية، وإذ تشدد على أهمية التنوع والتعددية الثقافية وحرية الدين والمعتقد في تحقيق السلام والاستقرار والمصالحة والتماسك الاجتماعي....، ان الهجمات الموجهة عمداً ضد المباني المخصصة للأغراض الدينية أو التعليمية أو الفنية أو العلمية أو للأغراض الخيرية، أو الآثار التأريخية، قد ترقى إلى مستوى جرائم الحرب.." والنص المتقدم يشير بصراحة إلى ما ورد بالمادة (8) النظام الأساس للمحكمة الجنائية الدولية الذي وضع بموجب اتفاقية روما 1998 وبالتحديد المادة (8) التي عدت الهجمات ضد المباني المخصصة لأغراض دينية أو تعليمية جريمة حرب.
وقد أشار دستور المملكة العربية السعودية "النظام الأساسي" للعام 1992 في العديد من النصوص إلى التزام المملكة بحماية التراث الإسلامي والإنساني ولو بشكل غير مباشر إذ أشارت المادة (7) إلى أنه "يستمد الحكم في المملكة من كتاب الله تعالى وسنة رسوله وهما الحاكمان على هذا النظام وجميع أنظمة الدولة" وبينت المادة (8) أنه "يقوم الحكم في المملكة على أساس العدل والشورى والمساواة وفق الشريعة الإسلامية" وأضافت المادة (26) "تحمي الدولة حقوق الإنسان وفق الشريعة الإسلامية" وأخيراً نجد ان المادة (29) تنص على ان "ترعى الدولة... وتصون التراث الإسلامي العربي".
كما نجد ان القرآن الكريم وهو دستور الأمة المسلمة قد سوغ إقامة المساجد على قبور الأولياء والصالحين حيث ورد في قوله تعالى بمعرض الحديث عن أهل الكهف وهم من الأناس الصالحين "وَكَذَٰلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ ۖ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْيَانًا ۖ رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ ۚ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَىٰ أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا"، كما ان تعظيم الأماكن المقدسة وعمرانها هو تكريم للعلم والعبادة والتضحية التي قدمها المسلمون الأوائل ممن دفن في مقبرة البقيع بدءً من الصحابي الجليل عثمان بن مظعون ومروراً بأهل البيت عليهم السلام وانتهاءً بالصالحين من العلماء والمؤمنين، يقول تعالى "ذَلِكَ وَ مَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اَللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى اَلْقُلُوبِ" ومن الحقائق القرآنية ان بعض الأماكن أو الأشياء مقدسة لا ريب في ذلك وأن لها كرامة حيث ورد في الذكر الحكيم في بعض ما دار مع النبي موسى عليه السلام مع السامري "فقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ اَلرَّسُولِ" وقال في ذكر قصة يوسف عليه السلام "اِذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً" وقال أيضاً "فَلَمَّا أَنْ جَاءَ اَلْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً"، وقال تعالى "وَإِذْ ذجَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ۖ وَعَهِدْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ".
مما تقدم نرى ان الحفاظ على الموروث الثقافي الإنساني المتجسد بالبقيع كمكان وعمارة وما يتصل بها من موروث غير مادي هو تجسيد لحرية الدين والاعتقاد وأداء الشعائر والعبادات ومن الواجب على المسلمين خاصة ان يتم التكامل بين الجوانب المادية والمعنوية لهذا المكان بمعنى غير كافٍ ان نطالب بعمارة مقبرة البقيع الغردق فحسب رغم أهمية ما تقدم للحفاظ على الهوية الثقافية الإسلامية من الاندثار، بل من الواجب منطقياً ان يتم الاعتراف للجميع بحرية أداء شعائرهم الدينية في المكان والزمان الذي يرغبون بلا مضايقات ولأي سبب كان فالترميم واعادة البناء لها عظيم الأهمية من الجوانب المادية ورد الاعتبار لفئة كبيرة من المسلمين على رأسهم الصحابة والتابعين وأهل البيت عليهم السلام ممن قدم للإسلام خدمات جليلة، وكذا فئات من المسلمين ممن يعتقدون بأهمية أداء شعائرهم الدينية وعباداتهم في أماكن محددة مطهرة تقربهم إلى الله سبحانه وتعالى فهذه حكمة الهية تمثلت باختيار الله سبحانه لبقاع معينة ليضفى عليها طابع القداسة، بعبارة أخرى أهمية وصل ماضي المكان بحاضره بما يضمن تحقيق الغاية الإنسانية المتوخاة بربط الأجيال المتعاقبة بماضيها لنضمن استمرار الموروث الثقافي الإسلامي.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
اضف تعليق