q

وأنا أتابع التطورات المتلاحقة لحظة بلحظة، من مدينة العوامية في محافظة القطيف شرق السعودية، هاجت بيّ الذاكرة وأعادتني الى عام 1980 عندما وجد صدام نفسه وجهاً لوجه مع شريحة واسعة من المجتمع العراقي، وهو في بدايات تسلّمه منصب رئاسة الجمهورية وتحقيق حلمه القديم، فأوسع فيه تقطيعاً وتمزيقاً لإزالة أي بوادر خطر تهدد حياته السياسية، والخطوة الاساس في هذا الطريق؛ فصل المجتمع عن كل من يُشك في ولائه لـ "الحزب والثورة"؛ مفهوماً وواقعاً على الارض بوسائل عدّة لسنا بوارد الخوض فيها، حتى بلغ في خطته مرتبة أن يتبرأ الأخ من أخيه والوالد عن ولده بل حتى الزوجة عن زوجها، ليتم تأسيس ثقافة اجتماعية غريبة تجعل الانسان المصلي في المسجد او الزائر لأحد المراقد المقدسة، او الذي يطالع الكتب الفكرية والثقافية المطبوعة خارج المطابع الحكومية، او حتى المجتمعين في دار لقراءة الدعاء او الاستماع الى مجلس حسيني، كل هؤلاء وأمثالهم، خارج الحماية الاجتماعية، وأي إجراء يتعرض له من قبل السلطة، من اعتقال او تعذيب ثم اعدام، يكون مبرراً لأنه هو الذي جنى على نفسه ودفع بالسلطات لهكذا قرار بحقه، وإلا فان سائر افراد المجتمع يعيشون بشكل طبيعي، من طلاب وعمال وفلاحين وموظفين وكسبة وغيرهم.

بالرغم من عدم وجود إحصائية دقيقة للتعداد السكاني للشيعة في المنطقة الشرقية من السعودية، بيد أن بعض التقديرات تفضي الى وجود حوالي مليوني انسان شيعي في القطيف والاحساء والدمام، وهي المحافظات الثلاث شرق السعودية، ومن بين مدن وبلدات عدّة، تتعرض مدينة صغيرة في محافظة القطيف، وهي العوامية، وفي دائرة محددة جداً؛ حي المسورة التابع لهذه المدينة، لهجمة شرسة غير مسبوقة من السلطات الحاكمة منذ حوالي ثلاثة أشهر بدعوى تنفيذ مشروع عمراني يقضي بإزالة حي المسورة، وهو من الاحياء القديمة والتراثية في العوامية، وبعد شدّ وجذب بين السلطات والأهالي الرافضين للتخلّي عن منازلهم، تسبب الاصرار السعودي على الهدم، الى إثارة حفيظة شريحة من الشباب معلنين تحديهم للقرار ومواجهة آليات الهدم وما تساندها من قوات عسكرية حتى لو اقتضى الامر مواجهتها بالقوة.

الاخبار الواردة من حي المسورة ومن مدينة العوامية، تعيد الى الذاكرة مشاهد الانتفاضة الشعبانية في العراق عام 1991، حيث جثث الشهداء في الشوارع والطرقات، والجرحى يبحثون عمن ينقذهم، وقد تم إحراق وهدم المئات من الدور والمتاجر والسيارات وممتلكات الناس، أما الاهالي المتبقين فهم يكابدون منذ ثمانين يوماً حتى الآن، من انقطاع الماء والكهرباء، فيما يتعرضون لنيران القذائف ويحاصرهم رصاص القناصين من فوق أسطح المدارس والبنايات العالية، حتى لا يقوى أحد على التحرك، حتى لسحب جثامين الشهداء ودفنها، وقد تم نشر إعلان للأهالي مؤخراً الراغبين بالمغادرة بالخروج من البيوت في ساعات محددة يكونوا فيها بمأمن من رصاص القناصة السعوديين!

وعندما يُثار موضوع كهذا، او يتم تداوله خبرياً واعلامياً، يقفز السؤال الاستنكاري لدى البعض؛ عما الذي فعله هؤلاء ليكون جزائهم بهذا الشكل؟ ولكن لا يسأل أحد عن سبب ارتكاب السلطات السعودية لهذه الجرائم؟ وما يجب فعله للضغط باتجاه الادانة، على الاقل، إن لم نقل بإجبار السلطات السعودية تجميد اجراءاتها القمعية المعتادة عليها.

هنالك اسباب عدّة تدفع بهذا البعض لهذا النوع من التساؤل، أهمها؛ الاحتكام الى لغة القوة وليس الى المنطق والعقل، فالشعوب في بلادنا – بشكل عام- ليست ذات شأن في بناء الدولة، فهي مستهلكة اقتصادياً ومستهلكة سياسياً واعلامياً ايضاً من قبل السلطة الحاكمة، ولا مجال لها – في معظم الاحيان- في إبداء الرأي او الاعتراض والانتقاد فيما يتعلق بالامور الكبرى والمصيرية، ولذا فان افكار مثل؛ "التحدي" او "الصمود" وغيرها من مفردات المعارضة للنظام الديكتاتوري الظالم، تبدو عاطفية تجتذب بعض مشاعر التضامن، اكثر مما هي حقيقة انسانية جربتها أمم وشعوب على مر التاريخ، والتي نجحت منها، أطاحت بعروش وامبراطوريات عظمى كانت تظن أنها خالدة مع الزمن، لانها كانت تتصور ان فكرة الصمت والخنوع تدوم، وأن {ما أريكم إلا ما أرى}، تتحول الى نظرية اجتماعية وسياسية تتبعها الاجيال.

ألا تكفينا تجارب "الربيع العربي" مع ما شابها من شوائب! شخصيات مثل زين العابدين بن علي، ذلك الرجل المخابراتي الدموي الذي شغل في بداية مشواره السياسي وزارة الداخلية في عهد بورقيبة في ثمانينات القرن الماضي، ثم تسلّق الى قمة السلطة، او مثل حسني مبارك، العسكري المخضرم الذي تصور أنه استحال صنماً حجرياً لا يُقدّ منه، واذا به يجد نفسه ملقى على أرضية قفص الاتهام، فيما طوى النسيان اسم بن علي الى الابد واختفى عن شعبه وعن العالم بعد هروبه الى السعودية وكأنه لم يكن بالأمس، وحتى صدام حسين في العراق، الذي اختبر العراقيون، ولأول مرة منذ ثلاثين عاماً، عنجهيته وبطولاته وادعاءاته، في الانتفاضة الشعبانية، بعد أن سيطروا على عديد المدن في الجنوب الوسط وانتزعوا السلطة منه لأيام قلائل، فوجدوه أقرب الى واشنطن منه الى الشعب العراقي، ولذا وصله سريعاً طوق النجاة وبقي لفترة أخرى في القصر الجمهوري.

وما أشبه اليوم بالأمس العراقي؛ دعوات تخرج من شخصيات وجماعات غير معروفة عبر وسائل التواصل الاجتماعي تدعو سكان العوامية بالتخلّي عن بيوتهم ومغادرة المدينة مصطحبين أوراقهم الثبوتية فيما يتعلق بالعقار، ليتسنّى للسلطات السعودية بعد الانتهاء من "العملية الامنية" من تحديد التعويضات، وقد فعلها صدام قبل أقرانه السعوديين، عندما اعترف بعظمة لسانه أمام المحكمة بأنه جرّف بساتين الدجيل انتقاماً من أهلها لتعرضه لمحاولة اغتيال من هذه البساتين، وقال مخاطباً القاضي: "أنا الذي جرّفت بساتين النخيل ثم عوضتهم عنها وأكثر من ذلك، فهل هذا جرم..."؟!

ربما هذا الاجراء الصدامي، لاقى ترحيباً من الكثير في حينها، كون الرصاص انطلق من بين نخيل تلك البساتين، فلابد من تصفيتها، ثم ان الرئيس عوض اصحابها بشكل مضاعف، فهذا تعد مكرمة ما بعدها مكرمة، غاضين النظر عن عدد الضحايا الذي سقطوا خلال عمليات الاعتقال والتنكيل التي طالت أهالي الدجيل بعد تلك الحادثة.

إن الشريحة المثقفة والواعية في القطيف والمنطقة الشرقية في السعودية، من علماء دين وكتاب ووجهاء وخطباء، ثم في دائرة أوسع؛ المؤسسات الثقافية والدينية في جميع الدول الاسلامية، وفي جميع انحاء العالم، من شأنها التأثير بشكل فاعل على السياسات القمعية والطائفية لحكام الرياض.

وقد بلغني مؤخراً أن احد الكتاب البارزين من الشيعة في احدى الصحف السعودية، اقترح في مقال له، بإجراء التفاوض مع "داعش" في الموصل بدلاً من خوض الحرب معها لتسوية الامر سياسياً! بدعوى عدم خوض الحرب والتسبب بالدمار، فهل إن الاطفال والنساء اللاتي يتعرضن للرصاص ونيران القذائف والظلام والعطش والهلع الشديد، بأقل شأناً من سكان الموصل الذي عاشوا في ظل حكم "الدولة الاسلامية" طيلة ثلاث سنوات؟!

ثمانون يوماً من حصار العوامية، ولم تترك القوات العسكرية الغاشمة وسيلة قمع وتنكيل إلا واستخدمتها، بدءاً من أطلاق الرصاص على خزانات المياه على أسطح البيوت، مروراً بتعطيل عمل الدفاع المدني وإغلاق المراكز الصحية والمستشفيات وحرق البيوت والممتلكات وترويع الناس، ولم يصل الى أسماع حكام الرياض صوتاً يستحق الذكر يعبر عن استنكار شديد وضغوط سياسية واعلامية داخل السعودية وخارجها وفي جميع انحاء العالم، فهل نظرية الصمت هذه لها علاقة بالنظرية الديمقراطية التي يجربها البعض في بلادنا الاسلامية؟

اضف تعليق