المتتبع للإجراءات الحكومية يرى أن جميع قرارات معالجة ظاهرة المناطق غير النظامية (العشوائيات) لم تعالج هذه الظاهرة علاجا نهائيا. فلم تستطع الحكومات تمليك هذه المناطق إلا في مناطق محددة جدا، ولم تستطيع إزالة هذه المناطق ابدأ، ولم تبن وحدات سكنية أو تمنح أراضي للمتجاوزين إلا نادرا...
يُعز علينا كثيرا عندما نسمع أن الرأي القانوني في العراق يقضي بعدم جواز تقديم أي خدمة حكومية للمناطق السكنية الزراعية العشوائية (العشوائيات السكنية) التي أنشأت بعد 2003، وأصبحت مدنا قائمة بذاتها، تضم ملايين من المواطنين، وثلاثة أرباعها ساكنيها من الشباب والأطفال والنساء ما لم يحدث تدخل تشريعي، أي تعديل قوانين التمليك السابقة، أو استصدار قوانين جديدة ترخص للمؤسسات الخدمية تقديم خدماتها للمناطق السكنية غير النظامية (العشوائيات) بشكل أصولي.
لا عتب على الموظفين القانونين الذين يفتون بهذه الفتوى أو يؤيدونها، ولكن العتب كله غير منقوص على من يحكم البلاد باسم الإسلام والمذهب والديمقراطية وحقوق الإنسان دون أن يحرك ساكنا في إيجاد حل لقضية أصبحت قضية إنسانية وحقوقية ووطنية بامتياز. فمن المؤسف حقا أن يحكم بلادنا سياسيون وبرلمانيون يدعون أنهم إسلاميون أو يسيرون على خطى الإمام علي (ع) في إدارة شؤون الناس، وفي رعاية الفقراء والمحتاجين، في الوقت الذين يكونون فيه عاجزين عن استصدار قانون ينظم آليات تميلك ملايين المواطنين الذين سكنوا –مضطرين- في أراض زراعية (المناطق العشوائية) منذ عام 2003 إلى الآن، ولكنهم لا يخجلون من زيارة هذه المناطق في الحملات الدعائية الانتخابية، وفيها يطلقون وعودهم الوردية لحل مشكلات هؤلاء المواطنين الفقراء!
أنشأت في بغداد وفي المحافظات آلاف من المناطق السكنية غير الرسمية، وهي تتوسع يوميا، ويسكنها ملايين من المواطنين من ذوي الدخل المحدود، والفقراء، والمشردين، والعاطلين عن العمل، والنازحين، وغيرهم من الفئات الاجتماعية التي لا تقدر على توفير سكن لها، ولكنها مازالت تفتقد إلى خدمات البلدية والمجاري والطرق والجسور، وإلى خدمات الصحة والتعليم والكهرباء... فضلا عن الاعتراف الرسمي بهذه المناطق.
كانت الحكومات السابقة قد ألفت لجان لمعالجة المناطق السكنية العشوائية، وأصدر مجلس الوزراء في السنوات الماضية عددا من القرارات، بهدف معالجة مشكلات بعض المناطق السكنية غير النظامية إلا أن جميع هذه الإجراءات لم تستطيع أن تجد حلا جذريا للمناطق السكنية العشوائية، وظل الوضع على ما هو عليه.
ما هو سبب نشوء المناطق السكنية العشوائية؟ ولماذا تمتنع المؤسسات الحكومية عن تقديم خدماتها لهذه المناطق رغم أن ساكنيها بالملايين؟ ولماذا بعض هذه المناطق مخدومة بينما لا تخدم مناطق أخرى؟ وماهي الحلول الجذرية للمناطق السكنية العشوائية؟
قبل 2003، كانت قد أنشأت بعض المناطق السكنية على أرض زراعية أو مناطق صحراوية في أطراف مراكز المدن، وقد أنشأها في ذلك الوقت مواطنون معدومون تماما. وكانت في الغالب تبنى هذه المناطق على شكل صفائح من تنك، أو من قصب البردي، أو من خوص النخيل، أو من الطين والتبن. ورغم قوة النظام وسيطرته الأمنية آنذاك إلا أنه كان يغض النظر عن إنشاء بعض هذه المناطق لأن ساكنيها هم مواطنون لا يملكون أي مصدر من الدخل، وليس لديهم وظائف، وهم من الفقراء المعدومين. وقد حاول النظام السابق إصدار بعض القرارات لمعالجة هذه المناطق وتمليكها لساكنيها.
بعد 2003، حٌولت غالبية الأراضي الزراعية والبساتين في بغداد والمحافظات إلى مناطق سكنية عشوائية، ويعود ذلك إلى عدة أسباب، منها: أن بعض المواطنين بالفعل هو من الفئات الفقيرة، ولا يستطيع أن يسكن في المناطق النظامية، فالتجأ إلى المناطق العشوائية، وبعض الناس وجد في هذه المناطق فرصة للحصول على أرض أخرى يسكنها أو يبنيها أو يقوم بإيجارها، وبعض ضعاف النفوس وجد في ضعف النظام والشرطة والقضاء فرصة لبيع وشراء المناطق الزراعية وتحويلها إلى مناطق سكنية.
علاوة على ذلك؛ فقد ساهمت طبيعة النظام السياسي والدعايات الانتخابية للمرشحين في السنوات السابقة على تشجيع الناس على السكن في المناطق العشوائية على أمل التمليك أو الأقل السكن فيها لعدة سنوات لحين قيام الدولة بحسم الموضوع نهائيا، فهو خيار أفضل من خيار اللاسكن، وأفضل من خيار الإيجار الباهظ، وأفضل من خيار وجود أكثر من عائلة في بيت لا تتجاوز مساحته لـ(100) مربع.
وبالنظر إلى أن الموضوع السكن العشوائي أصبح ظاهرة لا يمكن السكوت عليها، فهي من جهة أخذت تأكل الأراضي الخضراء بالكامل، ومن جهة تزايد عدد الساكنين فيها حتى بلغ الملايين، ومن جهة ثالثة هي تحتاج إلى خدمات كثيرة؛ كان لابد من استصدار عدد من القرارات لحل هذه المشكلة منها ما يتعلق بتمليك هذه الدور لإصحابها بعد تخطيطها على وفق التخطيط العمراني، ومنها ما يتعلق بإزالتها كليا أو جزئيا كون المناطق المسكونة تؤثر على مركز المدينة وعمرانها ومخططاتها ولا يمكن تحويلها إلى مناطق سكنية، ومنها منح المتجاوزين أراض أو وحدات سكنية مقابل أجور رمزية تدفع للدولة سنويا على شكل أقساط.
إلا أن المتتبع للإجراءات الحكومية يرى أن جميع قرارات معالجة ظاهرة المناطق غير النظامية (العشوائيات) لم تعالج هذه الظاهرة علاجا نهائيا. فلم تستطع الحكومات تمليك هذه المناطق إلا في مناطق محددة جدا، ولم تستطيع إزالة هذه المناطق ابدأ، ولم تبن وحدات سكنية أو تمنح أراضي للمتجاوزين إلا نادرا. وظلت الأمور -منذ ذلك الوقت إلى الآن- على ما هو عليه دون إيجاد حل جذري.
إن عدم وجود حلول جذرية للسكن العشوائي في العراق أدى إلى تفاقم هذه الظاهرة وخروجها عن السيطرة العمرانية والبيئة والصحية، فضلا عن الأمنية، حيث إن الزيادة السكانية في المناطق السكنية العشوائية تتطلب توسعا جديدا للسكان، وتتطلب خدمات صحية، وتتطلب خدمات كهرباء، وتتطلب خدمات البلدية، وتتطلب خدمات المؤسسات الحكومية الأخرى. فضلا أن هذه المناطق أضحت تمثل تهديدا أمنيا حقيقيا للبلاد.
فليس من المعقول أن تمتنع المؤسسات الحكومية من تقديم خدماتها لساكني هذه المناطق بحجة أنهم لا يسكنون في مناطق نظامية معترف بها من الدولة. وليس من المعقول أن يحرم أطفال سكان هذه المناطق من الخدمات الصحية بحجة أنها غير رسمية، وليس من المعقول أن تحرم هذه المناطق من المؤسسات التعليمية بحجة أنها غير رسمية، وليس من المعقول أن تمتنع البلدية ومديريات المجاري ومديرية الماء من توفير هذه الخدمات الرئيسة بحجة أنها مناطق غير رسمية.
فليس ثمة شك أن المبالغ التي يمكن أن تصرفها الدولة على مكافحة محو الأمية، وعلى علاج المرضى في هذه المناطق، وعلى المحافظة على الأمن، والسيطرة على المخدرات، والجرائم المنظمة... ستكون أضعاف ما يمكن أن تصرفه الآن قبل فوات الأوان، إن لم يكن قد فات.
نعم بعض مديريات التربية؛ وبعض مديريات الصحة تعاملت مع هذه المسألة من منطق التعامل مع الإنسان المواطن أولا دون أن تلتفت إلى الإطار القانوني الذي (لا يٌجوز تقديم خدمة للمناطق السكنية العشوائية) وبعض البلديات ومديريات المجاري والكهرباء قدموا خدمات لبعض هذه المناطق تحت ضغوط سياسية وبرلمانية، وبمساعدة ومعونة الأهالي في هذه المناطق إلا أن ذلك مرة أخرى لا يُعد حلا جذريا لمشكلة الناس الساكنين والأراضي الحكومية المتجاوز عليها.
في الواقع؛ بعد كل هذه السنين، آن الأوان لأي حكومة منتخبة، ولأي تكتل سياسي شعبي، ولأي حزب، ولأي مسؤول حكومي يمتلك قرارا أو تأثيرا على صاحب القرار أن يضع حدا لظاهرة تكاثر العشوائيات السكنية، لأنها عنوان من عناوين الفوضى والتخلف والحرمان من جهة، ولأن ساكنيها يستحقون أن يُنصفوا بعد كل هذه السنين من جهة ثانية.
ويمكن أن يحدث ذلك من خلال اعتماد قاعدتين إستراتيجيتين هما:
1. الإستراتيجية الأولى: إن المواطن له حق في الخدمات الأساسية أينما كان يسكن: لابد من تقديم الخدمات الأساسية من ماء ومجاري وكهرباء وصحة وتعليم وتعبيد الطرق لكل مواطن، سواء كان ساكنا في أرض نظامية أو غير نظامية، أرض رسمية أو غير رسمية، أرض طابو أو أرض زراعية، لأن الحكومة ملزمة بتقديم هذه الخدمات لمواطنيها، ولو كانوا في وسط الأهوار، أو على سفوح الجبال، أو في مناطق ريفية، أو في مناطق صحراوية. ولا ينبغي لأي مؤسسة أن تمتنع عن تقديم خدماتها للمواطن العراقي أين ما كان يسكن، وهي ليست معنية بوجوده، نظامي كان أو غير نظامي، إنما هي معنية بتقديم الخدمة للمواطن فقط.
2. الإستراتيجية الثانية: تعديل قوانين السكن أو استصدار قوانين جديدة: لم تعد قرارات مجلس الوزراء -كما أسلفنا- حلا جذريا لمعالجة ظاهرة العشوائيات، بل الحلول الجذرية هي تعديل قوانين السكن القديمة التي لا تتلاءم مع واقع العراق والزيادة السكانية، أو استصدار قوانين جديدة هدفها حصول المواطنين على سكن لائق، له ولأفراد أسرته كحق من حقوق المواطنة.
ان أية حكومة ستكون قادرة على حل مشكلة العشوائيات السكنية إذا ما أدركت أنها مسؤولة عن حماية المواطنين وأمنهم، ولا أمن ولا أمان من دون مأوى لائق لكل مواطن، على الأقل منزل صغير يأوي أولاد الفقراء والمساكن والنازحين، ويحافظ على كرامتهم ويحميهم من الانحراف والجريمة...
اضف تعليق