معظم العائدين ممن نهبت ممتلكاتهم، وقتل ابناؤهم في مراكز الحجز دون أي تهمة، حتى تهمة الانضمام الى المعارضة، والمحظوظ منهم وجد ابنه في المقابر الجماعية، والبعض الآخر عاد ليجد بيته وقد تم بيعه بالمزاد، ولم يجد مكاناً يسكن فيه، طبعاً؛ تولت الدولة العراقية الجديدة هذا الأمر...
نبذة تاريخية
حتى يزول العجب عن اختيار قضية مأساوية جرت منذ اربعين عاماً في العراق، وقد تقادمت عليها مآسي أكبر ومحن ومصائب جمّة، أجدني ملزماً بتقديم خلفية تاريخية مختصرة عما حصل عام 1980، وتحديداً مع بداية شهر نيسان، ثم الأشهر التالية بعدها.
ففي هذا العام شهد العراق لأول مرة، وربما في سابقة لم يشهدها العالم العربي والاسلامي في التاريخ الحديث، عملية تهجير جماعي لعوائل عراقية بطريقة مُهينة ومأساوية لا يسع المقام لذكرها، بعد مصادرة أموالهم المنقولة وغير المنقولة، وتجريدهم من الجنسية العراقية، وعدّهم اشخاص أجانب، علماً أنهم جميعاً، مولودون في العراق ويحملون بطاقة الاحوال المدنية، وهي النسخة المعدلة والمطورة من الجنسية العراقية، صدرت "بموجب قانون الاحوال المدنية المعدّل رقم 65 لعام 1972"، وإلغاء نسخة الجنسية القديمة.
الظروف التي رافقت تهجير العوائل على شكل دفعات، ويقدر عددهم باكثر من مائة ألف انسان، كانت غاية في التعقيد والحساسية، تقاطعت فيها مصالح سياسية داخلية، مع حراك معارض، الى جانب تطورات اقليمية كبيرة ومؤثرة، متمثلة في تأسيس نظام جمهورية اسلامية في ايران بقيادة علماء دين شيعة، على أنقاض نظام الشاه (الملكي) الموالي للغرب واميركا.
في تلك أصدر مجلس قيادة الثورة برئاسة صدام حسين، قراراً بترحيل كل "فرد" لا يمتلك "شهادة الجنسية العراقية"، الى ايران، بدعوى فقدانه لمصداقية المواطنة! علماً أن صدام حسين، أصدر قراراً ماكراً قبل هذا، وتحديداً بعد تسلّمه منصب رئاسة الجمهورية في شهر تموز 1979، يبشّر بها كل "فرد" بالحصول على شهادة الجنسية، للتعويض عما فاته من الوقت للتقديم على هذه الوثيقة الغريبة لتكون الى جانب "الجنسية العراقية"، وقد توقفت الحكومات العراقية المتعاقبة وبشكل غريب ايضاً عن منح هذه الوثيقة للمولودين في العراق ومن يحملون الجنسية العراقية، منذ عام 1957، أي منذ العهد الملكي! ومنذ ذلك الحين، التصقت بهذه الشريحة في المجتمع العراقي صفة "التبعية الايرانية".
وهذا يفسّر حجم الفرحة العارمة التي اجتاحت المدن العراقية، وتحديداً في الجنوب والوسط، فشهدت دوائر السفر والجنسية ازدحاماً شديداً لمقدمي الطلب، حتى صارت لدى السلطات المعنية، وربما دوائر الأمن والمخابرات، قاعدة بيانات سريعة بالمجان لم يتصوروها، وتكون بين أيديهم أسماء وعناوين "الافراد" غير الحائزين على شهادة الجنسية، علماً أن هؤلاء كانوا بعيدين عن قانون الخدمة الإلزامية في الجيش العراقي، كما كانوا بعيدين عن الدراسة في الجامعات والسفر خارج العراق لحاجة كل ذلك هذه الوثيقة.
ومع تزايد مخاوف صدام شخصياً من انعكاسات "الثورة الاسلامية" على الداخل العراقي –الشيعي، و تنفيذ عمليات تفجير واغتيال من قبل الجماعات المعارضة، قرر صدام توجيه ضربة عنيفة للمعارضة ولايران في وقت واحد، ليس باعتقال وقتل المعارضين فقط، وإنما القضاء على القاعدة الجماهيرية التي كان يحتمل أن تكون منطلقاً لهذه المعارضة، فكان قراره الماكر الآخر بجمع التجار الكبار والكسبة من أعضاء غرف التجارة لموعد موهوم في احدى القاعات ببغداد، ثم ترحيلهم بشكل مفاجئ الى ايران،ودون علم من عوائلهم التي كانت في البيوت الذين التحقوا بهم فيما بعد، كما التحقت عوائل المعتقلين والمعدومين وفاقدي "شهادة الجنسية"، واستقر الجميع في ايران.
المواطن العراقي في عيون صدام؟
صدام حسين، هذا الاسم الذي لم يحمل معه سوى ذكريات الصراع والنزاع والاقتتال والحرب، ليس في مرحلة الفتوة والرجولة حيث التمكّن من اسباب القوة والسلطة، وإنما منذ الطفولة ونعومة الأظافر، عاش القهر، والرعب، والإذلال، في بيئة ريفية غاية في القساوة والغِلظة، فعندما صار كبيراً لم تغادر الغلبة مخيلته لحظة واحدة، وإلا كان يجد نفسه مسحوقاً بين الأرجل، كما هي طفولته، وحتى يقطع هذا المسلسل الرهيب والمزعج، جنح الى العنف والترهيب، وعندما وجد نفسه زعيماً لبلد مثل العراق، يتوفر الى قدرات هائلة واستثنائية، ضمن محيط اقليمي من أكثر البقاع حساسية وخطورة في العالم أجمع، فان الحرب أقوى فكرة لتحقيق أحلام الطفولة.
وحتى يضفي على أحلام الحرب مبرراً مقنعاً للناس، صبغها بشعارات ايديولوجية تحثّ على مواجهة "الامبريالية"، و"الرجعية"، ومن كان يسميهم بأعداء الثورة والتقدم، وكل ما يحلو في ذهن الانسان العراقي من تقدم ورفاهية، فالمواطن العراقي الطامح الى هذه الاهداف لابد أن يكون –بالضرورة- انساناً محارباً مستعداً للقتال في أي لحظة يدعونه اليها، وإلا لن يتذوق طعم الدراسة، والسفر، والزواج، والبناء، والعمل، وحتى الحصول على المزيد من الثروة، وأول خطوة في هذا الطريق كان قراره بشن الحرب على إيران في الحادي والعشرين من ايلول عام 1980.
فكيف والحال هكذا؛ بأفراد من هذا المجتمع يعدون أنفسهم خارج قوس الجيش العراقي، ويتباهون امام أقرانهم بأنهم لم يتجشموا عناء الخدمة العسكرية، وما يرافقها من مصاعب جمّة؟ والى جانبهم أفراد آخرون ينظر اليهم صدام بعين الريبة والشك في ولائهم له، نظراً لتمسك الغالبية العظمى منهم بقيمهم الدينية والاخلاقية أكثر من استجابتهم لشعاراته الوهمية؟
بعد أن أصدر صدام قراره عام 1982 بإزالة عبارة "التبعية الايرانية" من الشهادة الجنسية العراقية، بدعوى أن أنتج مجتمعاً عراقياً خالصاً! أعلن لأول مرة، وفي اجتماع حزبي خاص مبدأه و رؤيته في علاقة المواطن بالحكم، بأنها مبنية بالأساس على المشاركة في الحرب والقتال دون أي اعتراض، وهذا ما أطلقه بوجوه كبار البعثيين في اجتماع خاص به، وفي تسجيل تم تسريبه فيما بعد، وكان مصير الرافضين والمتعللين؛ الإقصاء من الوظيفة والامتيازات الحزبية والحكومية، أما بالنسبة لسائر افراد المجتمع فكان الموت الذي شاهده الناس في كل مكان خلال حرب الثمان سنوات.
الحنين الى الوطن والولاء للقيم
تم إخراج آلاف العوائل العراقية من بيوتهم في بغداد وكربلاء النجف والكوت والحلة ومدن أخرى وسط ذهول الناس، حيث لم يشهدوا حدثاً كهذا من قبل إلا ما سمعوه قبل حوالي عشر سنوات من تهجير العوائل العراقية التي كانت تحمل الجنسية الايرانية عام 1970، وقد تم تهجيرهم في ظروف أقل تشنجاً وتوتراً، ولم يعتقل منهم أحد، ولم تصادر أموالهم المنقولة ولا غير المنقولة، بسبب وجود نظام حكم في ايران مثل "شاه ايران".
فكانت المخيمات الوطن الجديد لهذه العوائل المنكوبة، والخيام البيوت البديلة عن بيوتهم العامرة والمؤثثة، والحديث عن ظروف التهجير بساعاتها ولحظاتها العصيبة، من البيوت، وحتى مراكز التسفير، ثم رحلات العبور الرهيبة الى ايران، التي تزامن بعضها مع اندلاع الحرب واشتعال المناطق الحدودية، وغيرها من المحطات المؤلمة، يحتاج الى حديث مطول ومفصّل ربما تتضمنه كتب عدّة تسجل المشاهدات والخواطر والتجارب، كما يجدر بالمؤسسة الاعلامية في العراق الالتفات الى هذه الصفحة المؤلمة من تاريخ العراق، وتسليط الضوء عليها بانتاج تحقيقات متلفزة تنقل للاجيال ما جرى على اخوانهم العراقيين، إنما المهم في هذه الذكرى تسليط الضوء على الروح العراقية التي قتلها صدام في العراق، وأحياها العراقيون المهجرون في ايران، وبالرغم من أن المعطيات السياسية كانت تنبئ عن بقائهم لفترة غير منظورة في ايران، وفقدان بصيص أمل بالعودة بالقريب العاجل، إلا أنهم لم يذوبوا في المجتمع الايراني بشكل كامل، فقد حملوا معهم تقاليدهم الاجتماعية، وقيمهم الدينية والاخلاقية، فكانوا دائماً علامة فارقة ايجابية في المجتمع الايراني، في حجاب نسائهم، وطريقة تعاملهم في الاسواق التجارية، وأمور عديدة تتعلق بالثقافة والسلوك الخاص بالعراقيين الذي مثار إعجاب المجتمع الايراني، ولعل أبرز ما حملوه معهم؛ الشعائر الحسينية بمختلف اشكالها، فتم تشييد الحسينيات بمختلف نشاطاتها وفعالياتها، الى جانب المؤسسات الخيرية والصحية، مثل مشاريع الزواج الجماعي، وصناديق القرض الحسن، والمستوصفات الخيرية، وبالمجمل كان الانسان العراقي في ايران، مظهراً للانسان المحب للعلم والثقافة والمعرفة، وأهلاً للثقة والأمانة والصدق –في معظم الحالات- ومصداقاً للاخلاق الحميدة، علاوةً على التدين والالتزام بالقيم والمبادئ.
رغم مرور ثلاثة وعشرين عاماً على وجودهم في العراق، وقبل اندلاع الحرب الاميركية على العراق، الاطاحة بصدام، كانت مشاعر الحنين الى العراق على حرارتها السابقة، لم تبرد أبداً عند الكثير من هؤلاء، رغم أن من الآباء اصبحوا أجداد، والابناء صاروا آباء، وظهر جيل عراقي جديد لم تكحل عينه أرض العراق، مع ذلك، الجميع كان ينشد العودة يوماً ما ليثبت عراقيته ووطنيته التي سلبت منه، فكان يوم انهيار نظام صدام حدثاً لا يصدق لهم، فقد تخلّى هذا الأب عن عائلته، واستقر في كربلاء لوحده، وذاك الأب الذي تخلّى عن محل عمله واصطحب عائلته الى كربلاء، ليبدأ هنا من الصفر مع ابنائه، بل وهناك رجل يأتي الى الوطن من الدنمارك،حيث يقيم وهو يحمل الجنسية الدنماركية، وهو يقول: "أخشى أن أموت بعيداً عن كربلاء المقدسة.
هنا سؤال يقفز في هذا السياق؛ هل حمل العراقيون العائدون الى الوطن، آلام فقدان الوطن، وما تجرعوه طيلة السنوات الماضية، الى مدنهم وابناء وطنهم؟
معظم العائدين ممن نهبت ممتلكاتهم، وقتل ابناؤهم في مراكز الحجز دون أي تهمة، حتى تهمة الانضمام الى المعارضة، والمحظوظ منهم وجد ابنه في المقابر الجماعية، والبعض الآخر عاد ليجد بيته وقد تم بيعه بالمزاد، ولم يجد مكاناً يسكن فيه، طبعاً؛ تولت الدولة العراقية الجديدة هذا الأمر وتمت تسوية الكثير من "النزاعات الملكية" لصالح العائدين، ولكن؛ لا هذا ولا غيره يمحو آثار الجروح الغائرة في النفوس، إلا بناء ثقافة مواطنة جديدة على أساس من القيم والمبادئ التي حاربها صدام، واستبدلها بأسس متضمنة لكل ما يدعو الى التفكك الاجتماعي، والتنمّر، وعدم الثقة، هذه الثقافة هي التي تذكر الاجيال العراقية بأسباب تهجير الآلاف من اخوانهم العراقيين، ولماذا أقدم صدام على فعلته تلك؟
هنالك الكثير الكثير من الحكايات والتجارب والعبر من محنة التهجير يفترض ان تكون مادة إعلامية تذكر الناس بالأسباب التي أدت لحصول تلك الكارثة، ثم معالجتها نفسياً واجتماعياً وحتى سياسياً.
اضف تعليق