سايكس-بيكو أكبر مؤامرة سياسية في التاريخ بين فرنسا وبريطانيا؛ لرسم خارطة تفتيت الدول العربية، وزرع السرطان الإسرائيلي بمشاركة الخداع الغربى عام 1916، وكانت هذه المعاهدة في اثني عشر بنداً. وتم الوصول إليها بين أبريل/نيسان ومايو/أيار من ذلك العام، على صورة تبادل وثائق بين وزارات خارجية الدول الثلاث (فرنسا وإنجلترا وروسيا القيصرية)..
وقد عيّنت الحكومة الفرنسية "جورج بيكو" قنصلها العام السابق في بيروت مندوباً سامياً لمتابعة شؤون الشرق الأدنى، ومفاوضة الحكومة البريطانية في مستقبل البلاد العربية، ولم يلبث أن سافر إلى القاهرة، واجتمع بـ"مارك سايكس" المندوب السامي البريطاني لشؤون الشرق الأدنى، بإشراف مندوب روسيا، وأسفرت هذه الاجتماعات والمراسلات عن اتفاقية عُرفت باسم "اتفاقية القاهرة السرية"، ثم انتقلوا إلى مدينة بطرسبرغ الروسية، وأسفرت هذه المفاوضات عن اتفاقية ثلاثية سُميّت باتفاقية "سايكس-بيكو"، وذلك لتحديد مناطق نفوذ كل دولة.
وتمّ تقسيم منطقة الهلال الخصيب بموجب الاتفاق، وحصلت فرنسا على الجزء الأكبر من الجناح الغربي من الهلال (سوريا ولبنان) ومنطقة الموصل في العراق.
أما بريطانيا فامتدت مناطق سيطرتها من طرف بلاد الشام الجنوبي، متوسعة بالاتجاه شرقاً لتضم بغداد والبصرة وجميع المناطق الواقعة بين الخليج العربي والمنطقة الفرنسية في سوريا.
كما تقرر أن تقع فلسطين تحت إدارة دولية يتم الاتفاق عليها بالتشاور بين بريطانيا وفرنسا وروسيا.
ولكن الاتفاق نص على منح بريطانيا مينائي حيفا وعكا على أن يكون لفرنسا حرية استخدام ميناء حيفا، ومنحت فرنسا لبريطانيا بالمقابل استخدام ميناء الإسكندرونة الذي كان سيقع في حوزتها.
الجزء الخاص بانجلترا وفرنسا
المادة الأولى:
إن فرنسا وبريطانيا العظمى مستعدتان أن تعترفا وتحميا أي دولة عربية مستقلة أو حلف دول عربية مستقلة أو حلف دول عربية تحت رئاسة رئيس عرب في المنطقتين:
(أ)-( داخلية سورية)
(ب)- (داخلية العراق).
ويكون لفرنسا في منطقة (أ) ولانجلترا في منطقة (ب) حق الأولوية في المشروعات والقروض المحلية، وتنفرد فرنسا في منطقة (أ) وانجلترا في منطقة (ب) بتقديم المستشارين والموظفين الأجانب بناء على طلب الحكومة العربية أو حلف الحكومات العربية.
المادة الثانية:
يباح لفرنسا في المنطقة الزرقاء (شقة سوريا الساحلية) ولانجلترا في المنطقة الحمراء ( شقة العراق الساحلية من بغداد حتى خليج فارس) إنشاء ما ترغبان فيه من شكل الحكم مباشرة أو بالواسطة أو من المراقبة بعد الاتفاق مع الحكومة أو حلف الحكومات العربية.
المادة الثالثة:
تنشأ إدارة دولية في المنطقة السمراء (فلسطين) يعين شكلها بعد استشارة روسيا بالاتفاق مع بقية الحلفاء وممثلي شريف مكة.
المادة الرابعة:
تنال انجلترا ما يأتي:
1- ميناء حيفا وعكا.
2- يضمن مقدار محدود من ماء دجلة والفرات في المنطقة (أ) للمنطقة (ب) وتتعهد حكومة جلالة الملك من جهتها بان لا تدخل في مفاوضات ما مع دولة أخرى للتنازل عن قبرص إلا بعد موافقة الحكومة الفرنسية مقدما.
المادة الخامسة:
تكون اسكندرونة ميناء حراً لتجارة الإمبراطورية البريطانية ولا تنشا معاملات مختلفة في رسوم الميناء، ولا ترفض تسهيلات خاصة للملاحة والبضائع البريطانية وتباح حرية التنقل للبضائع الإنجليزية عن طريق اسكندرونة وسكة الحديد في المنطقة الزرقاء سواء كانت واردة إلى المنطقة الحمراء أو المنطقتين (أ) و(ب) أو صادرة منها.
ولا تنشأ معاملات مختلفة ـ مباشرة أو غير مباشرة ـ على أي سكة من سكك الحديد أو في أي ميناء من موانئ المناطق المذكورة تمس البضائع والبواخر البريطانية.
وتكون حيفا ميناءً حراً لتجارة فرنسا ومستعمراتها والبلاد الواقعة تحت حمايتها ولا يقع اختلاف في المعاملات ولا يرفض إعطاء تسهيلات للملاحة والبضائع الفرنسية ويكون نقل البضائع الفرنسية حراً بطريق حيفا وعلى سكة الحديد الإنجليزية في المنطقة السمراء، سواء كانت البضائع صادرة من المنطقة الزرقاء أو الحمراء أو المنطقة(أ) أو المنطقة(ب) أو واردة إليها ولا يجري أدنى اختلاف في المعاملة بالذات أو بالتبع يمس البواخر الفرنسية في أي سكة من السكك الحديدية ولا ميناء من الموانئ في المناطق المذكورة.
المادة السادسة:
لا تمد سكة حديد بغداد في المنطقة
(ا) إلى ما بعد الموصل جنوبا ولا في المنطقة
(ب) إلى ما بعد سامراء شمالا إلى أن يتم إنشاء خط حديدي يصل بغداد بحلب مارا بوادي الفرات ويكون ذلك بمساعدة الحكوميتين.
المادة السابعة:
يحق لبريطانيا العظمى أن تنشئ وتدير وتكون المالكة الوحيدة لخط حديدي يصل حيفا بالمنطقة (ب) ويكون لها ما عدا ذلك حق دائم بنقل الجنود في أي وقت كان على طول هذا الخط.
ويجب أن يكون معلوماً لدى الحكومتين أن هذا الخط يجب أن يسهل اتصال حيفا ببغداد وأنه إذا حالت دون إنشاء خط الاتصال في المنطقة السمراء مصاعب فنية ونفقات وافرة لإدارته تجعل إنشاءه متعذراً فالحكومة الفرنسية تكون مستعدة أن تسمح بمروره في طريق بربورة ـ ام قيس ـ ايدار ـ غسطا، مغاير، قبل أن يصل إلى المنطقة (ب).
المادة الثامنة:
تبقى تعريفة الجمارك التركية نافذة عشرين سنة في جميع جهات المنطقتين الزرقاء والحمراء والمنطقتين (أ) و (ب) فلا تضاف أي علاوة على الرسوم ولا تبدل قاعدة التثمين في الرسوم بقاعدة اخذ العين. إلا أن يكون باتفاق بين الحكومتين ولا تنشا جمارك داخلية بين أي منطقة وأخرى من المناطق المذكورة أعلاه وما يفرض من رسوم الجمرك على البضائع المرسلة إلى الداخل يدفع في الميناء ويعطى لإدارة المنطقة المرسلة إليها البضائع.
المادة التاسعة :
من المتفق عليه أن الحكومة الفرنسية لا تجري مفاوضة في أي وقت كان للتنازل عن حقوقها، ولا تعطي مالها من الحقوق في المنطقة الزرقاء لدولة أخرى إلا للدولة أو حلف الدول العربية دون أن توافق على ذلك سلفاً حكومة جلالة الملك التي تتعهد للحكومة الفرنسية يمثل هذا فيما يتعلق بالمنطقة الحمراء.
المادة العاشرة:
تتفق الحكومتان الإنجليزية والفرنسية بصفتهما حاميتين للدولة العربية على أن لا تمتلكان ولا تسمحان لدولة ثالثة أن تمتلك أقطاراً في شبه جزيرة العرب، أو تنشئ قاعدة بحرية في الجزائر على ساحل البحر الأبيض الشرقي على أن هذا لا يمنع تصحيحاً في حدود عدن، قد يصبح ضرورياً لسبب عداء الترك الأخير.
المادة الحادية عشر:
تستمر المفاوضات على العرب باسم الحكومتين بالطرق المناسبة نفسها لتعيين حدود الدولة أو حلف الدولة العربية.
المادة الثانية عشرة:
من المتفق عليه عدا ما ذكر أن تنظر الحكومتان في الوسائل اللازمة لمراقبة جلب السلاح إلى البلاد العربية."
ارث سايكس بيكو
لم يتعرض إرث اتفاقية سايكس-بيكو السرية عام 1916 لهجوم مثل ما يتعرض له الآن، مع حلول الذكرى المئوية لتوقيعها وسط عاصفة من التشويه في جميع أنحاء المنطقة، وبينما يتجه العراق إلى مرحلة أعمق من الاضطرابات والتفكك، يواصل زعماء الأكراد في الشمال الذي يتمتع بحكم ذاتي فعلي تهديدهم بالانفصال وإعلان الاستقلال الكامل.
وأعلن مسلحو ما يُطلق عليه تنظيم الدولة الإسلامية، الذين أزالوا الحدود بين العراق وسوريا في يونيو/ حزيران عام 2014، نيتهم محو جميع حدود المنطقة، وإلغاء سايكس-بيكو إلى الأبد، وأيا ما كان مصير "داعش"، فإن مسقبل سوريا والعراق - وهما جزء رئيسي من مشروع سايكس-بيكو- كدولتين موحدتين بات أمرا غامضا.
في يونيو/ حزيران عام 2014 نشر "الدولة الإسلامية" فيديو لإزالة السواتر في المنطقة الحدودية بين سوريا والعراق، وفي الحقيقة، لم ترسم تقريبا أي من الحدود الموجودة حاليا في الشرق الأوسط في الوثيقة التي أبرمت في 16 مايو/ آيار عام 1916 على يد كلٍ من مارك سايكس وفرانسوا جورج بيكو.
وتبعد النقطة الحدودية بين العراق وسوريا التي أزالها تنظيم الدولة في مشهد تمثيلي مئات الكيلومترات من "الخط الرملي" الشهير الذي رسّمه سايكس وبيكو، والذي يمتد مباشرة تقريبا من الحدود الإيرانية في الشمال الشرقي حتى الموصل وكركوك ليعبر الصحراء باتجاه البحر المتوسط، لينحرف في اتجاه الشمال إلى حقلة فوق نهاية حدود فلسطين.
وشكلت الحدود الراهنة للمنطقة من خلال عملية طويلة ومعقدة من الاتفاقيات والمؤتمرات والصفقات والصراعات التي تلت تفكك الإمبراطورية العثمانية وفي أعقاب نهاية الحرب العالمية الأولى.
غير أن روح سايكس-بيكو، التي سيطرت عليها مصالح القوتين الاستعماريتين الرئيسيتين المتنافستين وطموحاتهما القاسية، هيمنت خلال تلك العملية وخلال العقود اللاحقة حتى أزمة قناة السويس عام 1956 وحتى فترة تالية.
الفرصة الكردية
باتت سايكس-بيكو شعار المرحلة بأكملها، إذ فرضت فيها القوى الخارجية إرادتها، ورسمت الحدود، ونصبت زعامات محلية موالية، ومارست سياسات فرق-تسد مع السكان الأصليين وإفقار الجيران مع الخصوم من الاستعماريين، ويشهد النظام الناتج عن ذلك وورثه الشرق الأوسط في الوقت الحالي تنوعا من البلدان وضعت حدودها استنادا إلى القليل من الاعتبارات العرقية والقبلية والدينية أو اللغوية.
ومع وجود مزيج من الأقليات، كانت هناك في الغالب نزعة طبيعية لمثل تلك الدول للتفكك ما لم يحكمها رجل قوي بقبضة حديدية أو حكومة مركزية قوية، ومن المفارقة أن كلا الطرفين القويين اللذين يعاديان إرث سايكس-بيكو صراحة في نزاع محتدم: مسلحي تنظيم داعش والأكراد في شمال العراق وسوريا.
وفي البلدين، أثبت الأكراد أنهم أكثر حلفاء الائتلاف الغربي على الرغم من أنهما يشتركان في الإصرار على إعادة ترسيم الخريطة، وقال مسعود بارزاني أن "هناك حاجة إلى تشكيل جديد للمنطقة. أنا متفائل للغاية بأنه من خلال ذلك التشكيل الجديد سيحقق الأكراد مطلبهم التاريخي وحقهم (في الاستقلال)".
إعادة ترسيم المستقبل
يدور صراع غير معلن بشأن إمكانية التوصل إلى صيغ لمجتمعات مختلفة للعيش معا داخل حدود ورّثها تاريخ يعود إلى القرن العشرين، أو ضرورة ترسيم حدود جديدة لاستيعاب أولئك الشعوب على الرغم من أن هذا المفهوم جرى تحديده.
"سايكس-بيكو انتهت، وذلك أمر مؤكد، لكن كل شيء الآن غامض، وسيكون هناك وقت طويل قبل أن يتضح ما هي النتائج"، هذا ما قاله الزعيم الدرزي اللبناني المخضرم، وليد جنبلاط.
وتعارضت اتفاقية سايكس-بيكو مباشرة مع ضمانات الحرية التي وعد بها البريطانيون للعرب مقابل دعمهم ضد الدولة العثمانية الضعيفة، وتصطدم كذلك الاتفاقية مع رؤية الرئيس الأمريكي، وودرو ويلسون (وهو الرئيس الثامن والعشرون للولايات المتحدة الأمريكية في الفترة من 1913 إلى 4 مارس 1921)، الذي دعا إلى تقرير مصير الشعوب التي أخضعتها الإمبراطورية العثمانية لسيطرتها.
وأخبر مستشاره السياسي، إدوراد هاوس، في وقت لاحق بالاتفاقية، على لسان وزير الخارجية البريطاني، أرثر بلفور، الذي قدر بأن يوضع اسمه بعد مرور 18 شهرا على اتفاق كان له تأثير كبير في مصير المنطقة.
وقال هاوس: "كل شيء سيء وقلت لبلفور ذلك. إنهم يجعلونها (المنطقة) مكانا خصبا لحروب المستقبل"، وتلك الاتفاقية لم تكن الوحيدة في هذا الصدد بعد الحرب العالمية الأولى؛ فقد كانت هناك اتفاقيتان أخريان تهدفان إلى تقسيم العالم العربي وممتلكات الدولة العثمانية، مثل: اتفاقية القسطنطينية عام 1915، وفيها وافقت فرنسا وبريطانيا مع روسيا القيصرية على منحها مضيقي البوسفور والدردنيل والأراضي على الجانبين من المضايق، والاتفاقية الثانية هي "سان جان جين دي مورين" ووقعت بين فرنسا وبريطانيا وإيطاليا وتم التفاهم على منح روما منطقة الجنوب الغربي من الأناضول.
لا سايكس بيكو جديدة
مع تردي الأوضاع العربية في الوقت الحالي يراود العديد من المهتمين تخوف مشروع -ربما بسبب انعدام الثقة في القوى الدولية- بأن تقسيما جديدا لعدد من الدول العربية يلوح في الأفق، ورغم ذلك هناك العديد من العوامل التي لا تؤيد سيناريو التقسيم وإعادة رسم الحدود أو ما يمكن تسميته سايكس بيكو جديدة أهمها:
"ومع تردي الأوضاع العربية في الوقت الحالي يراود العديد من المهتمين تخوف مشروع بأن تقسيما جديدا لعدد من الدول العربية يلوح في الأفق، ورغم ذلك هناك العديد من العوامل التي لا تؤيد سيناريو التقسيم وإعادة رسم الحدود (سايكس بيكو جديد)"
أولا: طبيعة النظام الدولي؛ إذ مع حالة الفوضى التي تسوده والتحول في موازين القوى الدولية هناك صعوبة شديدة في اتفاق هذه القوى على قضية شائكة جدا مثل إعادة ترسيم الحدود، لقد حكم العلاقات الدولية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945 نظام دولي قام على ثنائية قطبية ما لبثت أن تحولت إلى أحادية قطبية بعد انهيار المنظومة الشرقية عام 1990، حيث أصبحت الولايات المتحدة القوى الرئيسية الوحيدة القادرة على إعادة تشكيل النظام الدولي والحسم في قضايا مثل إعادة ترسيم الحدود وحل النزاعات الدولية المستعصية كما في البوسنة وكوسوفو وتيمور الشرقية وغيرها الكثير.
ولكن بعد أحداث سبتمبر/أيلول 2001 والغزو الأميركي لكل من أفغانستان والعراق دخل النظام الدولي منعطفا لم يخرج منه حتى هذه اللحظة؛ حيث سيطرت حالة من الفوضى على النظام الدولي لجأت في ظلها الدول الكبرى خاصة إلى تصفية حساباتها مع غريماتها دون الاستناد لشرعية دولية ودون وجود مقرر شرعي في حالة الخلافات التي شهدتها الساحة الدولية كما فعلت أميركا مع أفغانستان والعراق وهاييتي، وروسيا مع جورجيا وأوستيا الجنوبية وأكرانيا.
انقسمت آراء المحللين السياسيين حيث يجادل العديد منهم بأن الولايات المتحدة ما زالت تحافظ على وضعها ضمن نظام أحادي القطبية، بينما يرى آخرون أن النظام الدولي قد انتقل فعلا إلى نظام متعدد الأقطاب والقوى، وأن أميركا ليست سوى إحدى تلك القوى.
هذا الجدل لم يحسم بعد؛ ومما يزيد من تعقيده عدم الإجماع لدى المراقبين للسياسة الخارجية الأميركية على سبب التراجع الحاصل فيها، هل هو مرتبط بإدارة الرئيس أوباما شخصيا الذي يميل إلى الانعزال عن النزاعات الدولية، أم هو حالة ثابتة، بغض النظر عن الحزب الحاكم في واشنطن، وأن انحسار التدخل الخارجي الأميركي -كما في سوريا وأكرانيا- هو حقيقي وليس تكتيكي.
بالمحصلة النهائية فإن غياب الاستقرار في النظام الدولي يجعل من الصعوبة بمكان للقوى المكونة له التوصل إلى سايكس بيكو جديدة مقارنة بالنظام الدولي الذي ساد عام 1916 وسان ريمو1920 الذي انجلت فيه حالة التحول في النظام الدولي وخرجت بموجبه بريطانيا وفرنسا كدول منتصرة قوية ومستعدة لتقاسم التركة العثمانية تعترف كل قوة منها بقوة الطرف الآخر وتحترم مناطق نفوذه؛ الأمر الذي ساعد على جلوس ممثلي الدولتين لتقاسم مناطق النفوذ على الخارطة وبالمسطرة والقلم.
ثانيا: يختلف الوقت الراهن عما كان عليه الحال عام 1916 بوجود لاعبين أساسيين وفاعلين على الأرض تشكلوا على أسس طائفية وسياسية وحزبية وأيديولوجية، ومن غير الممكن للقوى الدولية أن تقوم بإعادة ترسيم الحدود باتفاقية سايكس بيكو جديدة دون التنسيق المباشر مع هذه القوى وهو أمر غير ممكن في الكثير من الحالات نظرا لاختلاف أجنداتها وحالة العداء غير المسبوق فيما بينها وغير ذلك من الأسباب.
"إن البدائل لسايكس بيكو جديدة قد تكون أكثر خطورة على المستقبل العربي، أولها التقسيم بحكم الواقع (de facto partition) بحيث يصبح لدينا في هذه الحالة ما يسمى بالدولة الفاشلة (failed state) وهذا النمط يهدد دولا مثل سوريا واليمن وليبيا والعراق".
فهناك تنظيم داعش والتنظيمات الكردية المتعددة في العراق وسوريا وجبهة النصرة والقاعدة والقبائل المتعددة في اليمن وليبيا وغير ذلك من القوى، ومن شبه المستحيل الجمع ما بين هذه التنظيمات على طاولة واحدة سوية مع الطرف الدولي للاتفاق على شكل الحدود الجديدة، وفي الوقت ذاته من المستبعد أن تستطيع هذه القوى المحلية إعادة ترسيم الحدود بنفسها وبمعزل عن التوافق الدولي على الحدود الجديدة.
إن الساحة الدولية مليئة بالأمثلة الفاشلة لمثل هذه المحاولات؛ فهناك شمال قبرص التي انفصلت بدعم تركي عام 1974 ولم تستطع نقل هذا الانفصال خطوة واحدة إلى الأمام باتجاه إقامة دولة معترف بها دوليا وهي تفاوض الآن من جديد من أجل العودة إلى الوحدة مع قبرص اليونانية. كذلك هناك إقليم ناغورني كاراباخ الذي انفصل عن أذربيجان على 1994 ولم يستطع هو الآخر ترجمة ذلك لدولة معترف بها دوليا، عامل آخر يعمل ضد التقسيم هو موفق الأنظمة العربية الرسمية التي تخشى أن ينتقل تقسيم دولة ما مثل سوريا إلى حالات أخرى قد يكون من الصعب تجنبها.
بدائل أكثر خطورة
على أية حال فإن البدائل لسايكس بيكو جديدة قد تكون أكثر خطورة على المستقبل العربي أولها التقسيم بحكم الواقع (de facto partition) بحيث يصبح لدينا بهذه الحالة ما يسمى بالدولة الفاشلة (failed state) وهذا النمط يهدد دولا مثل سوريا واليمن وليبيا والعراق، ويحدث هذا النوع من التقسيم عندما تطول فترة الانفصال ويتحول المؤقت إلى دائم وتعجز القوى المحلية والدولية عن تغيير الواقع.
التقسيم الجغرافي
التقسيم الجغرافي الناتج عن الحروب يصاحبه تشكل هويات واقتصاديات جديدة تصبح فيما بعد عائقا أمام الوحدة الوطنية للدولة. الخطورة بهذا النوع من التقسيم إن حصل أنه سيتم على أسس طائفية أو عرقية أو قبلية أو غيرها بحيث تصبح الدولة مقسمة بنيويا على أرض الواقع ولكنها تبقى دولة بالشكل فقط فاقدة لأهم مكون لها وهو المتمثل باحتكار القوة.
النمط الثاني للدولة العربية المحتملة هو الدولة الفيدرالية القائمة على أنقاض الدولة المركزية؛ النظام الفيدرالي بحد ذاته لا يعني دولة ضعيفة بالضرورة فهناك أكثر من 27 دولة فيدرالية في العالم من بينها الولايات المتحدة وألمانيا وروسيا وغيرها، ولكن المشكلة هنا أن الدولة الخارجة من صراع دموي كحالات سوريا واليمن وليبيا والعراق قد يؤدي إلى تقسيم فعلي للبلاد أو إنشاء دولة فيدرالية على أسس طائفية أو عرقية، وهو ما سيبقيها حبيسة لصراعات قادمة طويلة لا تنتهي، وإن لم تقسم لاحقا قد تتحول إلى دولة هشة (fragile state)، ولكن بالمقابل فإن نجاح النظام الفيدرالي حتى بعد مرحلة الصراع تبقى قائمة.
"التقسيم والفيدرالية واللامركزية والدولة الهشة وشبه الدولة ليست أقدارا محتمة على الدولة العربية بل هناك الكثير من الحلول التي تخلق دولة صلبة قادرة على مواجهة تشتت الانتماءات الطائفية والعرقية والقبلية وكذا المخططات الخارجية سواء كان ذلك بسايكس بيكو أو غيرها".
النمط الثالث وهو ما يسميه أستاذ العلوم السياسية روبرت جاكسون الذي درس نشوء الدول في العالم الثالث بعد الحرب العالمية الثانية (أشباه الدول) وهي التي تفرض حكوماتها السيطرة على حدودها ولكنها تفتقد للقدرة التشغيلية للدولة وتعتمد على المساعدات التي تأتيها من المجموعة الدولية مثل مصر في الوقت الحالي على سبيل المثال لا الحصر.
المستفيد الوحيد من إعادة التقسيم أو فشل الدولة العربية بأي من أنماطها الثلاثة السابقة هو إسرائيل التي تعني تجزئة الدول بالنسبة لها إقامة دول على أسس طائفية وعرقية مختلفة تنشأ معها وتخرجها من عزلتها بالإضافة إلى أن تفكيك الدول الكبرى مثل سوريا تضعفها إستراتيجيا أمام دولة الاحتلال.
على العرب أن يعوا تماما بأن التقسيم والفيدرالية واللامركزية والدولة الهشة وشبه الدولة ليست أقدارا محتمة على الدولة العربية بل هناك الكثير من الحلول التي تخلق دولة صلبة قادرة ليس فقط على مواجهة تشتت الانتماءات الطائفية والعرقية والقبلية بل المخططات الخارجية سواء كان ذلك بسايكس بيكو أو سان ريمو جديدين.
الحلول موجودة بين أيديهم وبإمكانهم درء كل المخاطر التي تهدد حيوية الدولة، وأهمها إنشاء دولة المواطنة التي تقوم على عقد اجتماعي جديد يتضمن إصلاحات سياسية واسعة وليست تجميلية، وإرساء قواعد الحكم الجيد والمساءلة وإيجاد قدر معقول من التنمية.. هذه ليست معجزات سياسية ولكنها مطالب شرعية لمواطني تلك الدول أولا، وأسس ضرورية لإقامة حكم يستبدل حالة الفوضى التي تعيشها الدولة العربية، التنوع العرقي والطائفي الذي تعيشه دول مثل سوريا والعراق يجب أن ينظر إليه كمصدر قوة وليس مصدر ضعف في إطار دولة المواطنة التي يتساوى فيها الجميع أمام القانون.
اتفاقية سايكس بيكو رسمت حدودا على الرمال يمحوها الدم الآن
بعد انهيار جدار برلين انتقلت جميع بلدان أوروبا الشرقية تقريبا باستثناء دولتين للانضمام تدريجيا إلى الاتحاد الأوروبي وإلى حلف شمال الأطلسي دون مشكلات، وتفككت دولة تشيكوسلوفاكيا السابقة إلى دولتين هما جمهورية التشيك وسلوفاكيا فيما عرف باسم "الانفصال المخملي". لكن مصير يوغوسلافيا يقدم مثالا أكثر مأسوية، وتفككت هذه الدولة عبر سلسلة من الحروب المتتالية في كرواتيا والبوسنة وأخيرا في كوسوفو استمرت عبر التسعينات.
وظهرت تشيكوسلوفاكيا ويوغوسلافيا كدولتين -مثلما ظهرت سوريا والعراق- في أعقاب الحرب العالمية الأولى في مؤتمر للسلام عقد بعد الحرب في فرساي في عام 1919. ربما كانت يوغوسلافيا -بمزيجها الذي جمع السلوفينيين والكروات الكاثوليك مع الصرب الأرثوذكس والمسلمين أكثر شبها بالتنوع العرقي والديني في سوريا والعراق.
فالدولتان الشرق أوسطيتان -إلى جانب لبنان الدولة الصغيرة- أكثر دول المنطقة تنوعا. فالدولتان فيهما جماعات سنية وشيعية ومسيحية (من جميع الطوائف) وأعداد أقل من الدروز واليزيديين والعلويين.
ويعيش في البلدين أيضا ما يقدر بنحو 30 مليون كردي يشير كثيرون إلى أنهم أكبر جماعة عرقية في العالم بلا دولة قومية.
وتحكم الدولتان منذ استقلالهما عن بريطانيا وفرنسا بقبضة حديدية ولا تعترف الروايات السياسية عن الدولتين العربيتين الرئيسيتين بأي مضمون ديمقراطي على مدى عقود من الحكم الاستبدادي شديد المركزية.
وانهار ذلك الحكم الآن وعلى نحو يتعذر استرجاعه على الأرجح ولن يعني ذلك أن سوريا والعراق ستختفيان ولكن من المرجح أن تتعثران لسنوات لكن مضمون الدولتين وقوتهما استنزفا. ولا تعدو أي منهما سوى جيوب محصنة وتتمتع بحكم ذاتي يقوم رعاة خارجيون من بينهم إيران والسعودية وتركيا والولايات المتحدة بتغذيتها.
ولم تخرج في أي من البلدين على الأرجح أي جماعة متماسكة منتصرة بعد سنوات من سفك الدماء، ففي العراق دفعت إراقة الدماء الطائفية التي أعقبت الغزو الأنجلو أمريكي في عام 2003 الجماعات الرئيسية الثلاث -السنة والشيعة والأكراد- لأن يمضي كل في طريقه. وأدت الحكومات المتعاقبة في بغداد التي يهيمن عليها الشيعة والتي عززت السيطرة الضمنية لإيران إلى تفاقم هذا الوضع.
ولهذا السبب حصل تنظيم داعش على قدر كبير من الدعم المالي وعلى أشكال الدعم الأخرى من داعمين أفراد في السعودية وفي بلدان عربية أخرى في الخليج، وما كان لهذا كله أن يعني شيئا لولا حقيقة أن داعش حدد كهدف له تدمير إملاءات سايكس بيكو الاستعمارية وإقامة خلافة إسلامية تمتد من الخليج إلى البحر المتوسط على أنقاضها، دولة كهذه لا مكان فيها للشيعة ولا الأكراد ولا المسيحيين ولا أي من الأقليات الأخرى في الشرق الأوسط.
وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أن اتفاق سايكس بيكو نفسه لم يعط الجماعات العرقية أو الدينية اهتماما كبيرا وهو ما غيره على أي حال الفرنسيون والبريطانيون على مدى سنوات. وطبقا للخرائط الأصلية التي وضعها الدبلوماسيان لم يخصص لفرنسا سوريا ولبنان فقط وإنما خصص لها أيضا شمال العراق ومدينة الموصل، وضم القطاع الفرنسي كذلك معظم إقليم كردستان. وكان من المقرر أن تحصل بريطانيا على جنوب العراق وما أصبح الآن الأردن.
وجرى تعديل هذه الخرائط في مباحثات لاحقة بين رئيس الوزراء الفرنسي جورج كلمنصو ونظيره البريطاني ديفيد لويد جورج بالتنازل عن العراق كله لبريطانيا. وتأكد هذا في المؤتمر الدولي الذي عقد في سان ريمو في عام 1920 الذي منح بريطانيا حق الانتداب على الدولتين من عصبة الأمم التي أنشئت حديثا، والتغييرات التي أدخلت على اتفاقية سايكس بيكو تبرز إلى أي مدى كان المشروع الإمبريالي مصطنعا بطبيعته ولم يراع اعتبارات الجغرافيا أو التضاريس أو العرق
لم تكن سوريا والعراق المعاصرتان وحيدتين في هذا المصير
في معظم الفترة التي لحقت الحرب العالمية الثانية تطابقت الدولة والنظام في العالم العربي، ودمرت إطاحة الولايات المتحدة بنظام صدام حسين الاستبدادي الوحشي في عام 2003 هذا الارتباط بين الدولة والنظام وأدى ذلك إلى التآكل المستمر للعراق كدولة قومية، وكثيرا ما تكون الحرب قابلة لميلاد الدول الجديدة. ففي أوروبا المعاصرة أصبحت كرواتيا والبوسنة والهرسك وكوسوفو دولا بسبب الحروب في التسعينات.
وحديثا جدا نشأت تيمور الشرقية وجنوب السودان من الصراع على الأقاليم التي شكلتها القوى الاستعمارية السابقة. والخطر الحقيقي أن سوريا والعراق قد لا يفسحا الطريق أمام دول جديدة. لكن من المؤكد أن العودة إلى دولة سورية أو عراقية قوية كما تخيلتهما اتفاقية سايكس بيكو أمر مستبعد إلى حد كبير.
الدليل على فشل اتفاقية سايكس بيكو
قال الكاتب ديفد إغناشيوس إن الاضطرابات الأخيرة في كل من سوريا والعراق تقدم دليلا على فشل اتفاقية سايكس بيكو التي رسمت حدود الشرق الأوسط منذ مئة عام، وأشار إلى اختفاء الحكومة المركزية في كلا البلدين، في ظل ما تشهده المنطقة من تناحر وانقسامات.
وأضاف في مقاله بصحيفة واشنطن بوست الأميركية أن على الولايات المتحدة الحديث مع حلفائها عن كيفية بناء المستقبل السياسي للبلدين، بدلا من رسم الحدود أو المغامرة السيئة في الاستعمار الجديد لأميركا في الفترة ما بعد 2003.
ويرى أن على أميركا اتباع نموذج للتفكير المبتكر يقود إلى إيجاد حلول لأزمات المنطقة، ويقول إن التحدي أمام الرئيس الأميركي باراك أوباما في نهاية فترته الرئاسية يتمثل في ضرورة البدء ببناء الأساسيات لنظام جديد من الأمن والتنمية الاقتصادية للسنة والشيعة والأكراد والأقليات في الشرق الأوسط.
وقال إغناشيوس إن على أميركا مساعدة الأكراد للحصول على كردستان عراقي مستقل، إذا تم ذلك من خلال التفاوض مع الحكومة المركزية في بغداد، ونسب إلى بعض القادة العراقيين من السنة والشيعة قولهم إنهم يفضلون أن يكون العراق فدرالية تتشكل من القوى الثلاث الرئيسية.
أخطاء ومظالم
ودعا الكاتب إلى إجراء مفاوضات في سوريا تكون مشابهة لما يجري في العراق بشأن طبيعة الانتقال السياسي في البلاد.
وأشار الكاتب إلى أن محاولة إعادة الدول إلى ما كانت عليه لم تنجح، وأوضح أن الولايات المتحدة حاولت إعادة العراق إلى ما كان عليه لكنها فشلت في مسعاها، كما أن إيران وجدت نفسها غير قادرة أيضا على الحفاظ على النظام في العراق.
وأضاف أن هذا هو الدرس المستفاد من الفوضى التي حدثت مؤخرا في بغداد مع اقتحام المتظاهرين مجلس النواب الذي يهيمن عليه الشيعة.
وقال إغناشيوس إن إصلاح الشرق الأوسط يحتاج إلى عمل على مدى جيل، وإن الوقت قد حان لأميركا وأوروبا وروسيا والسعودية وإيران للبدء بالتفكير وبشكل عاجل بالناس في كل من العراق وسوريا، وبالبنى الجديدة التي من شأنها أن تعالج الأخطاء والمظالم.
اضف تعليق