شهدنا ولأسباب شتى هجرة نحو بعض المدن وحركة سكانية دؤوبة ما تسبب بتضخم غير مدروس للبعض من المدن، وبالمقابل عند زيادة عدد السكان يكون هنالك طلب متزايد على الخدمات وارتفاع كبير في مؤشرات الاستهلاك المختلفة، ما يتطلب إخضاع كل ما تقدم لنوع من التنظيم لتتمكن...
سكن الإنسان العراقي ومنذ آلاف السنين في سهول العراق ووديانه وتمكن من بناء حضارة متطورة آنذاك تحكمت بمساحات شاسعة من العراق، ولا تزال تلك المدن بما تحمله من أطلال خير شاهد على الرقي الاجتماعي والاقتصادي والازدهار التجاري والعمراني، والمحاولات الجادة لبناء حياة مرفهة للناس.
والمدن قديماً وحديثاً تعد مراكز للنشاط الإنساني بكل تجلياته وتتركز فيها مجموعات بشرية كبيرة، كما تشكل بيئة جاذبة للمهاجرين والوافدين من الأرياف والدول الأخرى، وهو الحال الذي لاحظناه في العراق حالياً وبالتحديد بعد التغيير الكبير العام 2003 وتبدل فلسفة الدولة الاقتصادية والاجتماعية فشهدنا ولأسباب شتى هجرة نحو بعض المدن وحركة سكانية دؤوبة ما تسبب بتضخم غير مدروس للبعض من المدن، وبالمقابل عند زيادة عدد السكان يكون هنالك طلب متزايد على الخدمات وارتفاع كبير في مؤشرات الاستهلاك المختلفة، ما يتطلب إخضاع كل ما تقدم لنوع من التنظيم لتتمكن المؤسسات العامة من تأمين الحياة الكريمة للجميع بلا تمييز.
غير إن الواقع يشهد بعجز كل الوزارات والهيئات العامة المحلية الممثلة بالمحافظات ومجالسها في العراق عن مسايرة ما تقدم والأخطر هو تراكم أعداد كبيرة من الناس في أماكن محددة من المدن بشكل عشوائي يفتقد لكل مقومات السكن اللائق، وإن استمرار السكوت عن الظواهر السلبية والخطيرة يهدد الحياة في المدن العراقية جميعاً ومن المشاكل التي تواجهها المدينة العراقية عموماً:
- ظاهرة البناء العشوائي.
- ظاهرة الاستيلاء على عقارات الدولة بشكل غير مشروع من بعض المتنفذين خلافاً لأسس التنظيم الحضري.
- ظاهرة الاستيلاء على الأراضي المخصصة للبنى التحتية والأساسية في الأحياء السكنية، ما تسبب في العجز التام عن إضافة مباني خدمية عامة.
- ظاهرة تجريف المناطق الخضراء ومصدات العواصف والسيول الممثلة بالأشجار والأعشاب الطبيعية وغيرها.
- ظاهرة بناء المعامل والورش في الأحياء السكنية.
- الاستيراد المفرط للسيارات والمركبات بشكل لا يتفق مع الطاقة الاستيعابية للشوارع العامة والأخطر من ذلك الاستيراد من مناشئ غير رصينة مايعني مركبات غير لائقة للبيئة.
- الصناعة النفطية في العراق وقرب بعض المنشأة من المناطق السكنية أو ضعف التخطيط فيما يتعلق بهذا المجال ما تسبب بنسب تلوث غير مسبوقة في جنوب العراق خصوصاً وهو الأمر الذي ينذر بأمراض وأوبئة تخرج عن السيطرة والمتسبب بها الأول هو السلطات العامة بشكل مباشر أو غير مباشر، ونذكر في هذا المجال إن العراق وقع من ضمن الدول التي وقعت على اتفاقية باريس 2014 الخاصة بالمناخ إلا أنه إلى اليوم متردد بالمصادقة بسبب إلزام الاتفاقية للأطراف بالحد من الملوثات التي تسببها الصناعة النفطية لاسيما عملية استخراج النفط الأحفوري.
وهذه الظواهر المتقدمة تنذر بحياة مدنية مضطربة وغير صالحة لتضمن حياة كريمة للإنسان العراقي، فهنالك مستويات مخيفة من التلوث البيئي غير المسبوق، والفشل في الارتقاء بالخدمات الأساسية، ويعظم من المخاطر المتقدمة مشكلة تقادم البنى التحتية وانهيار قسم كبير منها والممثلة بالمستشفيات والمدارس، ومواقع تصفية المياه وتصريف المجاري، وغيرها كثير.
ولو أردنا أن نضع الأمور في نصابها الصحيح لابد من التذكير أن الدستور العراقي للعام 2005 أقر للمواطن العراقي بجملة من الحقوق نذكر بها أهل الحل والعقد في السلطات العامة العراقية وعلى رأسها الحكومة والبرلمان ومنها:
المادة (29) (تكفل الدولة حماية الأمومة والطفولة والشيخوخة، وترعى النشء والشباب وتوفر لهم الظروف المناسبة لتنمية ملكاتهم وقدراتهم) وتضيف المادة (30) أن (تكفل الدولة للفرد والأسرة وبخاصة الطفل والمرأة الضمان الاجتماعي والصحي، والمقومات الأساسية للعيش في حياة حرة كريمة، تؤمن لهم الدخل المناسب، والسكن الملائم.) وتنص المادة (33) في بندها الأول على أن (لكل فرد حق العيش في ظروف بيئية سليمة)، وتبين المادة (36) أن (ممارسة الرياضة حق لكل فرد، وعلى الدولة تشجيع أنشطتها ورعايتها، وتوفير مستلزماتها).
والسؤال المطروح كيف للحكومة أن توفر بيئة ملائمة وتشجع على الرياضة وتلتزم بتوفير التعليم والصحة لمجتمع لا توجد فيه (100) متر فارغة أو متروكة ليتم عليها بناء مدرسة أو منشأة رياضية أو صحية، وهل يعقل للحكومة أنها تلتزم الصمت طوال الأعوام الماضية إزاء تكاسل البلدية عن إعادة النظر بالتنظيم الحضري للمدن، والأمر الآخر الحكومات المحلية بجناحيها (المحافظ ومجلس المحافظة) لم تحرك ساكناً حتى بعد انتقال الصلاحيات وفق المادة (45) من قانون المحافظات رقم (21) لسنة 2008 وارتباط البلدية بالمحافظ إدارياً، فهل لنا أن نسأل ماذا أضافت الحكومات المحلية لحلول هذا الملف الشائك غير العجز واتخاذ موقف المشجع في بعض الأحيان لغايات انتخابية وحزبية بعيدة كل البعد عن المصلحة العامة.
ولو رجعنا إلى الوراء قليلاً العام 2014 شهد أحداث مؤسفة انتهت بتدمير مدن ومحافظات كاملة وتسببت بهجرة الملايين قسراً إلى مدن أخرى، الأمر الذي ضاعف من معاناة تلك المدن، كون الهجرة الداخلية نحو مدينة ما سيكون على حساب تنمية المدينة الأصلية والتعايش السلمي فيها، وان كان من الأرياف سيكون على حساب النشاط الزراعي إذ سيترك الفلاحون أراضيهم ويبحثوا عن فرص للعمل في الوظائف العامة أو الصناعة في المدينة ما يتسبب في تخمة الجهاز الإداري نتيجة تعاظم الطلب على العمل لدى الحكومة وازدياد المعروض من الأيدي العاملة غير الماهرة في المجال الصناعي ومجال الخدمات والعمالة الرخيصة فيتسبب ذلك بآثار ومخالفات لقانون العمل العراقي رقم (37) لسنة 2015.
وحين نتحدث عن مدن حضرية فلابد من بيان معنى الحضرية أو المدينة المتحضرة أو على الأقل التي تواكب الحضارة الإنسانية لتصلح للعيش الكريم؟ والمختصون ذهبوا إلى وضع معايير تتعلق بمقياس التحضر والتخلف عن ركب الحضارة الإنسانية في القرن الواحد والعشرون وهي بمجملها تتعلق بـ:
أ- الحد الأعلى والأدنى للسكان في المدينة وتوزيعهم بشكل علمي ومتوازن.
ب- الخدمات المقدمة للسكان لاسيما الصحية والتعليمية، فكلما ارتفع مؤشر التعليم وعدد المتعلمين وارتقت الخدمات الصحية إلى مستوى الطموح كلما كنا في عداد الدولة والمدينة الحضرية.
ت- الخدمات المقدمة للمساكن وساكنيها وأخص منها بالدرجة الأساس الماء الصالح للشرب والكهرباء ومجاري الصرف الصحي ومستلزمات العيش الأخرى.
ث- وهنالك مؤشرات أخرى ترتبط بنسبة الشباب إلى مجموع السكان، ونسبة القوى العاملة إلى عدد النفوس الكلي، ومؤشرات الدخل اليومي والناتج المحلي.
وعند محاكمة هذه المعايير ومحاكاتها لنرى مدى توافرها في المدن العراقية نجد إن الواقع يشير إلى تكدس سكاني هائل وهو ما يحتاج إلى بذل جهود مضاعفة لمجاراة التوسع الأفقي في عدد السكان والمساكن ولاسيما في العاصمة بغداد وبعض المدن الدينية أو النفطية التي تنشط فيها الحركة الاقتصادية، كما إننا نكتشف يومياً ببيانات مقلقة للغاية فوزارة التربية على سبيل المثال بادرت الأعوام 2010-2013 إلى هدم ما يقارب (1600) مدرسة لكونها متقادمة بغية إعادة بنائها إلا ان خروج هذه المدارس من الخدمة لم يرافقه إضافة حقيقية لاستيعاب الطلبة والتلاميذ الذين كانوا يرتادونها ما تسبب بمشاكل الدوام المزدوج ووصل الأمر إلى الدوام الثلاثي في مدرسة واحدة وتكديس أعداد كبيرة من الطلبة في الصفوف، والنقص الحاد في المناهج وضعف عملية تجديدها بشكل مدروس شكل عقبة أخرى أثقلت كاهل ملف التربية والتعليم المترنح في العراق أصلاً.
فيما المجال الصحي هو الأخر شهد انتكاسات كبيرة جداً تسببت بتوقف العمل في بناء وتجديد المستشفيات العامة، وإنعدام الدواء في المؤسسات الصحية الرسمية، وتضاعف أسعار الخدمات المتلكئة أصلا، قبال ذلك لاحظنا انتعاش المستشفيات الخاصة والمدارس الخاصة التي لا يملك الكثير من العراقيون أجور ارتيادها والاستفادة من خدماتها نتيجة أسعار خدماتها المرتفعة وتواضع مستواها الفني.
والمدينة الصالحة للعيش في الحقيقة هي غاية تسعى الكثير من المدن إلى الوصول إليها حتى ساد في العديد من الأوساط ذات الاهتمام تصنيف المدن من حيث أكثرها ملائمة للعيش، ففي العام 2017 جاءت مدينة ملبورن الاسترالية ومن بعدها فيينا كأكثر المدن في العالم ملائمة للعيش وفي العام 2018 حافظت كلا المدينتين على ترتيب التصنيف الذي تصدره صحيفة ايكونوم، فيما اعتبرت التصنيفات العاصمة العراقية والسورية واليمنية والسودانية والجزائرية في مراتب متأخرة من التصنيف العالمي.
وتعتمد المدن الحديثة التي من شأنها أن توفر حياة كريمة للساكنين على معايير لابد من توافرها أو على الأقل توافر الحد الأدنى منها وهي:
1- التخطيط العمراني: إذ ينبغي أن تتوافر المساحات الكافية للحدائق والأماكن التي يستعملها الجمهور للترفيه، والبنى التحتية المناسبة طرديا مع عدد السكان وظروف الحياة اليومية، كما تسعى المدن بالعادة إلى تحقيق الاستدامة من خلال اعتماد معايير معمارية خاصة تطال كل أنواع البناء والأبنية بمختلف استخداماتها، كما ان من متطلبات الاستمرار في مستوى لائق من الحياة المدنية ضرورة إستدامة التخطيط لمصادر الطاقة كافة والخدمات الأساسية ما يوجب على السلطات العامة إعادة النظر بكل التراخيص والإجازات الممنوحة للشركات والمواطنين بما يحقق الغاية وهي توفير كل مقومات الحياة الكريمة، ولو أخذنا شركات الهاتف النقال مثالاً نجد إنها تنشر أبراج الاتصالات بشكل عشوائي لا يراعي الصحة العامة وتجنب مخاطر الأشعة المنبعثة التي لها شأن في تلوث البيئة وتتسبب بأمراض مستعصية للمواطن.
2- الزراعة ودورها الريادي في تحقيق المدن الحديثة فلابد من تخصيص أماكن للزراعة بجوار المساكن الثابتة وداخل تلك المجمعات السكنية أيضاً، وتخصيص أماكن محددة لبيع الخضروات والمنتجات الزراعية بعيداً عن العبثية التي نراها اليوم.
3- تخطيط الطرق والشوارع العامة فلا بد من وجود شوارع كافية وصالحة للسيارات والى جوارها طرق للمشاة أو راكبي الدراجات لتكون مهيأة لمختلف أنواع الاستخدامات من قبل السكان وهو الأمر الذي من شأنه ان يشجع على ممارسة الرياضة ويقلل من الاعتماد على السيارات وغيرها التي تعد مصدر رئيس للتلوث.
4- وسائط النقل التي تسهم في الاستدامة فتوفير النقل العام الذي يعتمد على مصادر الطاقة الصديقة للبيئة أضحى حقاً للمواطن وواجباً على الدولة فمن المؤسف ان لانجد العراق عموماً والمدن التي تشهد اكتظاظ بالساكنين أو المرتادين وسيلة نقل واحدة على الأقل عصرية وتتماشى مع الطلب المتزايد على خدماتها، فجل محافظات العراق ومدنه تعتمد على وسائط نقل بدائية وكربلاء مثالاً.
ولمعالجة ما تقدم نحتاج بالدرجة الأساس إلى الوصول لحالة الاستقرار السياسي والازدهار الاقتصادي الذي يفتقد إليه العراق منذ عقود طويلة من الزمن، وان إدراك هذه الغاية هدف استراتيجي ينبغي على السلطة العامة في العراق السعي لبلوغه بعد ان تتم تهيئة الأرضية اللازمة لذلك، والمدينة العصرية تتطلب مراعاة المعايير البيئية الملائمة للعيش الكريم بعيداً عن منغصات الحياة، بما من شأنه الوصول إلى الاقتصاد في الاستهلاك ومنع كل أشكال الهدر والاستعمال العشوائي في كل شيء، فالعراق يفتقد لمعامل التدوير ما تسبب بهدر كبير للثروة المائية والنفطية والزراعية، فالواجب على السلطات العامة على أقل تقدير القيام بالآتي:
1- إيجاد معامل التدوير للقضاء على مشكلة النفايات وما تخلفه من أمراض وأضرار بيئية واسعة عند حرقها بشكل عشوائي، لاسيما النفايات الطبية والخطرة والإليكترونية وغيرها.
2- الاعتماد على مصادر الطاقة النظيفة كالطاقة الذرية وأشعة الشمس والرياح والأمواج ولو بشكل تدريجي تمهيداً لتقليل الاعتماد على مصادر الطاقة المتأتية من استهلاك المشتقات النفطية.
3- ترشيد استهلاك المياه المخصصة للسقي أو للاستعمالات المنزلية بان تسود ثقافة الترشيد على مستوى الأسرة والمجتمع بإتباع الحكومة المحلية والاتحادية لسياسات تشجيعية ودعائية من شأنها أن ترتقي بالأفراد إلى مستوى التحدي المتمثل بشح المياه في فصل الصيف.
4- الاستمرار في مشاريع تبطين الجداول والترع لتقليل المهدور من المياه المخصصة للزراعة وبدل إتباع سياسة الحد من المساحات المزروعة بالمحاصيل الإستراتيجية صيفاً لابد من إتباع طرق الري الحديثة التي تستهلك كميات أقل وتروي مساحات أكبر.
5- الارتقاء بشبكات الصرف الصحي الخاصة بالمنازل ومعالجة مشكلة شبكات تصريف مياه الأمطار فكلاهما يتسبب سنوياً بتهديد كبير للسكان والمساكن.
6- تقليل الانبعاثات الملوثة للبيئة أيا كان سببها والانتقال نحو الوسائل التقنية الحديثة التي من شأنها ان تقدم الخدمات وتسهل الصناعات بلا آثار جانبية قاتلة.
7- الانتقال من ثقافة البناء الأفقي الذي أنهى المساحات الخضراء في المدن إلى البناء العمودي القابل لاستيعاب أعداد أكبر وله القدرة على توفير وسائل الحياة العصرية بكيفية وكلفة أقل.
8- الانتقال نحو القطارات السريعة ومترو الأنفاق وغيرها من الحلول الجذرية التي لها الدور الكبير في حل معضلة التنقل الداخلي.
9- كما إن التوسع بالزراعة بالطرق المبتكرة من شأنه ان يقلل من الطلب على وسائل التكييف التي تستهلك مقدار كبير من الطاقة الكهربائية ففي هذه الخطوة نكسب أكثر من فائدة من خلال تلطيف البيئة المحيطة بالمواطن ويتم التخفيف من الاستهلاك المفرط لمصادر الطاقة.
10- الانتقال إلى مشروع القرى الزراعية المستدامة لتقليل الهجرة أولاً واستيعاب الأيدي العاملة ثانياً وتوفير العيش الكريم أخيراً.
....................................
اضف تعليق