لم تزل تلك الشعوب التي اكتوت بنار الظلم والطغيان تتطلع لغد مشرق تندمل فيه جراحها وتسترد فيه حقوقها المنتهكة بإرادة الحرية والكرامة المحمولة على أجنحة الثورة أو الانتفاضة الشعبية أو حتى عبر الانتقال السلمي للسلطة تحت عنوان التحول للديمقراطية والإصلاح الشامل، لكن بعد أن تكون قد دفعت أغلى التضحيات من دماء أبناءها ثمناً باهظا لهذا التحول.
ومهما استطال ليل الطغيان وظلمه، لابد أن ينقضي أمره وينقض الحق بنيانه الهش ليعلو عندئذ صوت العدالة وتستوطن في الأرض المعمورة قيمها التي لا تطمس معالمها أو تجتث جذورها مهما دام عهد الظلم.
وإذا كان للعدالة وجوه عدة، فان للعدالة المنبثقة من عهود الاستبداد ملامح مختلفة عن نظيرتها التقليدية، كونها عدالة ذات قواعد انتقالية تمر عبرها الشعوب المضطهدة من ضفة إلى أخرى بعد أن تسترد حقوقها المصادرة، ويكون ذلك في الفترات الانتقالية للدولة من حالة نزاع داخلي مسلح إلى حالة السلم، أو الانتقال من حكم سياسي تسلطي إلى حالة الحكم الديمقراطي، او التحرر من الاحتلال الأجنبي باستعادة الحكم المحلي أو تأسيس حكم جديد، وكل هذه الحالات تواكبها بعض الإجراءات الإصلاحية الضرورية والسعي الجاد إلى جبر الضرر من الانتهاكات الخطيرة التي تعرض لها الضحايا، وهذا ما يوضح ارتباط مفهوم العدالة بمفهوم الانتقالية، أي تحقيق العدالة أثناء المرحلة الانتقالية للدولة.
من ذلك يظهر أن مفهوم العدالة الانتقالية يشير إلى كونها «مجموعة التدابير القضائية أو غير القضائية التي قامت بها دول مختلفة من اجل معالجة ما ورثته من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان. وتتضمن هذه التدابير الملاحقات القضائية ولجان التحقيق وبرامج جبر الضرر وأشكال متنوعة من إصلاح المؤسسات»(1)، وبإشارة إلى إحدى تقارير الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة فقد عرف العدالة الانتقالية «باعتباره مفهوما يتعلق بكامل نطاق العمليات والآليات المرتبطة بالمحاولات التي يبذلها المجتمع لتفهم تركة من تجاوزات الماضي الواسعة النطاق بغية كفالة المساءلة وإقامة العدل وتحقيق المصالحة، وقد تشمل هذه الآليات القضائية وغير القضائية على السواء، مع تفاوت مستويات المشاركة الدولية (أو عدم وجودها مطلقاً) ومحاكمة الأفراد، والتعويض وتقصي الحقائق والإصلاح الدستوري، وفحص السجل الشخصي للكشف عن التجاوزات، والفصل أو اقترانهما معاً».
وفي التشريعات الوطنية جرى تعريف العدالة الانتقالية في تونس بموجب القانون الأساسي لها لعام 2013، على أنها: «مسار متكامل من الآليات والوسائل المعتمدة لفهم ومعالجة ماضي انتهاكات حقوق الإنسان بكشف حقيقتها، ومحاسبة المسؤولين عنها، وجبر ضرر الضحايا، وردّ الاعتبار لهم بما يحقق المصالحة الوطنية، ويحفظ الذاكرة الجماعية ويوثقها، ويرسي ضمانات عدم التكرار، والانتقال من حالة الاستبداد إلى نظام ديمقراطي يسهم في تكريس منظومة حقوق الإنسان"(2).
ومثلما اختلفت الرؤى حول مفهوم العدالة الانتقالية، فان الاختلاف قد طال حتى تأريخ ظهورها فالبعض يؤكد بأن أول ظهور لها على مسرح الحياة السياسية في أواخر الثمانينات ومطلع التسعينات، بمطالبة دعاة حقوق الإنسان بإثبات وتوثيق الانتهاكات التي قامت بها الدكتاتوريات التي تم الإطاحة بها في أمريكا اللاتينية وشرق أوربا.
وارجع البعض فترة ظهور العدالة الانتقالية إلى زمن ابعد ذلك حينما نسبها إلى محاكمات حقوق الإنسان في اليونان سنة (1975) من القرن الماضي، ثم توالت في العديد من دول القارة اللاتينية مثل الأرجنتين وشيلي، وكذلك تجربة جنوب أفريقيا بعد ما تعرض له السكان السود من انتهاكات خلال فترة التمييز العنصري والتي كانت عن طريق لجنة (الحقيقة والمصالحة) الشهيرة سنة 1995، ويتعمق البعض أكثر في التاريخ ليجد في محاكم (نودمبرج) في ألمانيا عام 1945 لمحاكمة مجرمي الحرب من القيادة النازية النموذج الأبرز والأقدم للعدالة الانتقالية.
غير إننا نجد من عمق تاريخنا الإسلامي الصورة الأولى للعدالة الانتقالية يوم فتح النبي الأكرم صلى الله عليه واله وسلم، مكة المكرمة، وعفى حينها عن الذين أساءوا إليه ودعوته فقال قولته الشهيرة "اذهبوا فانتم الطلقاء" ليفتح في تاريخ البشرية جمعاء أروع صور التسامح والصفح ويمارس فعليا أولى صور العدالة الانتقالية التي يتغنى بها المجتمع الدولي اليوم.
وهنا قد يتبادر إلى الذهن تساؤل محوري مفاده ما الذي يميز العدالة الانتقالية عن سواها من صور العدالة؟ لنجدها تختص بكونها حالة من الصيرورة والتشكيل غير المتناهي، فكل تجربة تأخذ من سابقتها وتبدأ من حيث تنتهي مع إضافة ما يميز سماتها وخصائصها فلا يوجد نموذج متكامل للعدالة الانتقالية في أي دولة يمكن الاسترشاد به كنموذج يمكن استنساخه، ولكونها تمثل مجموعه من الإجراءات لنقل المجتمع المتحول من مرحلة منهكة إلى أخرى ديمقراطية تحول دون العودة إلى الانتهاكات والتجاوزات السابقة لحقوق الإنسان.
فهي إذن تشكل وسيلة لهدف معين وليست غاية بحد ذاتها، وأما عن فترتها فتتحدد العدالة الانتقالية بسقف زمني معين فهي فترة غير مفتوحة، وغالبا تقتصر على فترة التحول الديمقراطي، وتتميز إجراءاتها بالنسبية فهي تكون مرتبطة بظروف الزمان والمكان لكل تجربة على حدا، فكلما ارتفع مستوى القمع والإرهاب والانتهاكات لحقوق الإنسان، كلما تطلب ذلك إجراءات فعالة أكثر.
وسلوك طريق العدالة ليس بالأمر السهل، إذ إن هناك مراحل وطرق يجب إتباعها وسلوكها للوصول إلى الهدف وإرجاع ما تم سلبه من حقوق لاسيما ونحن نتحدث عن مجتمع انتهكت فيه المواطنة لسنوات وأعوام، فانعدمت فيه ثقة المواطن بمؤسسات الدولة وقدرتها على استرداد حقوقهم المنتهكة، وهكذا تضحى عملية استرجاع الثقة بمؤسسات الدولة وفاعليتها في هذا المجال أصعب بكثير من تجربة العدالة برمتها، لذا يستلزم الأمر لتحقيق العدالة الانتقالية تبني إحدى الطرق الآتية:
أولا/ الدعوى الجنائية: من خلال المطالبة بالتحقيق مع المسؤولين عن انتهاكات حقوق الإنسان بإقامة دعاوى جنائية، مع تركيز تلك الدعاوى على المتنفذين في الدولة أو كما يصح تسميتهم (رأس الهرم) لأنهم من مراكزهم عالية المقام ونفوذهم المتسلطة يتحملون الجزء الأكبر من المسئولية عما ارتكب من جرائم بحقوق الشعب، بالتنفيذ بوساطة المستويات الدنيوية من الحكومة التي كانت تسيطر عليهم الدولة الذين كانوا يعتبرون (كبش فداء) للرؤوس الكبيرة في الدولة، فحين تقوم القيامة ويأتي وقت الحساب تتجرد هذه الرؤوس من المسؤولية ليتحملها الصغار من المسؤولين أو الموظفين في الدولة، لذا يجب البدء بمحاكمة علية القوم لأنهم أولا وأخيرا لو فرضنا ليس لديهم يد بهذه الانتهاكات فعلى اقل تقدير ممكن معاقبتهم لضعف سياستهم ولعدم حفاظهم على هذه الحقوق.
ثانياً/ لجان الحقيقة: وهي لجان تتشكل بشكل رسمي للبحث في وقائع انتهاكات حقوق الإنسان، والأسباب والنتائج، وتعطي الأولوية والأهمية لشهادة الضحايا، على أن تكفل لهم الحماية اللازمة، وعلى تلك اللجان المساهمة في الملاحقات القضائية، وتحديد ما تطلبه المؤسسات من إصلاح وجبر ضرر الضحايا، بعد أن تعرض النتائج التي خرجت بها، وعليها إصدار توصيات للحكومة لتطبقها، وعند تشكيل تلك اللجان يجب مراعاة ضمان استقلاليتها بعيدا عن أي تدخلات، ويتم اختيار أعضائها ممن يتمتعون بسمعة مهنية عالية وشفافية وأخلاقية لا غبار عليها.
ثالثا/ برامج التعويض (جبر الضرر): بإعادة حقوق الضحايا التي تم انتهاكها، وجبر الأضرار التي لحقت بهم، وهي لا تعتبر حسنة تعطى لهم، لذلك يجب أن تعلن الدولة اعترافها بها (أي بانتهاك تلك الحقوق) وانه حق تم استرجاعه وما جبر الضرر إلا جزء من استرجاع هذا الحق، فلا تمن الدولة بذلك على مواطنيها، وبعد الاعتراف لابد من وجود إعانات حقيقية للضحايا، وإعادة تأهيلهم للعودة إلى المجتمع مع ضمانات بعدم تكرار هذه الانتهاكات، مع ضرورة التأكيد على محاسبة المسؤولين جزائيا عن هذه الانتهاكات، لأنه من غير محاسبة المسئولين تعتبر جبر الضرر وعد أجوف، لأنه قد يتم مساومة الضحايا بالتنازل عن حقوقهم مقابل الإعانات المقدمة لهم، التي هي في الأصل جزء من حقوقهم.
رابعا/ الإصلاح المؤسسي: بإعادة هيكلة مؤسسات الدولة على أساس من احترام حقوق الإنسان، والمحافظة على سيادة القانون، وتخضع جميع المؤسسات إلى المحاسبة والإصلاح، مع تعطيل البنى والأسس التي أتاحت وسمحت بحدوث تلك الانتهاكات، وبهذه العملية سوف يتم ضمان أدنى حد من معايير النزاهة، ولإصلاح المؤسسات يجب فحص أهلية الموظفين للتخلص من الفاسدين ومعاقبتهم، إعادة هيكلية المؤسسة بحيث يصبح هناك ضمان للمحاسبة والاستقلالية والشفافية في عملها ومن خلال موظفيها ومرؤوسيها، وأخيرا اعتماد تعديلات دستورية أو معاهدات دولية لضمان حقوق الإنسان.
خامسا/ تخليد الذكرى: وذلك باعتماد على إنشاء متاحف ونصب تذكارية تحفظ الذكرى العامة للضحايا، ولترفع مستوى الوعي الأخلاقي والقومي بشأن جرائم الماضي حتى لا تتكرر، وتذكر الجيل القادم والأجيال التي تتوالى بأهم الانتهاكات التي تعرض لها آبائهم وأجدادهم لتبقى محفورة في ذاكرتهم للمحاربة مستقبلا لمنع أي انتهاكات جديدة في عهدهم واخذ الضمانات من حكوماتهم على ذلك.
على الرغم من الاختلاف بين تجارب الدول في تطبيق العدالة الانتقالية إلا انها تتماثل إلى حد كبير في نمط المعوقات التي تواجه تطبيق هذه العدالة ولعل ابرز هذه المعوقات هو غياب الإرادة السياسية التي تعتزم محاسبة المسئولين عن الانتهاكات في فترة الحكم السابق، التي لا يمكن الحديث عن العدالة الانتقالية لأي بلد دون وجودها، والتي تعد ديناميكية العمل لمنظومة العدالة الانتقالية، فإن لم تتوفر هذه الإرادة لن يتم تفعيل القوانين والقرارات الجديدة، او يتم استخدامها لكبح جماح المعارضة السياسية مما يؤدي إلى خلق نسخة مشوهة من النظام السابق بحلة جديدة.
وعلى الدولة لإثبات جديتها بتطبيق العدالة الانتقالية بإنشاء محاكم مختصة لمعاقبة مجرمي النظام السابق مع ضرورة استقلالية هذه المحاكم ونزع الطابع السياسي منها، فلا يمكن التأمل بتطهير المؤسسات ومحاكمة المجرمين دون ضمان استقلالية القضاء وكل من يدخل تحت عباءته من القضاة والمدعيين العاميين وغيرهم، على أن تنشأ هذه المحاكم وفق المعايير الدولية للمحاكمة العادلة، وإلا أصبحت مجرد محكمة خاصة أو استثنائية لا تحقق هدف العدالة الانتقالية الحقيقية.
ومن المعوقات التي تواجه الدول في المرحلة الانتقالية هو غياب التخطيط الاستراتيجي وعدم القدرة على صياغة القرارات وعدم قدرتها على رسم خطة إستراتيجية واضحة للدولة في فترة الانتقال من حكم إلى آخر أفضل حالا، ومن ثم فعلى الحكومة الجديدة وضع خطة إستراتيجية لمسار الدولة الجديدة، وإعطاء فكرة عن الجرائم المرتكبة وزمان ومكان وقوعها، والكشف عن هوية المشتبه بهم من مرتكبي هذه الجرائم، على أن توضع الخطة من قبل مجموعة مؤهلة ويتسم عملهم بالشفافية وإشاعة ثقافة العدالة الانتقالية وإستراتيجية المقاضاة بين أفراد تلك الدولة.
من المعوقات الأخرى التي قد تجابه الدول عند تطبيقها للعدالة الانتقالية عدم وجود نهج تقني يتناسب مع فهم جرائم النظام السابق، فهذا نوع من الجرائم يختلف جذريا عن الأنواع الأخرى من الجرائم العادية المرتكبة من حيث النوع والعدد والصياغة وهوية المجرمين، فهو قائم على مستوى عالي من الحبكة والإجرام وضحاياه لا يمكن عدهم فهو شر يصيب الشعب بأكمله، فهو ليس بجريمة قتل عادية ينحصر أبطالها بين القاتل والمقتول وأداة الجريمة فقط، وإنما تساهم مؤسسات الدولة على مستوى عالي من التخطيط والتنفيذ فيها ولا يمكن كشف أداة الارتكاب أو الهوية بأدوات البحث الجنائي العادي والشهود من الضحايا والشعب برمته.
فالمسألة ليست من السهولة التي يمكن تصورها، لهذا وجوب وجود عدد كبير من المتخصصين بالتحقيق في مثل تلك الجرائم، لان اغلب مرتكبيها من المنطوين تحت قبة السلطة وحاميها من قوات الجيش والشرطة والقوات العسكرية النظامية أو غير النظامية، وهنا يتطلب الأمر معرفة بكيفية عمل هذه المؤسسات قانونا، وتحليل تصرفاتهم والإجراءات التأديبية والقانونية في حالة خرق هذه المؤسسات للنظام العام أو كل ما يهدد الإنسانية من جرائم وانتهاكات، وكذلك يتطلب الأمر جمع الأدلة واسترجاع الوثائق وتحليلها وبطبيعة لحال سيتطلب ذلك مهارة عالية بالحفاظ على هذه الأدلة من تلاعب أشخاص موضوع التحقيق المشتبه بهم وإجهاض أي محاولة لتخريبها أو طمس معالمها، ولاحتواء كل ذلك يجب وضع خطة وإنشاء وحدة متخصصة تشمل اختصاصات متنوعة من المحاميين وخبراء عسكريين وسياسيين ومحققين على درجة عالية من الدهاء والحنكة.
وضرورة إشراك الضحايا في هذه العملية لأنه لا فائدة تذكر من العدالة الانتقالية دون وجود العنصر الأهم الذي وجدت من اجله، ضحايا جرائم الانتهاكات، وبيان أهمية مشاركتهم بالتقاضي، واعتبارهم شهود عيان على ما أصابهم من عدوان وانتهاك لإنسانيتهم مع كفالة الحماية لهم قبل وبعد المحاكمة وهو ما يسمى بمبدأ (عدم الإضرار) فالعدالة الانتقالية وجدت لهم ولا يمكن ان تكتمل دونهم.
صفوة القول في العدالة الانتقالية كونها وسيلة مهمة امتلكتها الشعوب الخارجة من تحت رماد الظلم والطغيان لاسترجاع وحماية حقوقها من الانتهاكات الجسيمة حاضرا ومستقبل، فهي إذن المعبر الحرج بين الماضي الأليم والحاضر والمستقبل المنشود، وهي في وجه آخر مشروع ووسيلة فعالة لبناء مجتمع ديمقراطي بعد صراع مرير من الانتهاكات فهي ليست عدالة من نوع خاص وإنما هي الطريقة المثلى لعبور بر الأمان في دول متحولة من حالة الصراع إلى حالة السلام وإعادة ترميم جسور الثقة بين المواطن ودولته ومؤسساتها، وآلية لاسترجاع الحقوق المسلوبة طال الزمن أو قصر، لتؤكد للشعوب المقهورة بان العدالة بتعدد أوجهها واختلاف مسمياتها سيكون لها أفق واحد هو استرجاع الحق وتكريس قيمه مهما استطال عهد الظلم والاضطهاد.
اضف تعليق