كان ولا يزال موضوع الأقليات يشغل المهتمين بملف حقوق الإنسان سواء في العراق أو العالم أجمع، حيث أن أغلب الانتهاكات المسجلة عالمياً طالت بشكل مباشر أو غير مباشر حقوق الأقليات وحرياتهم الدينية والثقافية، ولنا في الحالة العراقية والسورية والسعودية وباكستان وغيرها الدليل الأبرز، فتارة يقع هؤلاء ضحية الممارسات المنحرفة والمنحازة للأنظمة الحاكمة وتارة يكونوا تحت رحمة العصابات والجماعات الخارجة عن القانون والدين فيذيقونهم أنواع الاضطهاد ويمارسون بحقهم شتى أنواع التطهير العرقي أو التهميش والإبعاد، فيكونوا مجرد أرقام في إحصائيات الأمم المتحدة وأجهزتها الساندة الراعية لحقوق الإنسان، حيث دأبت المنظمة الدولة على إحصاء الضحايا دون أن تقدم إليهم يد العون بشكل جدي وبما يكفل منع الاعتداء عليهم، بل أخذت في العديد من الأحيان شأنها شأن المجتمع الدولي تأخذ دور المتفرج على جراح ضحايا الإرهاب والأنظمة المستبدة وبالخصوص أولئك المنتمين للأقليات.
والأقلية بالعادة تعريف على أنها جماعة من بين رعايا الدولة تنتمي بجنسها أو بلغتها أو بدينها إلى غير ما ينتمي إليه رعايا الدولة، أو هي مجموعة من مواطني الدولة تتباين وتختلف عن بقية الأفراد من حيث الدين أو اللغة أو العرق وحتى الثقافة أو غيرها، ويمكننا أن نعرفها بأنها مجموعة متجانسة من الأفراد تشترك فيما بينها بخصائص محددة تعود لوحدة دينها أو لغتها أو قوميتها والتي تتباين مع الخصائص العامة لأفراد الشعب عامة، بعبارة أخرى هم مجموعة من الأفراد من مواطني إحدى الدول يمتلكون خصائص مشتركة ثقافية أو دينية أو لغوية والتي بدورها تميزها عن بقية أفراد شعب الدولة.
ولقد مرت حقوق الأقليات بعدد من المراحل الزمانية التي حملت تطوراً ايجابياً أو سلبياً لحقوق هذه الفئة فبعد أن كان هم هذه الفئة الأكبر المساواة مع بقية أفراد الشعب بالاعتراف بهم وإعطائهم الحقوق المدنية والسياسية أي المطالبة بالمساواة في المواطنة مع بقبة أفراد الشعب في الدول التي يعيشون فيها، وتطور الأمر فيما بعد إلى المطالبة بالتمتع بالحق في الترشح للوظائف العامة المدنية والعسكرية والمساهمة في تكوين المجالس المنتخبة كناخبين أو مرشحين، ولعل هؤلاء شعروا في لحظة ما أن تطوراً لافتاً حصل حين سمح لهم بالتخاطب بلغتهم الأصلية وتعليم أولادهم بها ونشر تراثهم الحضاري وفي مرحلة تطور لاحقة صار لهم الحق في ممارسة الحكم الذاتي أو المزيد من الحرية في إدارة محلية للمناطق الخاصة بهم، ما حدى ببعضهم إلى مطالبة بالانفصال.
جدير بالذكر إن الإسلام كان أول نظام حكم تعامل مع الأقليات بشكل يحفظ ذاتهم وحريتهم في العيش الكريم، فعند دخول النبي الأكرم (ص) إلى المدينة وجد اليهود فوضع في الوثيقة بنوداً تخص حريتهم في الدين والمعتقد وتعليم أولادهم بكل ما لكلمة الحرية من معنى، فالله سبحانه يقول في محكم كتابه العزيز (لا أكراه في الدين) وفي العراق يعود وجود الأقليات إلى زمن بعيد جداً حيث يحدثنا التأريخ بوجود المسيحيين والايزيديين والشبك وغيرهم قد استوطنوا في كل المحافظات العراقية تقريباً وبالخصوص الشمالية منها وغيرهم كثير جداً، ولم يكن هؤلاء إلا جزء من هذا المجتمع إذ عاشوا في ظل حكومات مختلفة وعايشوا جميع المراحل التاريخية التي مر بها بلدنا العراق.
كما ونجد الأقليات قد مرت بأدوار تطور عديدة منذ نشوء الدولة العراقية ففي العام 1925 وصدور القانون الأساسي العراقي أو الدستور الأول للبلاد الذي أورد في المادة السابعة والثلاثون ذكر الأقليات وجاء نصها بالاتي (يكون انتخاب النواب بقانون تعيين فيه كيفية ترشيح النواب والتصويت السري في انتخابهم ووجوب تمثيل الأقليات المسيحية والموسوية) وبهذا النص المشرع العراقي لم يلتفت إلى الأقليات القومية أو الاثنية والدينية الأخرى كالأزيديين والصابئة ولعل الأمر يعكس قلة عددهم آنذاك، بيد إن هذا لا يعد عذراً للمشرع فكان الأولى إما إطلاق العبارة بلا أمثلة أو ذكر الجميع في صلب الدستور.
وفي الدساتير اللاحقة لم يكن هنالك من نص خاص بالأقليات، واتسمت المرحلة بالصراع بين الشعب العراقي عامة والنظام الدكتاتوري الحاكم وكان الكرد والتركمان وغيرهم ضحايا جور الحاكم واستبداده شأنهم شأن بقية أفراد الشعب العراقي، إذ حاول النظام الدكتاتوري طمس معالم بعض الأقليات بمنع التعليم سوى باللغة العربية إلا في حدود ضيقة جداً وضمن شروط صعبة، وترحيلهم إلى أماكن بعيدة عن مناطق سكناهم بل تطور الأمر إلى حد خطير حين تم تجريد البعض منهم من الجنسية العراقية وتسفيرهم خارج العراق بحجج واهية استند إليها مجلس قيادة الثورة المنحل في إصدار قراره المشؤوم (666) لسنة1980.
كما دخل النظام المباد في صراع دموي مع القوى الكردية كان من نتائجه المزيد من قمع الأقليات الموجودة في شمال العراق مع الكرد، وبعد ذلك صدر دستور العراق المؤقت لعام 1970 فنص في المادة الرابعة منه على أن (يتكون الشعب العراقي من قوميتين رئيسيتين هما القومية العربية والقومية الكردية ويقر هذا الدستور حقوق الشعب الكردي القومية والحقوق المشروعة للأقليات كافة ضمن الوحدة العراقية).
إلا إن هذا النص بقي حبرا على ورق حتى التغيير الشامل العام 2003 حين صدر الدستور العراقي للعام 2005 والذي يعد نقلة نوعية لحقوق الأقليات، إذ ورد في المادة (2/ثانياً/ يضمن هذا الدستور الحفاظ على الهوية الإسلامية لغالبية الشعب العراقي كما يضمن كامل الحقوق الدينية لجميع الأفراد في حرية العقيدة والممارسة الدينية كالمسيحيين والايزيديين والصابئة المندائيين)، وفي النص ذكر لأهم الأقليات في العراق وفي ذلك تطور ملحوظ ثم أردفت المادة (3) القول إن (العراق بلد متعدد القوميات والأديان والمذاهب) وأضافت المادة الـ(4)، إن (اللغة العربية والكردية هما اللغتان الرسميتان للعراق ويضمن حق العراقيين بتعليم أبناءهم باللغة الأم كالتركمانية والسريانية والارمنية في المؤسسات التعليمية الحكومية وفقاً للضوابط التربوية أو بأية لغة أخرى في المؤسسات التعليمية الخاصة.....اللغة التركمانية والسريانية لغتان رسميتان أخريان في الوحدات الإدارية التي يشكلون فيها كثافة سكانية.....خامساً/ لكل إقليم أو محافظة اتخاذ أية لغة محلية أخرى لغة رسمية إذا أقرت غالبية سكانها ذلك في استفتاء).
وعلى الصعيد الدولي لم نجد إن المجتمع الدولي كان متحمساً لضمان حقوق الأقليات بدليل إن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان للعام 1948 لم يورد هذا المصطلح في ثنايا مواده الثلاثون وان كان قد كفل حق المعتقد والحرية في ممارسة الدين والشعائر والتعليم وغير ذلك، إلا إن النصوص كانت عامة وليست خاصة بهذه الفئة، ويعد العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية أول وثيقة دولية تتحدث صراحة عن حقوق هذه الفئة في مادته (27) والتي جاء فيها ما نصه (لا يجوز في الدول التي يوجد فيها أقليات اثنية ودينية ولغوية أن يحرم الأشخاص المنتسبون إلى الأقليات المذكورة من حق التمتع بثقافتهم الخاصة أو المجاهرة بدينهم أو إقامة شعائره أو استخدام لغتهم بالاشتراك مع الأعضاء الآخرين في جماعتهم)، وورد نص مماثل في اتفاقية حقوق الطفل للعام 1989 المادة الثلاثون.
بيد إن ما سبق لم يعطي للأقليات حق الانفصال أو المطالبة بالانفصال، إنما هو اعتراف دولي من الأمم المتحدة والمجتمع الدولي بحق هذه الجماعات في التعبير عن ذاتها وهويتها وثقافتها وتنميتها وتعليمها للأجيال القادمة وممارسة حقهم في التعبير عن ذلك سراً أو جهراً فرادى أو جماعات، وما يحصل في الحالة العراقية معقد بعض الشيء إذ يعمد بعض السياسيين في إقليم كردستان إلى المطالبة بالانفصال عن العراق وتشكيل دولة قومية كردية إلا إنها وحسب ما يبينون في أدبياتهم تضم مناطق في نينوى وكركوك وواسط وديالى وتلك الأماكن تكاد تضم أغلب فئات الأقليات الدينية والعرقية واللغوية في العراق، ولا ندري السبب في إصرار أولئك على ضم هذه المناطق إلى الإقليم وهل أخذوا بنظر الاعتبار رأي السكان الأصليين أم أنهم يسعون إلى فرض سياسة الأمر الواقع عليهم؟
من جهة أخرى هل يعد الانفصال مشروعاً ؟ نقول ان الجواب حتماً بالسلب فلا يعد ما يقوم به ساسة الإقليم حق تقرير مصير كما يدعون، بل أنهم يتمسكوا بميثاق الأمم المتحدة للعام 1945 وبالتحديد المادة الأولى منه البند الثاني والذي تناول أحد أهداف المنظمة (إن من الأهداف إنماء العلاقات الودية بين الأمم على أساس احترام المبدأ الذي يقضي بالمساواة في الحقوق بين الشعوب وبان يكون لكل منها تقرير مصيرها وكذلك اتخاذ التدابير الأخرى الملائمة لتقرير السلم العام).
وعند تأمل ما تقدم يتبين إن المقصود بتقرير المصير هنا للشعوب المستعمرة وحق حركات التحرر الوطني بمقاومة الاستعمار أو الدول التي وضعت تحت نظام الانتداب في عهد عصبة الأمم ونظام الوصاية في عهد الأمم المتحدة ولا شأن له بالدول المستقلة بدليل أن الأمم المتحدة رفضت في أكثر من مناسبة استقلال أقاليم معينة كما حصل في حالة الصحراء الغربية مثلاً، أضف لذلك ما صدر عن الجمعية العمومية في قرارها المرقم (1514) للعام 1960 المعروف بقرار تصفية الاستعمار إذ ورد فيه (ضرورة إقامة علاقات ودية على أساس احترام مبادئ تساوي جميع الشعوب في الحقوق وحقها في تقرير المصير واحترام مراعاة العاملين حقوق الإنسان والحريات الأساسية للناس جميعاً بدون استثناء بسبب العرق أو الجنس أو اللغة أو الدين... وورد في نص القرار ما يأتي:
1- إن إخضاع الشعوب للاستعباد الأجنبي يشكل إنكار لحقوق الإنسان الأساسية ويتناقض مع ميثاق الأمم المتحدة.
2- لجميع الشعوب الحق في تقرير مصيرها ولها بمقتضى هذا الحق تحديد مركزها السياسي..
3- لا يجوز أبداً أن يتخذ نقص الاستعداد في الميدان السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو التعليمي ذريعة لتأخير الاستقلال.
4- يوضع حد لجميع أنواع الأعمال المسلحة أو التدابير القمعية الموجهة ضد الشعوب التابعة لتمكنها من الممارسة الحرة والسلمية للاستقلال.
5- كل محاولة تستهدف التقويض الجزئي أو الكلي للوحدة الوطنية والسلامة الإقليمية لبلد ما تكون متنافية مع مقاصد الأمم المتحدة).
ومن هذا القرار نفهم المقصود بحق تقرير المصير الذي ورد في ميثاق الأمم المتحدة فهو حق خالص للشعوب المستعمرة فحسب، أما الانفصال فهو غير مشروع، وورد في قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة المرقم (2625) لسنة 1970 والخاص بإنماء العلاقات الودية بين الدول النص على عدم شرعية حركات الانفصال التي تقوم بها الجماعات التي تعد جزء من شعب دولة ما طيلة فترة تاريخها، وكذلك ورد في قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم (135) لسنة 1992 المعنون بحقوق الأقليات (المادة الأولى/يكون للأشخاص المنتمين إلى أقليات قومية أو اثنية أو دينية أو لغوية الحق في التمتع بثقافتهم الخاصة وإعلان وممارسة دينهم الخاص واستخدام لغتهم الخاصة سراً وعلانية بحرية ودونما تدخل بأي شكل، بينما أكدت المادة الثامنة على أنه لا يجوز بأي حال تفسير أي جزء من هذا الإعلان على انه يسمح بأي نشاط يتعارض مع مقاصد الأمم المتحدة ومبادئها بما في ذلك المساواة في السيادة بين الدول وسلامتها الإقليمية واستقلالها السياسي).
كما إن الدستور العراقي للعام 2005 أكد وحدة العراق في العديد من النصوص بدءاً من المادة الأولى التي صرحت ان هذا الدستور ضامن لوحدة العراق ومروراً بالمادة الثالثة عشر التي عدت أي نص في دساتير وقوانين الأقاليم والمحافظات يتناقض مع الدستور لا قيمة له وانتهاءً بالمادة السابعة والستين التي نصبت رئيس الجمهورية كحامي ومحافظ على الدستور، أضف لما تقدم ان هذه الوثيقة الدستورية منحت إقليم كردستان والأقليات في المحافظات الأخرى حقوقاً كثيرة جداً إذ ورد بالمادة (116).
إن النظام الاتحادي في جمهورية العراق يتكون من عاصمة وأقاليم ومحافظات لا مركزية وإدارات محلية، وأردفت المادة (117) إن هذا الدستور يقر عند نفاذه إقليم كردستان وسلطاته القائمة إقليما اتحادياً، وأضافت المادة (120) إن الإقليم سيضع دستور يحدد هيكل سلطات الإقليم وصلاحياته وآليات ممارسة تلك الصلاحيات على ان لا يتعارض ذلك مع الدستور، وحددت المادة (125) وضع الأقليات بمنحهم الحق بالإدارة الذاتية والتي سميت بـ(الإدارات المحلية)، إذ ورد النص على ان (يضمن هذا الدستور الحقوق الإدارية والسياسية والثقافية والتعليمية للقوميات المختلفة كالتركمان والكلدان والآشوريين وسائر المكونات الأخرى وينظم ذلك بقانون)، من كل ما تقدم نجد ان حقوق الأقليات قد تطورت في الآونة الأخيرة وإنها وصلت إلى مراحل متقدمة وان محاولات تمزيق العراق وتجزئته لا تصب حتماً في حقوق هذه الفئة من الشعب العراقي للأسباب الآتية:
1- سيؤدي الانفصال إلى تمزيق الأراضي والمناطق التي تسكنها الأقليات لاسيما في الموصل وكركوك وواسط وديالى.
2- سيؤدي إلى تمزيق الأسر والعوائل والعشائر التي تجمع الأقليات لكونها تنتشر على مساحة العراق كله وبعض أفرادها يسكنون العاصمة او مدن الوسط والجنوب فهنالك نسبة كبيرة من الايزيديين مثلا يقطنون محافظتي ذي قار وميسان وعدد كبير جداً من المسيحيين في محافظة البصرة.
3- سيمس الانفصال حق ممارسة الشعائر الدينية للأقليات لوجود معابدها ومزاراتها المنتشرة في كل العراق والانفصال سيتسبب في تجزئة تلك الأماكن بين دولتين.
4- سيمس الانفصال الحقوق السياسية والإدارية للأقليات إذ يتجاذب الإقليم حزبين كبيرين يتعاقبان على السلطة منذ العام 1992 ولبعض قادة الحزبين نعرات قومية واضحة ولا يوجد تقبل للرأي والفكر الآخر ما يعرض تلك الأقليات لخطر العصف بمعتقداتها وآراءها السياسية ويجبرهم على الانخراط في دولة مركزية تصادر حقوقهم الإدارية في الإدارة المحلية والدينية التي اقرها الدستور العراقي للعام 2005 ومنها ما ورد بالمادة (125) الخاص بالإدارات المحلية والمادة (103) الخاصة بإدارة أوقافهم ومحال عبادتهم والتي ترجمت إلى القانون رقم (58) لسنة 2012 قانون أوقاف الديانات الأخرى.
ومن كل ما تقدم نوصي العقلاء من قادة الأقليات الدينية وقادة الأحزاب الكردية بضرورة احترام كيان الأقليات وعقائدها ولغتها وتراثها الثقافي وفسح المجال إليهم واسعاً لإدارة شؤونهم الخاصة بنحو من اللامركزية.
.....................................
اضف تعليق