الدستور وإن كان يمس كل جوانب حياة الفرد داخل الدولة –إلا أن كل هذه المكانة المهمة له– تتوقف من الناحية العملية على سلوك كل الحاكمين والمحكومين على السواء، بمعنى حتى يتحول إلى قلعة عتيدة تحمي الحقوق والحريات لابد من وجود وعي دستوري وإيمان بالدولة القانونية.
وفي تقديرنا لا يتحقق ذلك إلا إذا امن واعتقد الأفراد بأن كل من في الدولة من حكام ومحكومين، سلطات وأفراد، يخضع للقانون وليس لهوى فرد أو أفراد يحكمون، فإذا لم تكن الدولة كذلك، فأن الحديث عن الدستور والسلطة والحرية والشرعية وغير ذلك من مفاهيم دستورية هو عبث لا طائل من ورائه، وهو ما يعني اختفاء الدولة القانونية ومن ثم الدولة الدستورية حتى ولو توافرت لهذه الدولة وثائق يطلق عليها الدستور.
وحتى يخضع الحكام والمحكومين لحكم القانون. لابد من وجود حدود لممارسة الحكام للسلطة، كما ولابد أن يشعر وينعم الأفراد حقيقة بالحقوق دون تمييز من خلال وجود ضمانات حقيقية لحماية من لا سلطة لهم في مواجهة من لهم السلطة.
بناءً على ما تقدم نجد إن السعي لضمان وجود دولة قانونية ديمقراطية؛ يستلزم وجود أسس ومبادئ يتولى فيها القانون تنظيم السلطة، كما يوجًد تنظيماً واضحاً للحقوق، وهذه الأسس هي:
أولاً: إن الدولة لا يمكن أن تكون قانونية ديمقراطية إلا إذا كانت تصرفاتها مقيدة في حدود الدستور، كما ويترتب على مخالفتها لتلك الحدود جزاء وبغير ذلك تسقط عن الدولة صفتها القانونية، إذا كانت السلطات تستطيع التصرف خارج حدود الدستور، فعندها لا يمكن أن تتصف إلا بالاستبداد.
ويترتب على ذلك ضرورة الرقابة على تصرفات تلك السلطات عند ممارسة نشاطها والحكم ببطلانها عند مخالفتها للدستور. وهو السبيل الوحيد الذي يضمن بفعالية كافية حقوق الأفراد حال الاعتداء عليها من تلك السلطات.
لذلك تحرص السلطة المختصة بكتابة الدستور في الدولة القانونية على تضمين الوثيقة الدستورية نصوصاً تتناول بعض الوسائل القانونية التي تؤكد خضوع السلطات الحاكمة للدستور، فتتضمن قيام هيأة مستقلة محايدة تختص بكفالة احترام قواعد الدستور وإلزام السلطات العامة بحدوده، مع ضمان حق الأفراد في الالتجاء إليها دون عوائق دفاعاً عن حقوقهم وحرياتهم. كما تتضمن الوثيقة الدستورية النص على الرقابة المتبادلة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية عن طريق المسؤولية الوزارية وحق الحل، كما تتضمن إعطاء الحق للمجلس الشعبي في اتهام رجال السلطة التنفيذية، ولاشك إن هذه الوسائل تكفل إلى حد كبير عدم طغيان إحدى السلطات على الأخرى، وبالتالي تؤدي إلى عدم تجاوز أية سلطة من السلطات العامة في الدولة، الوظيفة التي أسندها لها الدستور.
ثانياً: أن يتضمن الدستور ضمانات حقيقية فعلية كافية لحماية الحقوق والتسليم بأن هذه الحقوق ليست منحة من الحكام للشعب، وإنما هي حقوق طبيعية فطرية يكتسبها الإنسان لمجرد كونه إنساناً، مما يوجب كفالتها للكافة دون تمييز. ضمانات تمكُن المواطن من أن ينعم حقيقة بالحقوق، ضمانات تمنع السلطات العامة من الانتقاص منها أو المساس بها بشكل يعرض المركز القانوني للفرد إلى الأذى.
ثالثاً: ضرورة الأخذ بقاعدة التداول السلمي للسلطة وتوالي القيادات الحاكمة، وذلك دعماً للمبدأ الديمقراطي وترسيخاً لمفهومه الصحيح، إذ من شأن ذلك تجنب النظم الشمولية المستترة، وهو ما يتحقق في الكثير من الدول عندما تحتكر السلطة بصورة أبدية.
لذلك لا يجوز لفرد أو لفئة محددة من الناس احتكار السلطة لفترات زمنية طويلة، حتى ولو تذرعوا بإرادة الشعب أو رغبته أو رضاءه وهي أمور لا يمكن الجزم بها أو التعرف بها على وجه اليقين، علاوة على تنافرها الواضح مع سمة العصر الحديث في التطور والتجديد وميل الشعوب إلى التغيير لمزيد من الإصلاح والتنمية والرخاء.
وبذلك يؤدي التداول السلمي للسلطة إلى إدخال النظام على الحياة السياسية، كما ويجبر الأحزاب على وضع برامج وهياكل تنظيمية واضحة تحترم ذلك، كما وانه يقلل من حجم الفساد لأن من يحكم اليوم يعلم انه تحت المراقبة من المعارضة، وانه سيترك السلطة غداً ويمكن مساءلته عن أي انحراف، كما ويعد محرك الحياة السياسية، إذ إن الحكومة والمعارضة كلاهما يعمل إلى الوصول إلى أفضل النتائج، كما ويجتهد كل حزب من الأحزاب المتقاربة لتطوير برامجها وأدائها وهياكلها، وهذا التنافس هو لمصلحة الدولة والفرد في النهاية، كما وان التداول السلطة دوراً مهما ي عدم التطرف يميناً أو يساراً، ويعتبر بهذا صمام الأمان ضد الجمود والركود الاقتصادي، لأن استمرار حكم اليمين يعني ازدياد الأثرياء وتدهور أحوال الفقراء وقلة فرص العمل وتضاءل الطلب على السلع وبذلك يصل النظام إلى طريق مسدود، كما وان استمرار حكم اليسار يؤدي إلى رفع أجور العمل وزيادة الاستهلاك دون وجود أمور الجديدة للاستثمار، مما ينجم عن ذلك وجود تخلف اقتصادي..
لذلك وحرصاً من واضعي دستور جمهورية العراق لسنة 2005 – على الخلاص من منهج الاستبداد والعنصرية والتمييز والإقصاء، والمساوئ والمعاناة والانتهاكات التي ترتبت على عدم تداول السلطة قبل عام 2003.
جاءت نصوص وثيقة دستور جمهورية العراق لسنة 2005 لتؤكد على المنهج الديمقراطي القائم على التداول السلمي للسلطة في أكثر من موضع في الدستور؛ وفي المقدمة منها ديباجة الدستور عندما جاءت بالنص (....نحنُ أبناء وادي الرافدين موطن الرسل والأنبياء ومثوى الأئمة الأطهار ومهد الحضارة وصناع الكتابة ورواد الزراعة و وضاع الترقيم.....لم يثننا التكفيرُ والإرهاب من أن نمضي قُدماً لبناء دولة القانون، ولم توقفنا الطائفية والعنصرية من أن نسير معاً لتعزيز الوحدة الوطنية، وانتهاج سُبُلِ التداول السلمي للسلطة....نحنُ شعبُ العراقِ الناهض توّاً من كبوته، والمتطلع بثقة إلى مستقبله من خلال نظامٍ جمهوري اتحادي ديمقراطي تعددي).
كما جاءت بعد ذلك لتؤكد بالنص الصريح على هذا المبدأ في المادة (1) التي جاءت تحدد جوهر الدولة وخصائص النظام السياسي بالنص (جمهورية العراق دولة اتحادية واحدة مستقلة ذات سيادة كاملة، نظام الحكم فيها جمهوري نيابي (برلماني) ديمقراطي. وهذا الدستور ضامن لوحدة العراق).
بعد ذلك تضمنت المادة (6) من دستور جمهورية العراق لسنة 2005 بالنص (يتم تداول السلطة سلمياً عبر الوسائل الديمقراطية المنصوص عليها في هذا الدستور).
ليس ذلك فقط بل جاءت لتؤكد في المادة (9) الفقرة (أولاً) البند (أ) على ضرورة عدم تدخل القوات المسلحة العراقية في موضوعة التداول للسلطة بالنص على أن (تتكون القوات المسلحة العراقية والأجهزة الأمنية من مكونات الشعب العراقي، بما يراعي توازنها وتماثلها دون تمييز.....ولا تتدخل في الشؤون السياسية ولا دور لها في تداول السلطة).
وبالتحليل العلمي الدقيق لنصوص دستور جمهورية العراق لسنة 2005 والخاصة بالتداول السلمي للسلطة نلاحظ الآتي:
1- إذا كانت الديمقراطية تعني أن يتولى الشعب أو من يمثله كل ما يتعلق بإدارة شؤون الدولة، فإن هذا المفهوم لا يقف عند مجرد تحديد شكل الحكومة وعلاقة الحاكم بالمحكوم فقط، وإنما يمتد إلى مجالات أخرى "تتمثل في علاقة المواطنين في كل شكل تنظيمي يجتمع عدد منهم فيه ويمتلك أيدلوجية ويستهدف الوصول إلى السلطة أو التأثير فيها بواسطة أنشطة متعددة (كالأحزاب السياسية والمنظمات الشعبية والنقابات)".
بناءً على ذلك فإن على الأحزاب أن تمارس الديمقراطية بدءً من داخلها، للتأكيد على المصداقية في تعاملها مع الجماهير التي يجب أن تشعر أن الأحزاب ديمقراطية بذاتها لا قوى معارضة تريد أن تصل إلى الحكم فحسب.
2- أن التداول السلمي للسلطة هو مبدأ ديمقراطي لا يمكن وفقه لأي احد أن يبقى في السلطة إلى مالا نهاية له. او كما عبر عنه بأنه يضمن تغييرا في الأدوار بين القوى السياسية. ولعل المتأمل في ذلك يتجلى له بوضوح التركيز على الجانب الوظيفي للتداول من حيث كونه آلية لإدارة الدخول والخروج إلى السلطة وإلى المعارضة بين تيارات سياسية مختلفة. لكن في حقيقة الأمر إن إشكالية التداول على السلطة هي أعمق من ذلك بكثير فهي تكشف عن طبيعة الحالة الاجتماعية برمتها في صراعات أطرافها وتحالفاتهم وفي درجة الوعي السياسي العام.
كما وتكمن المشكلة في طبيعة التنظيم الحزبي، هو أنه بالرغم من أن الأحزاب جميعها تمتلك تنظيماً وهيكلاً إدارياً، إلا أن هذا الوضع لا يعدو أن يكون أمراً نظرياً، تسطره البعض من الأحزاب في أوراق تأسيسها، بغية تمرير عملية التأسيس دون أية معارضة من الجهة القائمة على تأسيس الأحزاب. وفي هذا الشأن، فإن هذه الأحزاب هي أحزاب بعيدة في تعاملاتها الداخلية إلى الحراك النخبوي أو التجديد. إضافة إلى ذلك فإن الكيانات التنظيمية للحزب كالمؤتمر العام القومي، والأمانة العامة، وغيرها من المسميات كالمكتب السياسي، وأمانات المحافظات، واللجان الموضوعية، لا تنعقد بشكل دوري، وأحيانا كثيرة لا تنعقد على وجه الإطلاق في بعض الأحزاب وعلى أية حال، فقد أدى ضعف الهياكل التنظيمية للأحزاب، وتدهور دورة المعلومات بها، إلى المزيد من فقدانها ثقة المواطنين بها، لاسيما مع افتقاد بنيانها الداخلي لكل ما يعرف بتداول السلطة والتغلب على هيمنة القيادة على كافة المستويات، والدعوة إلى تجديد النخبة على مستوى هياكل الحزب.
3- أن ضمان الشرعية الدستورية وكفالة سمو النصوص الدستورية الخاصة بالتداول السلمي للسلطة، يقضي بأن تأتي كل النصوص القانونية التي تضمنتها التشريعات المكملة للدستور مطابقة وموافقة لهذه للدستور، ومن ذلك نصوص قانون الأحزاب السياسية رقم 36 لسنة 2015، وهو ما أكدته المادة (24) بالنص (يلتزم الحزب وأعضاؤه بما يأتي: أولاً: أحكام الدستور واحترام سيادة القانون.ثانياً: مبدأ التعددية السياسية ومبدأ التداول السلمي للسلطة....). كما ويجب أن يتقيد النظام الداخلي للحزب بأحكام هذه النصوص وهو ما أكدته المادة (8) من القانون عندما جاءت بالنص (يشترط لتأسيس أي حزب ما يأتي):
أولاً: عدم تعارض مبادئ الحزب أو أهدافه أو برامجه مع الدستور.
ثانياً: يكون للحزب برنامجه الخاص لغرض تحقيق أهدافه......
بناء على ذلك ينبغي على الحزب أن يحترم القيود والحدود الواردة على سلطاته في التداول السلمي للسلطة وان يلتزم بها، وإلا كان للقضاء الدستوري الحارس لهذا الاحترام والضامن لهذا الالتزام قول من خلال تقرير حقه في الرقابة على الأنظمة المقرر في المادة (93) من دستور جمهورية العراق لسنة 2005 عندما جاءت بالنص على أن (تختص المحكمة الاتحادية العليا بما يأتي):
أولا: الرقابة على دستورية القوانين والأنظمة النافذة.....
4- حرص المشرع الدستوري في العراق على التصريح بمبدأ التداول السلمي للسلطة، بوصفه مبدأ يستهدف النظام السياسي بأكمله، والقائم على انتهاج أهم السبل الديمقراطية وهي الانتخابات التعددية القائمة على التنافس الحر النزيه. بعبارة أدق انه اخذ بالتداول السلمي المطلق للسلطة، وهو يكون ذلك عندما يصبح ممكناً تداول عموم السلطة السياسية في الدولة بوسائل ديمقراطية تضمن الرجوع إلى الشعب صاحب السلطة بشكل دوري حقيقي، بعني انه لم يقصر التداول على مؤسسات السلطة الرسمية بل شمل حتى مؤسسات السلطة غير الرسمية وفي مقدمتها الأحزاب السياسية بوصفها جزء من النظام السياسي في الدولة، عندما دعا إلى بناءها على أسس وطنية ديمقراطية تضمن التعددية السياسية وتحقق مشاركة أوسع في الشؤون العامة في قانون الأحزاب السياسية الذي شرع بالاستناد إلى المادة (39) من الدستور التي جاءت بالنص في الفقرة (أولا) على أن (حرية تأسيس الجمعيات والأحزاب السياسية، أو الانضمام إليها مكفولة، وينظم ذلك بقانون).
5- إن وجود التداول السلمي للسلطة يقتضي وجود تعددية سياسية، بما تعنيه من وجوب السماح لكل الآراء والاتجاهات والبرامج السياسية بالعمل والظهور على قدم المساواة، حتى يعلم الشعب أبعادها وما لها وما عليها، فيأتي اختياره حقيقيا وليس مزيفاً أو مفروضا، وهذا يسمح بوجود تنافس فعلي بين الأحزاب ذات التوجهات المتباينة، فإذا ما وضع هذا التنافس في الإطار القانوني الديمقراطي المتمثل بصيغ الانتخابات فإن ثمرته الأساسية ستكون تداول السلطة من حزب إلى آخر أو من زعيم إلى آخر.
* الورقة المقدمة الى الحلقة النقاشية التي عقدها مركز آدم للدفاع عن الحقوق والحريات تحت عنوان (شرعية الاحزاب غير الديموقراطية في ظل نظام ديموقراطي)
.....................................
اضف تعليق