جان فيرنر مولر

 

فيينا ــ باختيارها وكامل إرادتها، جردت رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي حزبها (حزب المحافظين) من أغلبيته البرلمانية، عندما دعت إلى انتخابات مبكرة. وفي حال بقائها رئيسة للوزراء، فسوف تجرد المواطنين البريطانيين أيضا من الحقوق السياسية والاقتصادية التي تمنحهم إياها عضوية الاتحاد الأوروبي. ولكن عادة ماي في تجريد الناس من حقوقهم وصلاحياتهم ليست جديدة: فلسنوات كانت عاكفة على تطبيع ممارسة تجريد بعض البريطانيين من جنسيتهم تماما، حتى وإن عرضهم هذا لخطر التحول إلى عديمي الجنسية "مواطنين بلا وطن".

خلال الحملة الانتخابية التي انتهت للتو في المملكة المتحدة، وَعَدَت تيريزا ماي بتغيير أو إلغاء أي قوانين خاصة بحقوق الإنسان "تعترض طريق" محاربة الإرهاب. وهو تهديد يمكن تصديقه: فقد حملت ماي ذاتها لواء الريادة في ممارسة سحب جنسية الأفراد، وعادة باسم الأمن الوطني، ولكن في بعض الأحيان كشكل من أشكال العقاب الرمزي.

إن حرمان الناس من جنسيتهم تصرف غير أخلاقي ــ وغير فعَال. وكان تاريخ هذه الممارسة مظلما. فخلال القرن العشرين، سجلت الدول الاستبدادية أرقاما قياسية في التجريد من الجنسية: ففي الاتحاد السوفييتي وحده، جُرِّد 1.5 مليون شخص من جنسيتهم.

ولم تقتصر هذه الممارسة على الأنظمة غير الديموقراطية. فكما أظهر الباحث الفرنسي باتريك ويل، أفضت القوانين التي استنت في الولايات المتحدة في أوائل القرن العشرين إلى 140 ألف حالة تجريد من الجنسية على الأقل. وكان المقصود من هذه القوانين رسميا منع الناس من اكتساب الجنسية عن طريق الاحتيال؛ ولكنها في واقع الأمر استخدمت أيضا لفرض الولاء للدولة. في عام 1909، كانت الفوضوية النسوية إيما جولدمان أول أميركية تُجَرَّد من جنسيتها لأسباب سياسية في الأساس.

قبل الحرب العالمية الثانية والهولوكوست (المحرقة)، كان قِلة من الناس يشعرون بالقلق المفرط إزاء حقيقة مفادها أن التجريد من الجنسية ربما يجعل الناس عديمي الجنسية ومحرومين مما أطلقت عليه هانا أرندت وصف "الحق في الحصول على الحقوق". ولكن بعد عام 1945، استُحدِثَت أدوات قانونية جديدة لإزالة حالات انعدام الجنسية.

وفي سلسلة من القرارات التاريخية، جعلت المحكمة العليا في الولايات المتحدة من المستحيل فعليا انتزاع الجنسية الأميركية من أي شخص ضد إرادته. وكما أوضح قاضي المحكمة العليا هوجو بلاك في عام 1967، "في بلدنا، يتمتع الناس بالسيادة ولا يجوز للحكومة أن تقطع علاقتها بالناس بتجريدهم من جنسيتهم".

ومع ذلك، انتشرت الدعوات المطالبة بالتجريد من الجنسية في مختلف أنحاء الغرب في السنوات الأخيرة، حيث أصبح العديد من الساسة ينظرون إلى التجريد من الجنسية باعتباره سياسة مشروعة في محاربة الإرهاب. على سبيل المثال، بعد هجمات نوفمبر/تشرين الثاني 2015 في باريس، حاول الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند آنذاك إقحام فقرة التجريد من الجنسية على الدستور الفرنسي، ولكنه فشل (وهو الجهد الذي بات نادما عليه، لأنه أثبت أنه أكثر إثارة للانقسامات من كونه موحدا للبلاد).

ولكن لم تتفوق أي دولة أخرى على المملكة المتحدة في جعل التجريد من الجنسية إجراءً روتينيا في محاربة الإرهاب. ووفقا للباحث باتريك ويل، جَرَّد مكتب وزير الداخلية في المملكة المتحدة في الفترة من 2006 إلى 2015 ثلاثة وخمسين مواطنا بريطانيا من جنسيتهم؛ وقُتِل اثنان منهم على الأقل في هجمات بطائرات أميركية بدون طيار.

اليوم تعتمد المملكة المتحدة حاجزا منخفضا للغاية لإلغاء الجنسية. فلا يحتاج وزير الداخلية لأكثر من "الاقتناع بأن هذا الحرمان يفضي إلى الصالح العام". ومنذ عام 2014، تمكن وزير الداخلية من إسقاط جنسية مواطنين بريطانيين حتى ولو كان القيام بذلك يجعلهم على الفور عديمي الجنسية، ما دامت هناك "أسباب معقولة" للاعتقاد بأن الشخص قادر على اكتساب الجنسية في مكان آخر. وعندما كانت تيريزا ماي وزيرة الداخلية في الفترة من 2010 إلى 2016، كانت تجرد البريطانيين من جنسيتهم عادة أثناء وجودهم خارج البلاد، الأمر الذي يجعلهم محرومين من أي وسيلة للطعن في أسباب القرار.

من المؤكد أن سياسات التجريد من الجنسية كانت شائعة؛ حتى أن الإصلاح الدستوري الذي اقترحه هولاند حظي بتأييد 80% من الشعب الفرنسي عند مرحلة ما. ولا شك أن هذا يعكس دافعا واسع النطاق لتوقيع شكل ما من أشكال العقاب ضد أولئك الذين يرتكبون أعمالا إرهابية. ويعتقد كثيرون أن أي شخص يرتكب مثل هذه الجريمة يتنكر فعليا للعقد الاجتماعي.

ولكن هذا هو على وجه التحديد السبب الذي يجعل من الضروري ترك البت في الأمر للنظام القضائي الجنائي، الذي يضمن الإجراءات القانونية الواجبة على النحو الذي لا يمكن توفيره من خلال مكتب حكومي يتبع معايير غير واضحة. وينبغي لأي دولة موقعة على معاهدات دولية مناهضة للتجريد من الجنسية أن تحد فنيا من تجريد الأشخاص من ذوي الجنسية المزدوجة من جنسيتهم؛ ولكن إذا فعلت ذلك، فإنها بهذا تتصرف بطريقة لا تخلو من التمييز.

إن نزع جنسية "المواطنين الفاشلين" الذي ارتكبوا أعمالا إرهابية غير مناسب أيضا باعتباره لفتة رمزية. وكما أشار المنظر السياسي النمساوي راينر بوبوك، كان ليعد من قبيل الانحراف الشديد أن تجرد ألمانيا أو النمسا هتلر من جنسيته بعد وفاته.

والتجريد من الجنسية إجراء غير عملي أيضا. فبدلا من تحمل المسؤولية عن مواطنيها، ومعاقبتهم على جرائمهم، تتخلص المملكة المتحدة من أفراد من المحتمل أن يمثلوا خطورة بالغة على حساب دول أخرى. وعندما يحمل شخص ما جوازات سفر متعددة من دول تطبق قوانين التجريد من الجنسية، فربما تستفز مثل هذه الأحكام سباقا حيث "يذهب المواطنون إلى الخاسر" على حد تعبير أودري ماكلين من جامعة تورنتو.

وهذا لا يعني أن الدول لا يتعين عليها أن تقيد الحقوق الفردية أبدا في ملاحقة استراتيجية مكافحة الإرهاب. ولكن تدابير أخرى، مثل مصادرة جواز السفر، أكثر فعالية بأشواط من تجريده من الجنسية. فربما يكون الخيار الأخير مرضيا من الناحية العاطفية، ولكن الأمر لا يخلو من تكاليف باهظة ترتبط بما وصفه باستهزاء بيتر سبيرو من كلية تمبل للحقوق بمسمى "المسرح المرتبط بالأمن". ويقوض تجريد الناس من جنسيتهم مفهوم المواطنة عموما، من خلال النظر إليها باعتبارها ميزة يمكن إبطالها من دون إجراءات قانونية واجبة، وليس بوصفها "حقا أساسيا في الحصول على الحقوق".

على الرغم من نهجها العدواني في مكافحة الإرهاب، تقيدت الولايات المتحدة حتى الآن، مثلها في ذلك كمثل فرنسا وألمانيا، برأي رئيس المحكمة العليا وارين بيرجر القائل بأن "الجنسية ليست رخصة تنتهي صلاحيتها بمجرد إساءة السلوك". ورغم أن رئيس الولايات المتحدة دونالد ترمب طالب بـ"عقاب ــ ربما فقدان الجنسية أو السجن لمدة سنة" لأولئك الذين يحرقون العلَم الأميركي، فمن غير المرجح أن ينال مراده.

مع ذلك، ربما ينظر ترمب بإعجاب للمملكة المتحدة، إذا استمرت ماي أو آخرون غيرها في صقل وتطبيع النهج الاستبدادي الذي تتبناه الحكومة البريطانية.

* جان فيرنر مولر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة برينستون وزميل في معهد العلوم الإنسانية في فيينا، كتابه الأخير: ما هي الشعبوية
https://www.project-syndicate.org

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق