شوط طويل ومخاض عسير مرت به مسيرة الحقوق والحريات التي رفعت لواءها الشعوب المقهورة حتى انتزعت الاعتراف بها من طغيان السلطة وجاء هذا الإقرار موثقا بالإقرار الدستوري ومؤيداً بالمواثيق والإعلانات العالمية، حتى غدت هذه الحقوق اليوم شرعة عالمية ومنهاجا حكوميا ترفعه كل النظم السياسية، وغاية ترنو اليها النظم الديمقراطية بخاصة.
لكن هذا ليس كل الحكاية ولا نهاية المطاف، لان السلطة التواقة إلى التفوق والقمع الممزوج بطعم الدم وكل الشهوات، لم ولن تسلم بسهولة لتلك القيود التي تفرضها إرادة الشعوب عند المطالبة بحقوقها، ولطالما كانت هذه الأخيرة كابوسا مزعجا وقيدا على طيش السلطة وجنوحها وميلها المزمن للطغيان والاستبداد اذا ما وجدت السبيل لذلك، وعنوانه الدائم، صمت الشعب وخنوعه واستسلامه لجبروت تلك السلطة.
لقد عُرف الطغيان بتعريفات مختلفة منها (التعدي عن الحق إلى الباطل وفيه نوع من الجور، فهو انحراف عن العدل)، وقال عنه بعض الفقهاء بأنه "قسوة واعتباط باستخدام القوة"، والطاغية في نظر الشرع من (أسرف في المعاصي والقهر والظلم). والطغيان كممارسة سياسية هو الاستبداد، وتجاوز القانون وانتهاك الحقوق والحرمات، فهو يبدأ عند انتهاء سلطة القانون وقمع الحريات. وسجل التاريخ حافل بنماذج مختلفة من الطغاة يتقدمهم فرعون الذي تجاوز كل الحدود والحقوق، حتى ادعى الإلوهية، وجعل إرادته بوصلة لمصائر الرعية دون رادع أو رقيب حتى بعث الله له النبي موسى عليه السلام، ليكون صوت الحق ومنبر المقاومة الحرة؛ ولعلها سنة إلهية وكونية، فكلما برز طاغية يسلك لغاياته كل سبل القهر والقمع والجبروت، كلما ارتفع لواء المقاومة وانبعثت روحها الوثابة في النفوس لتعبر عن إرادة الحياة والخير في مواجهة عتمة الطغيان وإرادة الموت والشر الممزوجة بلظاه.
ومثلما تعددت صور ومواقيت الطغيان وآثاره، تعددت في مواجهتها صور المقاومة والتوق إلى الحرية. إذ ليس من قبيل المبالغة القول إن الحق بمقاومة الطغيان هو الأب الشرعي لكل الحقوق والحريات التي عرفتها البشرية، وما هذه الأخيرة سوى الثمرة والامتداد الحقيقي لمسيرة المقاومة التي سارت بها شعوب العالم في مقارعة طغاتها في كل زمان وحال حتى انتزعت منهم حقوقها (أي الشعوب) المستلبة، فكان حق المقاومة بمثابة المنبع الحقيقي لتدفق سائر صور الحقوق، لكونه الحق المقترن بإرادة الحياة والتوق إلى الحرية والكرامة المعبر بصدق عن صرخة المظلوم بوجه الظالم.
إن ضراوة الأثر المترتب على المقاومة أضفى على هذا الحق مكانة سامية وصدى مجلجلاً يرعب الطغاة ويزلزل أركان حكمهم في كل حال ومقال لأنه الإيذان بنهاية عصر الظلم، والإعلان عن ولادة فجر الحق والحقيقة. وهو حق أصيل لا يمكن التنازل عنه أو تجاوزه أو حتى تجزئته.
وهو الحق الذي عرفه الفقه على انه "مجموعة الأعمال الاحتجاجية التي تأتي الشعوب بها عند رفضها لواقع لا ترضى عنه وتكون تحت رحمة محتل او طاغي يسلبها كرامتها وهنيء عيشها". ومن هذا التعريف نستشف إن لمقاومة الطغيان صور عدة تختلف في اسلوبها وتلتقي عند غايتها في إزالة الظلم والتجاوز على الحقوق، ومن هذه الصور:
1- التعبير الشعبي عن الرفض لسياسات الحاكم وانتهاكاته للحقوق أو للتشريعات السائدة أو فساده المقترن مع المطالبة بتغيير هذه السياسات وإصلاح الأوضاع المنحرفة في البلاد باستخدام وسائل الإعلام والتجمعات والمحافل الرسمية وغير الرسمية.
2- التظاهر السلمي: اسلوب آخر أكثر حدة من أساليب المقاومة السلمية في التعبير عن الرفض لطغيان الحاكم، يتمظهر على هيئة تجمعات شعبية سلمية للمطالبة بالحقوق المستلبة أو إجراء الإصلاحات المنشودة.
3- الإضراب العام: هو اتفاق بين مجموعة من المستخدمين في مؤسسة معينة أو أكثر على التوقف عن العمل وعدم تنفيذ الأوامر، للإعلان عن رفضهم لموقف أو سياسة تنطوي على تجاوز للقانون أو انتهاك لحقوق هؤلاء المستخدمين أو حتى الإضرار بمصالحهم من جانب السلطة السياسية أو حتى سلطة إدارة المؤسسة التي يتنسبون إليها. وبكل الأحوال فان الإضراب يمثل اسلوب للتعبير عن إرادة المقاومة لطغيان السلطة –عامة كانت أو خاصة– أكثر حدة وجرأة من المناشدة أو التظاهر، يقع ضمن الإطار الإداري والوظيفي بالتناغم أو عدمه مع الوسط الاجتماعي العام بغية استرجاع الحقوق وردع السلطة التي تجاوزت حدود صلاحياتها المقررة قانونا.
4- العصيان السياسي (المدني): يمثل مستوى خطير من الإجماع الشعبي على الرفض الصريح والمقاطعة الشاملة للسلطة القائمة في محاولة للضغط الشعبي والسلمي عليها وإجبارها على الانصياع للإرادة العامة والتخلي عن أي مواقف أو سياسات تنطوي على تجاوز القوانين أو انتهاك الحقوق والحريات العامة. على هذا يمثل الحق بالمقاومة بمثابة الأساس الفلسفي للعصيان المدني وربما يشكل الأساس الشرعي له أيضا.
5- الثورة الشعبية: هي أوضح وأشرس مظاهر التعبير عن حق المقاومة كونها تشكل رد فعل جمعي وعنيف في مواجهة انتهاكات النظام وتجاوزاته يصل إلى حد المطالبة بتغيير النظام برمته في سبيل إعادة بناء نظام سياسي جديد يختلف عن سابقه برؤية وسياسة جديدة يتحقق بها العدل وتصان فيها الحقوق للأفراد.
وعند البحث عن الأسانيد الشرعية لهذا الحق المتأصل بالنفس الإنسانية والمقترن بنزوعها الفطري لحفظ الذات في مواجهة التهديدات الخارجية، لوجدنا ذخيرة زاخرة من النصوص الشرعية والتشريعية التي وفرت الأساس الشرعي الرصين لإقامة بنيان هذا الحق، تتقدمها الشريعة الإسلامية التي جعلت من هذا الحق الأصيل بابا من أبواب الجهاد لقوله تعالى "ومالكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا"(1)، ففي الآية الكريمة حث على تخليص المستضعفين من أيدي الطغاة المعتدين الذين يسومونهم سوء العذاب فأوجب سبحانه وتعالى الجهاد على المسلمين ليكفوا شر الأعداء عن بلاد الإسلام والمسلمين.
وحتى في النظم الوضعية التي وجدت في المجال الأوربي وتأريخه الفكري ملاذا ومرجعا لتأصيل وشرعنة هذا الحق وذلك عندما ارتبط لدى مفكري عصر النهضة الأوربية بـ"مفهوم العقد الاجتماعي بين الملك والشعب لإقامة أركان الدولة المدنية، وهو العقد الذي يبيح للشعب حق مقاومة الملك عند انتهاكه لبنوده التي تحفظ لأطرافه حقوقهم. ثم جاء إعلان الاستقلال الأمريكي (4/7/1776) كأول وثيقة رسمية تنص على حق المقاومة بصورة صريحة، وينطلق هذا الإعلان في إقراره لهذا الحق على اعتبار إن السلطة العادلة هي التي تنشأ وتتكون باتفاق المحكومين، وأن أي اعتداء على هذا العقد الاجتماعي من قبل المستعمرين فانه يعطي للناس الحق في قطع التزاماتهم مع السلطة الاستبدادية كحق لهم وواجب عليهم، وأكدت هذه الوثيقة بأن المقاومة المسلحة هي المرحلة الأخيرة للاحتجاج ضد الهيمنة الاستعمارية الانجليزية في المستعمرات الأميركية الثلاث عشر، وبعد ذلك أصبح هذا النص مرجعاً موثقاً للعديد من حركات التحرر والمقاومة المسلحة في القرنين التاسع عشر والعشرين.
ثم تكرر النص على حق المقاومة في وثيقة رسمية بعد عقد ونيف تمثلت في (إعلان حقوق الإنسان والمواطن الفرنسي لعام 1789) الذي أقر أربعة حقوق طبيعية للإنسان لا يجوز المساس بها (حق الملكية/ حق الحرية/ الحق. في الأمن/ الحق في مقاومة الظلم والاستبداد)، كما واعتبرت المادة (33) من النص الثاني لهذا الإعلان الذي صدر في 1793، (أن حق مقاومة الظلم هو النتيجة الطبيعية لحقوق الإنسان الأخرى)، أما (إعلان حقوق وواجبات الإنسان الاجتماعي) الذي أقرته أمة جنيف في عام 1793، فقد عد هذا الحق جزءا من حزمة الحقوق الأساسية للإنسان المتمثلة بـ (المساواة/الحرية/ الأمن/ الملكية/ الضمان الاجتماعي/ مقاومة الظلم) وفقا لنص المادة العاشرة تأكيدا لذلك الحق على نحو مستقل جاءت المادة (44) منه لتقول (انه لكل مواطن الحق في مقاومة الظلم، على أن يحدد شكل المقاومة في الدستور)"(2).
ومع ولادة التنظيم الدولي المعاصر في القرن العشرين، تجددت الإشارة لشرعية الحق بالمقاومة حينما ورد في سياق (المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة) حول (شرعية حق المقاومة للشعوب للدفاع عن نفسها إذا ما داهمها العدو بقصد الاحتلال)، ثم توجت الإنسانية مسيرتها الظافرة لنيل الاعتراف الدولي بهذا الحق بصدور قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة بالعدد3101 الصادر في 12/12/1972 في الدورة الثامنة والعشرين الذي اقر (حق الشعوب الخاضعة للاستعمار بالتحرر منه بكافة الوسائل) وكذلك ما أقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 1974 بالقرار رقم 3214 حول تعريف العدوان حق الشعوب في النضال بجميع الأشكال بما فيها الكفاح المسلح من اجل نيل الحرية والاستقلال وحق تقرير المصير، وبالتالي أجازت حق جميع الشعوب في العالم في المقاومة المسلحة للاحتلال في سبيل تحررها من الاحتلال.
وبهذا فلنا أن نقول بان القانون الدولي الذي أعطى للشعوب التي اغتصب المحتل أرضها حق مقاومته بكل الصور والوسائل المسلحة والسلمية، لن يقف بالضد من الحق الأولى منه في مقاومة الحاكم الطاغي إذا ما استلب من شعبه حقوق أكثر أهمية وخطورة كحق الحياة والكرامة والمساواة لأنها من الحقوق الطبيعية التي كفلتها الإعلانات العالمية لحقوق الإنسان والعهود الدولية الواردة بهذا الخصوص ولاسيما عندما أقرت بان "شرعية المقاومة تنبثق من حق الشعوب بتقرير مصيرها".
وأمام هذا الاعتراف الدولي بحق المقاومة، لم تجد اغلب الدول بدا من أن تتبنى هذا الحق وترعاه في دساتيرها لتلزم به سلطاتها وتقيم الحجة عليهم إذا ما تجاوزوا حدودهم الدستورية والقانونية، ومن ذلك ما جاء في الدستور الألماني الصادر عام 1949 الذي عد حق المقاومة من المبادئ الدستورية المرعية التي تبيح بحكم المادة 20 منه (لكافة المواطنين مقاومة أي شخص يحاول القضاء على هذا النظام الدستوري، إذا لم يمكن منعه من ذلك بوسائل أخرى). وفي ذلك النص حصانة شعبية وتفويض دستوري بحق المقاومة في سبيل حفظ القواعد الدستورية ومنع التجاوز عليها من أي طرف كإجراء دستوري وقائي في مواجهة احتمال عودة الطغيان الذي اكتوت ألمانيا بناره المدمرة في الحقبة النازية.
على صعيد آخر، كان لحق المقاومة حضور آخر في الدستور البرتغالي لعام 1976 ضمن المادة 21 منه حينما كفل لجميع مواطنيه (الحق في مقاومة أي أمر ينتهك الحقوق والحريات والضمانات مكفول للجميع، وكذلك الحق في استخدام القوة لصد أي اعتداء، حين لا يكون اللجوء للسلطات العامة ممكن) (3ليقر بذلك الحق الشعبي في المقاومة، مكانة وضمانة للحقوق والحريات تفوق ما يمكن أن تتبجح وتحتمي فيه السلطات العامة من قدرة وصلاحيات حتى وان كانت دستورية. كما وجدنا حق المقاومة ماثلا في نص المادة 416 من دستور الإكوادور لعام (2008) التي اعترفت بـ (بحق الشعوب في المقاومة وتحرير أنفسها من مختلف أشكال الاضطهاد).
على ما تقدم يمكن القول أن المقاومة تعد من الناحية القانونية عنفا سياسيا مشروعا تلجأ إليه الشعوب المقهورة للتخلص من قهر الطغاة الذين استباحوا الأرض والحقوق، بل إن عددا من الفقهاء، جعلوا من هذا الحق نتيجة حتمية لوطنية الإنسان ووسيلة أساسية للحفاظ على إنسانيته.
اضف تعليق