يزخر الدستور العراقي لعام 2005 بالعديد من النصوص الدستورية التي أشارت إلى حقوق وحريات الشعب العراقي وآليات قانونية معينة تكفلها وتنظمها وتقرر ضماناتها المختلفة قضائية أو سياسية أو تشريعية وحتى إدارية، فمن الثابت إن حقوق وحريات الإنسان تعد حجر الزاوية في كل مجتمع متحضر حرّ ينظر للإنسان كقيمة وغاية فتسعى الدولة لتسخير كل الإمكانيات المادية والبشرية لضمان تمتع الجميع بها، وهذا الأمر لا يستقيم في جميع الدول حتى الدول العريقة في اعتناق المذهب الديمقراطي إلا بوضع القيود على ممارسة السلطة ومنع القابضين عليها من الانتقاص منها أو انتهاكها، وبدون ذلك لا يمكن للإنسان أن يعيش بكرامة ويشعر بالحرية والعدالة والمساواة، وهو الأمر الذي يظهر بجلاء لو تفحصنا فلسفة النص في الدستور العراقي وبقية الدساتير على انه تنظم الحقوق والحريات بقانون على إن لا يؤدي ذلك إلى التقييد أو إهدار أصل الحق أو الحرية وهو الأمر الذي أكدته إعلانات ومعاهدات حقوق الإنسان العالمية منها والإقليمية.
والاعتراف للفرد العراقي بهذا الكم من الحقوق والحريات في الدستور في الباب الثاني تكمن وراءه غاية هي تكريم الإنسان للقيام بدوره كاملاً تجاه المجتمع والدولة والاعتراف بآدميته إلا أن ما يؤخذ على التنظيم الدستوري للحقوق والحريات في دستور 2005 انه جاء مبتسراً في كثير من الأحيان وتعوزه الدقة وذكر التفصيلات التي تمثل الضمانات القانونية أو القضائية أو السياسية للأفراد، ما يستدعي تدخل المشرع العادي ليصدر قوانين عادية تنظم ممارسة الحرية أو تضمن التمتع بالحق الإنساني وهذا بحد ذاته ما أشار إليه الدستور ذاته، وهذا المنهج يعد تخويلاً دستورياً للمشرع بالتدخل لتنظيم ممارسة الحريات والتمتع بالحقوق ما يفتح الباب واسعاً أمام التخوف من انحراف السلطة التشريعية والاتجاه نحو مصادرة تلك الحقوق والحريات بحجج واهية ولسبب وبدون سبب ويصار إلى إطلاق يد الحكومة في التحكم في مصائر البلاد والعباد في حين كان بالإمكان النزول للتفصيلات أكثر وأوفى في الوثيقة الدستورية ذاتها لضمان تمتع الجميع بحقوقهم كاملة بلا خوف أو وجل.
والملاحظ إن الانتقال إلى حكم ديمقراطي في العراق يكون فيه الشعب العراقي سيداً بوصفه مالك السلطة الحقيقي ومصدر شرعيتها وهو من يمارسها بواسطة ممثليه الذين أأتمنهم على تلك الحقوق والحريات في البرلمان العراقي يستدعي إن أعضاء مجلس النواب وهم يمارسون سلطة تشريع القوانين أن يراعوا حفظ الأمانة ويضمنوا الحقوق والحريات وعدم مصادرتها بل لابد من وضع الخطوات العملية اللازمة لترجمة ما ورد بالدستور إلى واقع عملي واضعين نصب أعينهم بأن ما ورد هو الحد الأدنى وليس الغاية النهائية.
والملاحظ في العراق حالياً فشل السلطة التشريعية في النهوض بواجباتها لاسيما واجب سن القوانين فما صدر عنها وخلال عشر سنوات تقريباً هو النزر اليسير ولم تتمكن هذه السلطة من ترجمة ما ورد بالدستور عموماً والباب الثاني منه على وجه الخصوص إلى واقع عملي بقوانين متكاملة تكفل حقوق وحريات للشعب العراقي، بل بقيت اغلب النصوص الدستورية معطلة أو خاضعة لتحكم السلطة التنفيذية بسبب النقص التشريعي تارة أو الغموض والإبهام الذي يلف ما صدر من قوانين الأمر الذي أدى إلى تفسيرها بشكل مختلف عن الحقيقة لغايات معروفة وعرض الأفراد لحالة التنكر لحقوقهم الطبيعية وحرياتهم المكتسبة بحكم الدستور والقانون.
ولو تصفحنا ما ورد من حقوق وحريات في الدستور العراقي سنجد مصطلحات استخدمت لإعطاء البرلمان سلطة التنظيم ومنها "قرابة الخمس عشرة مادة تنص على انه تنظم بقانون"، وورد أيضاً "تمارس في حدود القانون" وعبارة "وفقاً للقانون" أو "ينظم القانون" و "في حدود القانون"، وعلى سبيل المثال ورد بالمادة (38) " تكفل الدولة بما لا يخل بالنظام العام والآداب... حرية الاجتماع والتظاهر السلمي وتنظم بقانون والى اليوم مشروع قانون تنظيم المظاهرات في إدراج مجلس النواب والحكومة ولم يرى النور، في حين إقليم كردستان اصدر قانون تنظيم المظاهرات رقم (11) لسنة 2010 وتضمن تنظيماً لهذه الحرية مقبول إلى حد ما، في حين فشلت السلطات الاتحادية في هذه المهمة، ما سمح للحكومة في كثير من الأحيان من التضييق على المواطنين الراغبين بممارسة حق التعبير عن الرأي، كما إن الكثير من الحريات أو الحقوق تحتاج إلى تدخل تشريعي لتنظيمها الأمر الذي لم يحصل ومنها على سبيل المثال المادة (24) حرية انتقال الأيدي العاملة والبضائع ورؤوس الأموال، المادة (31) حرية إنشاء المستشفيات ودور العلاج الخاصة، المادة (32) حقوق ذوي الاحتياجات الخاصة بالرعاية والتأهيل، والمادة (39) حرية تأسيس الأحزاب السياسية والانضمام إليها.
في حين بعض الحقوق والحريات حظيت بالاهتمام وصدرت قوانين تنظمها، إلا أن المحذور قد وقع فعلا وهو التضييق على ممارسة تلك الحريات أو الحقوق ليس في نص القانون بل في تطبيقه، وعلى سبيل المثال ورد بالدستور في المادة (45) تحرص الدولة على تعزيز مؤسسات المجتمع المدني ودعمها وتطويرها واستقلاليتها بما ينسجم مع الوسائل السلمية لتحقيق الأهداف المشروعة لها وينظم ذلك بقانون، وقد صدر قانون المنظمات غير الحكومية رقم (12) لسنة 2010 وتعليمات تسهيل تنفيذ قانون المنظمات غير الحكومية رقم (6) لسنة 2010 وتضمن أحكام منظمة لهذه الحرية وكان بعضها موفقا إلى حد كبير، إلا أن المشرع ترك سلطة تسجيل المنظمات لدائرة المنظمات غير الحكومية التابعة للأمانة العامة لمجلس الوزراء والأخيرة وضعت ضوابط وإجراءات تسجيل معقدة ومطولة وسببت منع العراقيين من ممارسة إحدى أهم حرياتهم لأسباب تارة سياسية كون الأمانة هي تتبع السيد رئيس الوزراء وبالتالي سيكون الأمين العام من جهة سياسية معينة لها منطلقات وحسابات سياسة بالدرجة الأولى وستكون الأولوية لمنع ما يتعارض مع منهجها بشكل أو بآخر، وتارة تكون المعرقلات فنية وإدارية، لهذا نجد لزاماً على مجلس النواب إن يعيد النظر بالأمر ويجعل هذه الدائر تتبع المفوضية العليا للانتخابات كونها وبحسب الدستور (م102) من الجهات المستقلة عن الحكومة وتعمل بحيادية وتجرد من الأهواء والدوافع غير الموضوعية، والمشرع العراقي كذلك مدعو إلى النهوض بدوره الدستوري في التصدي لسن القوانين الأساسية التي تعد مكملة للدستور والتي تنظم الحقوق والحريات في ضوء ما رسمته المادة (46) بان لا يتم تقييد ممارسة أي من الحقوق والحريات الواردة بالدستور إلا بقانون على أن لا يمس ذلك التحديد أو التقييد جوهر الحق أو الحرية.
..........................................
اضف تعليق