الوعي الإنساني الحقيقي لا يُقاس بمقدار المعلومات التي يمتلكها الإنسان؛ بل بقدرته على تحويل المعرفة إلى بصيرة، والبصيرة إلى سلوك، والسلوك إلى أثر نافع في الحياة. ومن يعي الوقت الأنسب لتفكيره، ويملك نظرة شموليَّة تربط بين أجزاء حياته، ويقرن علمه بالعمل، ويتعامل مع النَّاس وفق عقولهم ومراتبهم، فقد بلغ...
بناء العقل مشروعٌ إنسانيٌّ رفيع، يُعيد ترتيب علاقة الإنسان بربِّه (تبارك وتعالى)، وبذاته، وبالنَّاس من حوله. فالعقل هو الجذر الذي تنبثق منه الشَّخصيَّة النَّاجحة، وهو المنارة التي تهدي الفكر إلى رشده، والسُّلوك إلى اعتداله، والحياة إلى توازنها. وهو الذي يمنح الفكر مساره المنظَّم، ويحوّل المعرفة إلى وعيٍ يوجّه الحياة نحو التَّوازن والنِّظام. ومن دون وعيٍ بحدود العقل وطاقاته، يبقى الإنسان أسير التَّجربة المجرَّدة، عاجزًا عن بلوغ العمق الفكري الذي يُثمر البصيرةً النَّافذة والعمل الصَّالح.
إنَّ التَّفكير السَّليم ينشأ من وعيٍ باللحظة المناسبة للتَّفكير، ومن نظرةٍ شموليةٍ تربط بين أجزاء الحياة، ومن قدرة على تحويل العلم إلى عملٍ نافعٍ، ثمَّ من عدلٍ في التَّعامل مع النَّاس بحسب مراتبهم ودرجات عقولهم. وهكذا يتدرَّج الإنسان في بناء عقله كما تتفتح البصائر في مدارج النُّور، خطوةً بعد خطوة، من اليقظة إلى الحكمة، حيث يصفو الفكر وتستنير الرُّؤية.
وهذا المقال محاولة لتتبّع تلك المراتب الفكريَّة والعمليَّة، وفهم الكيفيَّة التي يستطيع بها الإنسان أن يحقِّق توازنه، فيجمع بين العلم والبصيرة، وبين الفكرة والعمل، وبين العقل والوجدان، ليغدو نموذجًا للإدراك المتكامل الذي تحتاجه الإنسانيَّة في عصرٍ تتسارع فيه التَّحدِّيات.
1. الوقت المناسب للتَّفكير.
التَّفكير مهارة إنسانيّة جوهريَّة تشكِّل أساس وعي الإنسان وتميزه عن غيره من المخلوقات. وقدرة الفرد على التَّفكير بوضوح تختلف من شخص لآخر حسب طبيعة عقله ووقته وحالته النَّفسية والجسديَّة. لذا، من الضَّروري لكلِّ رجلٍ وامرأة، شاب وفتاة، أن يكتشفوا الوقت والظُّروف التي يزدهر فيها تفكيرهم لتحقيق أقصى درجات التَّركيز والإنتاجيَّة.
نحن كبشر نعتمد على التَّفكير في اتِّخاذ قراراتنا، وتوجيه حياتنا، وبناء خططنا للمستقبل. وعلى الرَّغم من أهميَّة التَّفكير، لا يوجد وقت واحد يناسب الجميع لممارسته؛ فبعض الأشخاص يستطيع التَّفكير بوضوح طوال اليوم، بينما يزدهر تفكير آخرين في أوقات محدَّدة فقط. ومن هنا تبرز ضرورة اكتشاف الوقت الذي يكون فيه التَّركيز وصفاء الذِّهن في أقصى درجاته؛ إذ يُعد ذلك خطوة أساسيَّة نحو التَّفكير الفعَّال والنَّاجح. فالعواملُ التي تؤثِّر على قدرتِنا على التَّفكير بوضوح تختلف من شخص لآخر بناءً على نمطِ حياتِهم، ونوعيتِهم الذِّهنية، وبيئتِهم المحيطة؛ فالفترةُ الصَّباحية فترة ذهبيَّة لأولئكَ الذينَ يحتاجونَ إلى التَّفكير في أمور تتطلَّبُ التَّخطيط والتَّنظيم أو التَّفكير الإبداعي، فهو يتزامنُ مع قلَّة المشتتات المحيطة، بينما هناك من يجد في الليلِ وقتًا مثاليًا للتَّفكير؛ إذ يكون العالم المحيط أكثرَ هدوءًا، ممَّا يمنحهم فرصةً للتَّأمل واستكشاف الأفكار من دون ضغوط الوقت أو المقاطعات المتكررة.
في المقابلِ، قد يكتشفُ بعضُ الأشخاص أنَّ فترةَ الظَّهيرة أو ما بعد الغداء هي الأنسب لهم للتَّفكير؛ ففي هذه الأوقات، يكونُ الشَّخصُ قد أكملَ بعضَ مهامه الصَّباحية، كما أنَّ هذا الوقت يتميَّز بتوازن بين النَّشاط البدني والذِّهني، ممَّا يجعله مثاليًا للتَّفكير في أمور عمليَّةٍ أو إدارية تتطلَّب تركيزًا وإنتاجيَّة.
بالإضافة إلى ما سبق، فإنَّ البيئة المحيطة تلعب دورًا مهمًا في تحديد الوقت المناسب للتفكير؛ وعلى سبيلِ المثالِ: الشَّخص الذي يعمل في بيئة عمل هادئة قد يجد أنَّ بإمكانه التَّفكير بوضوح طوال اليوم، بينما الشَّخص الذي يعمل في بيئة مليئة بالضَّوضاء والمقاطعات قد يجد صعوبةً في التَّركيز إلَّا في فترات معيَّنة من اليوم، وخاصَّة حينما تتاح له الفرصة للهدوء والسَّكينة؛ ومن هنا تبرز أهميَّة معرفة الإنسان لذاته وتحديد البيئة المثالية التي تساند مهارتَه على التَّفكير.
من الضَّروري أيضًا الاعترافُ بأنَّ العوامل النَّفسيَّة والطَّاقة البدنيَّة، تلعب دورًا محوريًا في تحديد قابلية الفرد على التَّفكير والتَّركيز بفعَّالية؛ فالأشخاص الذينَ يشعرونَ بالنَّشاط والحيوية يجدونَ وقتًا أفضل للتَّفكير حينما تكون مستويات طاقتهم مرتفعة، أمَّا في أوقات الإرهاق، فقد يكون من الصَّعب التَّركيز، حتَّى وإن كان الوقت المحيط مثاليًّا.
وبالمقابل أمام هذه الأصناف هناك بعضُ الأشخاص قادرونَ على التَّفكير في أيِّ وقت من اليوم طالما كانت الظُّروف مواتية، وهؤلاء الأفرادُ قد يكونون متكيفينَ بشكل جيِّد مع مختلف الظُّروف، ويمتلكونَ مهارات تنظيميَّة تساعدهم على توجيهِ تفكيرِهم وإدارةِ وقتِهم بشكل فعَّال.
2. النَّظْرَةُ الشُّمُولِيَّةُ.
إنَّ النَّظر إلى الحياة بشكل تجزيئي بأن يتعاملَ الإنسانُ مع كلِّ جزءٍ من الحياةِ كأنَّه كيان مستقل عن سائر الجوانب، يمكن أن يقيَّدَ إمكانياتِ الفردِ ويحدَّ من إمكانيته على تحقيقِ الأهداف التي يريد تحقيقها. وفي المقابل تُقدِّم النَّظرةُ الشُّموليَّة فهمًا متكاملًا يسمحُ للأفرادِ بربطِ أجزاءِ حياتِهم المختلفةِ وتحقيقِ توازن حقيقي في مختلفِ جوانب وجودِهم.
مثلاً: قد يركِّز الفردُ على إدارةِ أموالِهِ بشكلٍ يومي من دون أن يضعَ في اعتباره كيف يمكن أن تؤثِّر قراراتهُ الماليةُ على مستقبله، وقد يستثمرُ أموالَه في أمور آنية بلا تفكير في كيفيَّةِ توظيفِها لتحقيقِ أهداف طويلةِ الأمد؛ مثل تحقيق الاستقرار المالي أو التَّوسع في المشاريع المستقبليَّة، وهذا النَّهج يمكن أن يؤدِّي إلى قرارات غير متكاملة تفتقرُ إلى الرُّؤية الاستراتيجيَّة.
على نحو مماثل، عندما يختارُ الإنسانُ أصدقائَه، فإنَّ النَّظرةَ التَّجزيئيةَ قد تدفعه لاختيار الأشخاص بناءً على معايير سطحيَّة، مثل المرح أو المزاح، من دون النَّظر إلى كيفيةِ تأثيرِ هؤلاءِ الأصدقاء على عقائدهِ وأخلاقهِ، وقد أظهرت الرِّوايات الشَّريفة الأخطار التي تنتج من الصَّداقات السَّلبية؛ قَالَ رَسُولُ الله (صلَّى الله عليه وآله): "الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ وَقَرِينِهِ" (1)، وعن الإمام جعفر بن محمَّد الصَّادق (عليه السلام) أَنَّهُ قَالَ: "لَا تَصْحَبُوا أَهْلَ الْبِدَعِ وَلَا تُجَالِسُوهُمْ فَتَصِيرُوا عِنْدَ النَّاسِ كَوَاحِدٍ مِنْهُمْ" (2).
قد يتجاهلُ الفردُ أهميةَ وجودِ أصدقاء يعينونه على طاعةِ الله (تعالى) ويشاركونه في بناء الذَّات والعقل؛ بينما النَّظرة الشُّمولية تأخذُ في اعتبارها تأثيرَ الأصدقاء على مسار الحياة بشكل عام، وتسعى إلى بناءِ شبكة من العلاقات التي تعززُ القيمَ والأهدافَ الشَّخصيَّة.
من أبرز الأمثلة التي تُبرز قيمة النَّظرة الشموليَّة في الحوار مع الآخرين، هي طريقة التَّعامل مع الاختلافات وتنوّع الآراء، إذ كثيرًا ما نجد أنَّ الحوار قد يصبح عقيمًا وغير مثمر إذا انغمس طرفا النقاش في تفاصيل جزئيَّة من دون السَّعي لفهم الصُّورة الكاملة؛ فحوار يجري بشكلٍ منفصلٍ عن سياقِ القضايا الكبرى، قد ينتهي إلى تبادل الأفكار غير البنَّاءة، ممَّا يعيق التَّوصل إلى نتائج ملموسة، بينما يمكنُ للنظرة الشُّمولية أن توصلَ إلى حلول تتناسب مع جميع جوانب القضيَّة المطروحة، ومثال على ذلك: كثيرًا ما يركز الحوار على القضايا الجزئيَّة بين المذاهب الإسلاميَّة، بينما كان الأولى أن يكون النقاش مركّزًا على مسألة الإمامة والخلافة بعد رحيل الرَّسول الأعظم (صلَّى الله عليه وآله)، ولو حُسم هذا النقاش لكان قد حُلّت أغلب القضايا الجزئيَّة تباعًا.
إنَّ النَّظرةَ الشُّمولية في بناءِ العقل والتَّفكير وبناء الذَّات توفر للفردِ تحقيقَ انسجام حقيقي بين مختلف جوانب حياته بواسطةِ ربطِ الأجزاءِ المختلفةِ وفهم كيف تتفاعل مع بعضها البعض، وبذلكَ يتمكَّنُ الفردُ من اتِّخاذِ قرارات مدروسة تحقق توازنًا طويلَ الأمد، بدلًا من الانغماس في التَّفاصيل الجزئية التي قد تُسفر عن نتائج غير مكتملة.
يُذكر أنَّ أحد مراجع التَّقليد ابتلي بشخص كان يشتمه ويسيء الأدب في الكلامِ معه حتَّى في المجالس العامَّة، ويبدو أنَّه كان من حاشيته. فاتَّفق يوماً أن رأى المرجع وحيدًا، فانتهز الفرصةَ وشكا له الحاجةَ إلى المالِ، حينها لم يبخلْ عليه المرجعُ؛ بل أغدقَ عليه ولم يرده، ولكنَّ العجيب أنَّ هذا الشَّخص لم يكفْ عن سوء أدبه مع المرجع والجرأة على انتقاصه؛ بل أخذ يقول: إنَّ فلانًا أعطاني المال لقطع لساني، وأنَّ إعطاءه لم يكن لله، وأنَّ فمي لا يغلقه المالُ!
وعندما بلغ الأمر بعض أصحاب ذلك المرجع تأثَّروا كثيرًا وعقدوا العزمَ في انتداب أحدهم ليكلِّم المرجع. وبالفعل توجه المنتدَبُ إلى المرجع وسأله إن كان قد أعطى فلانًا مالًا؟!
فقال: ولِمَ؟
وما الذي حدث؟
عندها قال الشَّخص: أتعلمون سماحتكم أنَّه كان يشتمُكم؟
قال: نعم.
قال: وتدرون أنَّه لا يزال يشتمكم ويدَّعي أنَّكم لم تعطوه المال من أجل اللهِ؛ بل ثمنًا لسكوتهِ أو رياءً؟
وأضاف مسترسلًا: هب أنَّا لا نقول: أنَّك عالِم دينيٌّ ومرجع تقليد، أفلا نقول أنَّك رجل مؤمن؟
أفيصحُّ تشجيع مَن يسبُّ مؤمنًا؟
ألا يشكِّل إعطاؤكم المال لذلك الشَّخص تشجيعًا له؟!
أليس في عملكم تربية له على إهانة العلماء وتشجيعًا للآخرين فتستمرُّ هذه السنَّةُ حتَّى بعد وفاتكم؟ و، و..
وهنا رفع المرجع رأسه وقال: أنا أسألك عن شيءٍ: هل هذا الرَّجل متزوّج؟
أجاب: نعم وله أولاد.
قال المرجع: وكيف وضعه المادِّي؛ أهو فقير أم غنيٌّ؟
قال: بل فقير، لا يملك دارًا؛ بل هو مستأجر لها.
فقال المرجع: لنفرض أنَّه ارتكب حرامًا إذ شتمني، ولكن ما ذنب زوجته وأطفاله إذا كان سيعودُ إليهم في المساء، ولا مالَ عنده يقوتهم به؟! (3).
فتأمّل كيف أنَّ هذا المرجع بنظرته الشموليَّة لم يتوقف عند الحالة الجزئيَّة المتمثّلة في إساءة الرَّجل إليه، وتجاوز الموقف الشَّخصي ليرى المشهد الأوسع؛ إذ نظر إلى عائلة ذلك الرَّجل التي قد تكون تعيش ضيقًا أو فقرًا، فرحمتُه شملت من أساء، وبصيرتُه رأت ما وراء الفعل الظَّاهر.
3. اِقْتِرَانُ العِلْمِ بِالْعَمَلِ.
حين يلتقي العلم بالعمل، ينبثق تآزر فريد يُنمي عقل الإنسان ويحفّز طاقاته على التَّفكير والإبداع. فبناء العقل وتطويره لا يكتمل بمجرَّد جمع المعرفة النَّظريَّة؛ وإنَّما يتحقق من خلال تحويل هذه المعرفة إلى تطبيق عملي؛ إذ أنَّ العقل ينضج ويتطور حين يُترجم العلم إلى فعل وتجربة، ويتطور باستخدامِ العملياتِ التَّطبيقيةِ التي تُمكِّن الأفراد من تحويلِ المعرفةِ النَّظريةِ إلى حلول عملية وقرارات فعَّالة، ممَّا يسمحُ بتعميقِ الفهم وربطِ الأفكارِ بمواقف واقعيَّة، ومن ثمَّ فإنَّ التَّفاعل مع التَّجارب العمليَّة عامل محوري في القدرات المعرفيَّة، حيث تُختبر الأفكارُ والنَّظريات في سياقات حقيقيَّة، ممَّا يوصلُ إلى تعديل الفهم أو السُلوك بما يتناسب مع الواقع. ولتوضيح هذا المعنى أكثر، دعونا نستعرض بعض الأمثلة الواقعيَّة:
المثال الأوَّل: سرُّ الاهتداء بالحكمة.
عن الإمامِ موسى الكاظم (عليه السلام): "يَا هِشَامُ إِنَّ كُلَّ النَّاسِ يُبْصِرُ النُّجُومَ وَلَكِنْ لَا يَهْتَدِي بِهَا إِلَّا مَنْ يَعْرِفُ مَجَارِيَهَا وَمَنَازِلَهَا وَكَذَلِكَ أَنْتُمْ تَدْرُسُونَ الْحِكْمَةَ وَلَكِنْ لَا يَهْتَدِي بِهَا مِنْكُمْ إِلَّا مَنْ عَمِلَ بِهَا. يَا هِشَامُ إِنَّ الْمَسِيحَ (عليه السلام) قَالَ لِلْحَوَارِيِّينَ:... بِحَقٍّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّ النَّاسَ فِي الْحِكْمَةِ رَجُلَانِ فَرَجُلٌ أَتْقَنَهَا بِقَوْلِهِ وَصَدَّقَهَا بِفِعْلِهِ وَرَجُلٌ أَتْقَنَهَا بِقَوْلِهِ وَضَيَّعَهَا بِسُوءِ فِعْلِهِ، فَشَتَّانَ بَيْنَهُمَا، فَطُوبَى لِلْعُلَمَاءِ بِالْفِعْلِ وَوَيْلٌ لِلْعُلَمَاءِ بِالْقَوْلِ..." (4).
هذا المثال يوضح بجلاء أنَّ العلم وحده لا يكفي لبناء عقلٍ متكامل؛ فدراسة الحكمة والمعرفة من دون تطبيقها لا تقود إلى الفهم العميق أو القدرة على اتِّخاذ القرارات الصَّائبة. فكما أشارت كلمات الإمام موسى الكاظم (عليه السلام)، هناك فرق كبير بين من يكتفي بالقول ويهمل التَّطبيق، وبين من يجمع بين المعرفة والعمل؛ إذ تتحقق القدرة على التَّفكير الإبداعي عند من يطبِّق علمه في حياته العمليَّة.
المثال الثَّاني: قوام الدُّنيا بأربعة.
عَنْ جَابِرٍ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) قَالَ: مَرِضْتُ فَعَادَنِي أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٌّ (عليه السلام).
فَلَمَّا جَلَسَ قَالَ (عليه السلام): "يَا جَابِرُ، قِوَامُ هَذِهِ الدُّنْيَا بِأَرْبَعَةِ:
بِعَالِمٍ مُسْتَعْمَلٍ بِعِلْمِهِ.
وَجَاهِلٍ لَا يَسْتَنْكِفُ أَنْ يَتَعَلَّمَ.
وَبِغَنِيٍّ جَوَادٍ بِمَعْرُوفِهِ.
وَبِفَقِيرٍ لَا يَبِيعُ آخِرَتَهُ بِدُنْيَاهُ.
فَإِذَا عَطَّلَ الْعَالِمُ عِلْمَهُ، وَاسْتَنْكَفَ الْجَاهِلُ أَنْ يَتَعَلَّمَ، وَبَخِلَ الْغَنِيُّ بِمَعْرُوفِهِ، وَبَاعَ الْفَقِيرُ آخِرَتَهُ بِدُنْيَاهُ، فَالْوَيْلُ لَهُمْ وَالثُّبُورُ.
يَا جَابِرُ: إِنَ مَنْ كَثُرَتْ نِعَمُ الله عَلَيْهِ كَثُرَتْ حَوَائِجُ النَّاسِ إِلَيْهِ، فَإِنْ قَامَ بِمَا يَجِبُ لله عَلَيْهِ عَرَضَهَا لِلدَّوَامِ وَالْبَقَاءِ، وَإنْ لَمْ يَقُمْ فِيهَا عَرَضَهَا لِلزَّوَالِ وَالْفَنَاءِ" (5).
تبرز بوضوح هذه القصَّة كيف يتحوَّل العلم من معرفة نظريَّة إلى أداة فعَّالة في خدمة الحياة والمجتمع. إذ يشير الإمام عليّ (عليه السلام) إلى أنَّ العالم الذي لا يستعمل علمه يصبح معطلًا، وأنَّ قيمة العلم تكمن في تطبيقه بوعي ومسؤوليَّة. وهذا يعكس جوهر الفكرة التي نؤكِّدها: أنَّ العلم وحده لا يكفي، ويحتاج إلى العمل به، والتَّفاني في استثمار المعرفة لخدمة الآخرين، بما يحقق التَّوازن بين الفرد والمجتمع، ويحول النِّعمة الإلهيَّة إلى أثر مستمر وبنّاء.
المثال الثَّالث: من كانت أفعاله كريمة اتَّبعه الناس.
تصاحبَ الإمامُ أميرُ المؤمنينَ عليٌ (عليه السلام) مع رجل ذِمِّيٍّ خارج الكوفة، في أيَّام حكومته، وكان الذِمِّيُّ لا يعرف الإمام (عليه السلام)، فقالَ له: أين تُريدُ يا عبدَ الله؟
قال الإمام عليٌّ (عليه السلام): أُريد الكوفة.
ولمَّا وصلا إلى مُفترق الطُّرق المؤدِّية إلى الكوفةِ، توجَّه الذِّمِّيِّ إلى الطَّريق الذي يُريده، وانفصلَ عن الإمام (عليه السلام)... ولكنَّه لم يَخط أكثر مِن بِضع خُطوات، حتَّى شاهدَ أمرًا عَدَّه غريبًا؛ فقد رأى أنَّ صاحبَه الذي كان قاصدًا الكوفة، تركَ طريقَهُ وشايعه قليلًا.
فسأله: ألست تقصدُ الكوفةَ؟
قال الإمامُ: بلى؟
قال الذِّمِّيُّ: ذلكَ هو الطَّريق المؤدِّي إلى الكوفة.
قال الإمام: أعلمُ ذلكَ.
سأل الذِّمِّيُّ باستغراب: ولماذا تركتَ طريقَكَ؟
قال الإمام (عليه السلام): هذا مِن تمامِ حُسنِ الصُّحبةِ، أنْ يُشيِّع الرَّجلُ صاحبَه هُنيَّهة إذا فارقه، وكذلك أمرَنا نبيُّنا.
قال الذِّمِّيُّ: هكذا أمرَ نبيُّكم؟!
قال الإمام: أجلْ.
قال الذِّمِّيُّ: لا جَرَمَ، أنَّما تبعه مَن تبعهُ لأفعالهِ الكريمة.
ثمَّ ترك طريقه الذي كان يقصده، وتوجَّه مع الإمام (عليه السلام) إلى الكوفة، وهما يتحدَّثان عن الإسلامِ، وتعاليمهِ العظيمةِ، فأسلمَ الرَّجل" (6).
لقد كان الإمام عليٌّ (عليه السلام) مثالًا حيًّا للعلم المتجسّد في العمل، إذ لم يقتصر علمه على المعرفة النظريَّة، وظهر جليًا في سلوكه العملي وأخلاقه الرَّفيعة، فاستقطب الرَّجل الذمّي بتصرفاته الكريمة، فانبهر بتعاليم الإسلام وانفتح عليها، حتَّى أفضى به ذلك إلى الإسلام في نهاية المطاف.
المثال الرَّابع: وصايا مهمَّة.
عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ (صلوات الله عليهما) أَنَّهُ أَوْصَى رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ أَنْفَذَهُ إِلَى قَوْمٍ مِنْ شِيعَتِهِ، فَقَالَ لَهُ: "بَلِّغْ شِيعَتَنَا السَّلَامَ وَأَوْصِهِمْ بِتَقْوَى الله الْعَظِيمِ، وَبِأَنْ يَعُودَ غَنِيُّهُمْ عَلَى فَقِيرِهِمْ، وَيَعُودَ صَحِيحُهُمْ عَلِيلَهُمْ، وَيَحْضُرَ حَيُّهُمْ جَنَازَةَ مَيِّتِهِمْ، وَيَتَلَاقَوْا فِي بُيُوتِهِمْ، فَإِنَّ لِقَاءَ بَعْضِهِمْ بَعْضاً حَيَاةٌ لِأَمْرِنَا، رَحِمَ اللهُ امْرَأً أَحْيَا أَمْرَنَا وَعَمِلَ بِأَحْسَنِهِ.
قُلْ لَهُمْ: إِنَّا لَا نُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ الله شَيْئاً إِلَّا بِعَمَلٍ صَالِحٍ، وَلَنْ يَنَالُوا وَلَايَتَنَا إِلَّا بِالْوَرَعِ، وَإِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ حَسْرَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَمَنْ وَصَفَ عَمَلًا ثُمَّ خَالَفَ إِلَى غَيْرِهِ" (7).
ونقف هنا لنستعرض بعضَ الدُّروس والعِبر التي يمكن استخلاصها من هذهِ الوصيَّةِ حتَّى نركِّزَ عليها في مجال العلمِ والعملِ:
1. التَّقوى؛ هي البوصلةُ المحوريَّةُ التي توجه الإنسانَ في حياتهِ، وهي الأساس الذي يبني عليه الفردُ سلوكياتهِ وأخلاقَه.
2.التَّأكيدُ على أهميةِ الرِّعاية المتبادلة بين أفراد المجتمع؛ حيث ينبغي أن يشعرَ الغنيُّ المسؤوليَّة اتِّجاه الفقير، والصَّحيح اتِّجاه المريض، والأحياء اتِّجاه الموتى، وهذه التَّوجيهات تبني مجتمعًا متضامنًا ومتعاونًا في السَّراء والضَّراء.
3. التَّواصلُ بين المؤمنين له دور مهم في الرَّوابط الاجتماعيَّة والإيمانيَّة؛ كما أنَّها تُعدُّ جزءًا من إحياء أمر أهل البيت (عليهم السلام)؛ والسَّبب في ذلك أنَّ المؤمنينَ حينما يتبادلونَ المعرفةَ والدَّعمَ المعنوي، فإنَّ هذا يسبب وحدتهم وتقويتهم.
4.الاجتماعُ بينَ المؤمنينَ، وتبادلُ السَّلام، والحديثُ في أمور الدِّين إحياء للخط الذي عاشه أهل البيت (عليهم السلام)، وهذا التَّواصل لا يقتصر على الاجتماع المادي، فهو إشاعة لمبادئ أهل البيت (عليهم السلام)، وشرح لمواقفِهم وأخلاقِهم.
5. إنَّ النَّفعَ والفوزَ بالولاية لا يتم إلَّا عبرَ العمل الصَّالح؛ ولا يكفي أن يصفَ الإنسانُ نفسه بأنَّه من أتباع أهل البيت (عليهم السلام) إذا لم يعكس ذلكَ في سلوكهِ وأعمالهِ.
6. الحذرُ من التَّناقض بين ما نقولهُ وما نفعلهُ؛ فالوصف الجيِّد والعمل السَّيء من أشدِّ المظاهر التي تسبِّب الحسرات يوم القيامة؛ لأنَّه يدل على النِّفاق والبعدُ عن الحقيقة.
المثال الخامس: تأثُّر وتأثير.
كان زكريا من أهل الكوفة وقد عاشَ وسط عائلة نصرانيَّة، وقد وردَ عنه أنَّه قال: "كنتُ نصرانياً فأسلمتُ وحَجَجتُ، فدخلتُ على أبي عبد الله (عليه السلام) فقلت: إنِّي كنتُ على النَّصرانية وإنِّي أسلمتُ، فقال: "وأيُّ شيء رأيتَ في الإسلام؟" قلتُ: قول الله (عزَّ وجلَّ): (مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإيمَان وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء) (8)، فقال: لقد هداكَ اللهُ، ثمّ قال: اللَّهمَّ اهدهِ ثلاثاً، ثمّ قال: سَل عما شئت يا بُني، فقلت: إنَّ أبي وأمي على النَّصرانيَّة وأهل بيتي، وأمِّي مكفوفةُ البصر، فأكون معهم وآكل في آنيتهم؟
فقال: يأكلونَ لحمَ الخنزير؟ فقلت: لا، ولا يمسُّونه، فقال: لا بأس، فانظر أمَّك فبرّها، فإذا ماتت فلا تكلها إلى غيرك، كُن أنت الذي تقوم بشأنِها، ولا تُخبرنَّ أحداً أنَّك أتيتني حتَّى تأتيني بمِنى إن شاء الله.
قال: فأتيتهُ بمنى والنَّاس حولهُ كأنَّه معلِّمُ صبيان، هذا يسأله وهذا يسأله، فلمَّا قَدمتُ الكوفة ألطفتُ لأمِّي وكنت أُطعمُها، وأُفلي ثوبها ورأسها وأخدمها، فقالت لي: يا بني، ما كنت تصنع بي هذا وأنت على ديني، فما الذي أرى منك منذ هاجرتَ فدخلت في الحنيفية؟
فقلت: رجل من وِلد نبيِّنا أمرَني بهذا، فقالت: هذا الرَّجل هو نبيٌّ؟
فقلت: لا، ولكنَّه ابن نبي.
فقالت: يا بُني إنَّ هذا نبيٌّ، إنَّ هذه وصايا الأنبياء، فقلتُ: يا أُمَّي، إنّه ليس يكون بعد نبيُّنا نبي، ولكنَّه ابنه، فقالت: يا بُني، دينك خير دين، اعرِضهُ عليَّ، فعرَضتهُ عليها فَدَخلت في الإسلام وعلَّمتُها، فصلَّت الظُّهرَ والعصرَ والمغربَ والعشاءَ الآخرةَ، ثمَّ عَرضَ لها عارض في الليل، فقالت: يا بُني، أعِد عليَّ ما علَّمتَني، فأعدتهُ عليها، فأقرَّت به وماتت، فلمَّا أصبَحت كان المسلمونَ الذين غسَّلوها، وكنتُ أنا الذي صلَّيتُ عليها ونزلْتُ في قبرِها" (9).
ومن خلال هذه القصة يتجلَّى بوضوح كيف أنَّ خلق الابن وحسن عمله بما تعلَّم، له أثر عميق في تغيير سلوك الآخرين، ونقله بهم من حال إلى أحسن حال، وأنَّ السلوك الحسن والتَّطبيق العملي للعلم قادران على إحداث تحول إيجابي في النُّفوس والمجتمع.
4. التَّعَامل وفق الدَّرجات.
في عالمٍ تتعددُ فيهِ الأنماطُ والمراتبُ والاختلافاتُ، تبدو ضرورةُ تغييرِ تعاملِنا مع النَّاس وفقًا لتنوعِ درجاتِهم وقيمهم أمرًا حتميًا لا بدَّ من إدراكهِ والتَّفكر فيه؛ إذ لا يمكننا أن نتعاملَ مع كلِّ النَّاس بنفسِ الطَّريقةِ؛ لأنَّ العدلَ يفرضُ علينا التَّفريق بينَ أساليبِ المعاملةِ بناءً على اختلافِ الشَّخصيات والمواقع؛ ولهذا المبدأ نجدُ في تعاليم الدِّينِ الحنيفِ أساسًا قويًا؛ حيث يختلفُ تعاملُ اللهِ (سبحانه) مع الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام) عن تعامله مع النَّاس الآخرينَ، وهو ما يعكسُ بوضوحٍ أنَّ التّنوعَ في التَّعامل ينسجمُ مع العدالةِ الإلهيةِ، فكما يختلفُ تعاملُ اللهِ (تعالى) مع المعصومينَ (عليهم السلام) عن غيرِهم، علينا أيضًاً أن نعي هذا التَّفاوت في تعاملِنا مع من حولنا.
قال الله (عزَّ وجلَّ): (تِلْكَ ٱلرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍۢ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ الله وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَٰتٍۢ وَءَاتَيْنَا عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ٱلْبَيِّنَٰتِ وَأَيَّدْنَٰهُ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ وَلَوْ شَآءَ الله مَا ٱقْتَتَلَ ٱلَّذِينَ مِنۢ بَعْدِهِم مِّنۢ بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ ٱلْبَيِّنَٰتُ وَلَٰكِنِ ٱخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ ءَامَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَآءَ اللهمَا ٱقْتَتَلُواْ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ) (10).
إنَّ تعاملَ الإنسانِ مع الآخرينَ وفقَ نمط موحد من الأخطاءِ الجسيمةِ؛ وسببُ ذلكَ أنَّ كلَّ فردٍ يحمل خصوصياته واحتياجاته التي تتطلبُ نمطًا مختلفًا من التَّعامل، وهذا الخطأُ يرتبطُ بسوء الفهمِ لقيمةِ العدلِ في العلاقات الإنسانيَّة؛ إذ إننا نميلُ إلى تبني معايير ثابتة في تفاعلِنا، وهو ما قد يقودُنا إلى تجاهل الفروقات الجوهريَّة بينَ الأفرادِ، مع أنَّ الحقيقة الثَّابتة بالدَّليل والوجدَان أنَّ التَّعامل مع النَّاس لا يمكن أن يكونَ معيارًا واحدًا، وينبغي أن يتسم بالتَّنوع وفقًا لمستوى الوعي، والثَّقافة، والعقلانية، والنُّضج.
فعلى سبيل المثال، يتطلَّبُ التَّعاملُ مع العلماء أسلوبًا يبرز الاحترامَ والتَّقدير لمكانته العلميَّة، بينما يختلف هذا الأسلوب عند التَّعامل مع الجاهلين الذينَ يحتاجون إلى توجيه واضح ومباشر؛ وعلى ذلكَ ورد العديدُ من النُّصوص الشَّريفة:
قال النَّبي الأعظمُ محمَّد (صلَّى الله عليه وآله): "لا تؤتوا الحكمةَ غيرَ أهلِها فتظلمُوها، ولا تمنعوها أهلَها فتظلمُوهم" (11). وقَالَ (صلَّى الله عليه وآله): "إِنَّا مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ أُمِرْنَا أَنْ نُكَلِّمَ النَّاسَ عَلَى قَدْرِ عُقُولِهِمْ" (12).
وعن أبي عبد الله جعفر بن محمَّد (عليهما السلام) أنَّه قال: "ليسَ هذا الأمرُ مَعرِفَتَهُ وولايَتَهُ فَقَط حتّى تَستُرَهُ عَمَّن ليسَ مِن أهلِهِ، وبِحَسبِكُم أن تَقولوا ما قُلنا، وتَصمُتوا عمَّا صَمَتنا، فإنَّكم إذَا قُلتم مَا نَقُول، وسلمتم لنَا فِيمَا سكتْنا عنْه فقَد آمنتُم بمِثلِ مَا آمَنا، وقَالَ اللهُ: (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا)" (13).
إنَّ التَّفريق في التَّعامل ليس مسألةً سهلةً، وتتطلبُ الكثيرَ من الحكمةِ والتَّأملِ؛ فالتَّعامل مع المرأة يختلف عن التَّعامل مع الرَّجل، وتعاملنا مع الأطفال يختلف عن تعاملنا مع البالغينَ، كذلك، يتطلب التَّعامل مع الشَّخصيات الضَّعيفة أو التَّافهة نوعًا من الصَّبر واللطف، يختلف عن التَّعامل مع الأفراد الجادين وأصحاب المبادئ.
من ناحية أخرى، فإنَّ الالتزام بالحقِّ جزء أساسي من كلِّ تعامل، وهو ما ينبغي أن يكون ثابتًا في كلِّ الظُّروف؛ فعندما نكون مجاملينَ، يجب أن تكون مجاملتُنا في موضعِها الصَّحيح، وأن يكون هناك توازن بين اللباقةِ والحفاظِ على المبادئ؛ فإنَّ المجاملةَ الممدوحة هي تلك التي تؤدي إلى نتائج إيجابيَّة وتعززُ العلاقات، بينما المجاملة على حسابِ الحقِّ قد تفضي إلى نتائج عكسيَّة وتضرُّ بالعلاقةِ والعدالةِ. ولذا، من المهم أن ندركَ أن تفاعلَنا مع الآخرينَ هو تعبير عن قيمنا ومبادئنا، وأنَّ الفهمَ العميقَ للاختلافات والتَّعامل معها بحكمة ومرونة هما من صفات الإنسان الاستثنائي، والإنسان الاستثنائي هو ذلك الذي يبرع في تقديم نموذج متميِّز في مجتمعهِ وحياتهِ؛ ويحتاج إلى أربعةِ أركانٍ أساسيةٍ، تجسّدُ جوهرَ الاستثنائيَّة وتميزُها في التَّعاملِ والعطاءِ؛ وهي:
أوَّلًا: بناء العلاقات القوية.
إنَّ العلاقات الإنسانيَّة ليست تفاعلات سطحيَّة، فهي جسور تربط بين الأفراد وتشكِّل أساس النَّجاح والتَّفوق. وسرُّ العلاقات الطيِّبة والمثمرة يكمن في الكلام اللطيف والمجاملة البناءة، فهذه التَّصرفات تجعل الآخرين يشعرون بالتَّقدير والاحترام، وكلَّما اتَّسعت شبكة علاقاته وامتدت إلى دوائر أوسع، ازدادت قيمته وتميزه بين النَّاس.
ثانيًا: الطَّاقة والحركة.
لا يستطيع الإنسان أن يحقق أهدافه ويصل إلى مستويات استثنائيَّة وهو واقف في مكانه، فالحركة والنَّشاط ضرورة ملحَّة لتحقيق الإنجازات. والإنسان الاستثنائي هو من يسعى دائمًا لتوظيف طاقاته العقليَّة والجسديَّة في العمل والمبادرة، ويحوّل كلَّ فرصة إلى فعل مثمر، مفعم بالعزيمة والإصرار، ليصنع لنفسه أثرًا مستدامًا في حياته ومحيطه.
ثالثًا: الحماس.
إنَّ العلاقات الباردةَ التي تفتقرُ إلى الحماس والاهتمام لا تُحقق نتائج مثمرةً، وقد تكونُ غيرَ فعَّالة؛ إذ العلاقة المثمرة هي تلك التي تُظهر اهتمامًا حقيقيًا وتفاعلًا بين الأطرافِ، حيث يعكس الحماسُ الجديةَ والنَّوايا الطيِّبةَ في التَّعامل، وهذا الحماسُ يشارك في خَلقِ جو من التَّعاون والنَّجاح المشترك.
وممَّا يروى في هذا المجال: "أنَّ أحدَ رجالِ المالِ في بعضِ البلادِ أرادَ ترشيحَ نفسهِ للمقعد النِّيابي، فاستشارَ محاميه عمَّا يضمنُ له النَّجاحَ في الانتخاب؟
فقال له المحامي: إنَّ الطَّريقَ الوحيدَ للنَّجاح، هو الاندماجُ في المجتمع حتَّى يشعرَ المجتمعُ بأنَّك منه، وأنَّه منك، فإنَّ ذلكَ كفيل بأن ينتخبوكَ حينَ الاقتراع.
وإذا بالنَّاس يرون الثَّري الذي لا يأبه بالنَّاس ينزلُ إلى مستواهم، فيعود مرضاهم، ويحضر ولائمَهم، ويشيِّع جنائزَهم، ويستقبل القادمينَ، ويحزنُ في أحزانِهم، ويفرحُ لأفراحِهم، حتَّى إذا جاءَ يومُ الانتخاب، صوَّتوا باسمه، وصار نائبًا عنهم" (14).
رابعًا: التَّأثير الإيجابي.
إنَّ التَّأثيرَ الإيجابي يتطلَّبُ أن يكونَ الشَّخصُ ملتزمًا بالقيم النَّبيلة، ويعبرُ عنها في سلوكِهِ اليومي، وفي إطارِ هذهِ المبادئ نجدُ أنَّ الاهتمامَ بالتَّفاصيلِ الصَّغيرةِ في العلاقات يمكن أن يفتحَ أبوابًا عظيمةً، وحتَّى لو ظهرتْ الأمورُ الصَّغيرةُ مثل الابتسامة في وجهِ المؤمن، أو مصافحة اليد، أو التَّواضع، أو مسامحة الآخرين والعفو عنهم كأمور بسيطة؛ لكنها تلعب دورًا مهمًا في بناءِ علاقات قوية ومؤثِّرة، وعن طريقِ هذه الأفعال البسيطة، يمكن للإنسان أن يحققَ تأثيرًا كبيرًا ويفتح أبوابًا واسعة في حياتهِ وفي حياةِ الآخرينَ.
أمثلة عمليَّة لتطبيق مبدأ التَّعامل وفق الدرجات وما يتعلَّق به:
المثال الأوَّل: حلم الإمام الحسن (عليه السلام).
"لَمّا ماتَ الحَسَنُ بنُ عَلِيٍّ (عليهما السلام) أخرَجوا جِنازَتَهُ، فَحَمَلَ مَروانُ سَريرَهُ، فَقالَ لَهُ الحُسَينُ (عليه السلام): أتَحمِلُ سَريرَهُ؟ أما وَالله لَقَد كُنتَ تُجَرِّعُهُ الغَيظَ.
فَقالَ مَروانُ: إنِّي قَد أفعَلُ ذاكَ بِمَن يُوازِنُ حِلمُهُ الجِبالَ" (15).
تُظهر هذه القصة مدى تأثير الخلق الرَّفيع على النُّفوس، وكيف يمكن للصَّبر والحكمة أن يغيّرا مواقف الآخرين اتِّجاه الإنسان. فالإمام الحسن بن علي (عليهما السلام)، بصفاته العالية وصبره العظيم، أظهر عظمة أخلاقه في موقفه مع مروان، حتَّى في وقت كان يُتوقع أن يكون فيه الحقد والعداء حاضرًا. ومن هنا تؤكِّد هذه الحادثة أنَّ الإنسان الاستثنائي في خلقه وصبره يترك أثرًا إيجابيًا في محيطه، فالأخلاق الطيّبة والهدوء في مواجهة الصعاب قادران على قلب القلوب، وتحويل النُّفوس من عداوة أو استياء إلى تقدير وإدراك لقيمة الخير والفضيلة.
المثال الثَّاني: أنت حر لوجه الله (تعالى).
روي أنَّ غلامًا للإمامِ الحسنِ (عليه السلام) جنى جنايةً توجب العقابَ عليهِ فأمرَ بهِ أن يضربَ.
فقال: يا مولاي (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ) (16).
قال: خلوا عنه.
فقال: يا مولاي (وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ) (17).
قال: قد عفوت عنك.
قال: يا مولاي (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (18).
قال: أنت حرٌ لوجهِ اللهِ، ولك ضعف ما كنت أعطيك" (19).
تُجسِّد هذه القصَّة عظمة العفو والتَّسامح في بناء العلاقات الإنسانيَّة وتربية النُّفوس الرَّفيعة. فالإمام الحسن (عليه السلام) كشف عن قدرة استثنائيَّة على كظم الغيظ والتَّحلي بالصفح، حتَّى أمام ذلك الغلام الذي أساء إليه، وأنَّ التَّسامح ليس علامة ضعف؛ وإنَّما هو انعكاس للقوَّة الحقيقيَّة في ضبط النَّفس والتَّحكم بالعواطف والانفعالات.
المثال الثَّالث: من آثار الأخلاق الحسنة.
قال الخوارزميُّ: "قال رجلٌ من أهل الشَّام قدمتُ المدينة بعد صفِّين فرأيت رجلًا حضرنا فسألت عنه فقيل: الحسن بن عليٍّ (عليه السلام) فحسدت عليًّا أن يكونَ له ابن مثله فقلت له: أنت ابنُ أبي طالب؟!
قال: أنا ابنه.
فقلت له: بك وبأبيك فشتمته وشتمت أباه، وهو لا يردُّ شيئًا.
فلمّا فرغت أقبل عليَّ، قال: أظنُّك غريبًا ولعلَّ لك حاجة فلو استعنت بنا لأعنَّاك، ولو سألتنا لأعطيناك، ولو استرشدتنا أرشدناك، ولو استحملتنا حملناك.
قال الشَّامي: فوليّت عنه وما على الأرض أحد أحبُّ إليَّ منه فما فكَّرت بعد ذلك فيما صنع وفيما صنعت إلَّا تصاغرت إليَّ نفسي" (20).
هذه القصة تظهر قوَّة الأخلاق الحسنة وتأثيرها العميق على النُّفوس. فعلى الرَّغم من الإساءة والشَّتم الذي تعرَّض له الإمام الحسن بن علي (عليهما السلام)، لم يرد بالمثل، واستقبل الغريب بالرَّحمة والكرم، وعرض عليه المساعدة والنَّصيحة بلا تردد.
وهذا السلوك يوضِّح أنَّ الإنسان الاستثنائي لا يرد الإساءة بالإساءة، ويحوّل الموقف إلى فرصة لبناء الاحترام والثقة. كما تؤكد القصة على أنَّ الأخلاق العالية قادرة على ترويض القلوب وتغيير النفوس، حتَّى أولئك الذين يأتون بقسوة أو حقد، فينقلب شعورهم اتِّجاهه إلى حب وتقدير، فيصبح نموذجًا حيًّا لآثار السُّلوك القويم على المحيط الاجتماعي.
المثال الرَّابع: أمُّ الأُسود.
"ذكر التَّاريخ أن أحدَ رهبان النَّصارى كان معاصرًا لزمن حكومةِ اﻹمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، وكان له ولد اسمه (سن سن)، وقد مات أبو سن سن على النَّصرانية، وأما هو فقد انتقل من المسيحيَّة إلى اﻹسلام، ولكن كان منحرفاً عن أهل البيت (عليهم السلام)، وبقي على ذلك إلى أن مات، وكان يدعى بـ(أعين)، وقد عاصر زمنَ اﻹمامينِ الحسن والحسين (عليهما السلام).
وكان ﻷعين بنت واحدة فقط وعشرة أبناء وكانوا كلُّهم من البعيدينَ عن أهل البيت (عليهم السلام)، وعاصروا زمن اﻹمامينِ السَّجاد والباقر (عليهما السلام).
وكانت بنت أعين تكنَّى بأم اﻷسود، وصارت مؤمنة وشيعية بواسطة أحد اﻷتقياء من أصحاب اﻹمام زين العابدين (عليه السلام) وهو أبو خالد الكابلي زميل أبي حمزة الثمالي. وكانت هذه المرأة صادقةَ الإيمان ومن محبِّي أهل البيت (عليهم السلام)، فكانت الوحيدة من شيعة أهل البيت (عليهم السلام) في عائلتها، وصارت سبباً في تشيُّع ثمانية من إخوتها ومنهم: زرارة بن أعين؛ وهو من ثقاة أصحاب أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، وحمران بن أعين، وبكير بن أعين.
وقد صار العشرات من ذرية هؤلاء من أصحاب المعصومين (عليهم السلام) إلى مولانا اﻹمام المهدي الموعود (عجَّل الله تعالى فرجه الشريف)، وذلك ببركة جهود المرأة الصَّالحة المؤمنة أم اﻷسود" (21).
وتُظهِر قصة أمُّ الأسود قوَّة الفرد المؤمن وإيمانه العميق في تغيير مجرى حياة الآخرين. فعلى الرَّغم من كونها المرأة الوحيدة من أسرتها التي اعتنقت محبة أهل البيت (عليهم السلام)، إلَّا أن حماستها وإخلاصها أدَّى إلى أن يقتدي بها ثمانية من إخوتها، ومن ثمَّ انتشر أثرها بين ذرية هؤلاء إلى أجيال لاحقة، وصولًا إلى أصحاب المعصومين حتَّى الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه).
المثال الخامس: حتَّى في المعاجز.
قالَ ابْنُ السِّكِّيتِ (22) لأَبِي الْحَسَنِ (عليه السلام) لِمَاذَا بَعَثَ الله مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ (عليه السلام) بِالْعَصَا ويَدِه الْبَيْضَاءِ وآلَةِ السِّحْرِ، وبَعَثَ عِيسَى بِآلَةِ الطِّبِّ، وبَعَثَ مُحَمَّداً (صَلَّى اللَّه عَلَيْه وآلِه وعَلَى جَمِيعِ الأَنْبِيَاءِ) بِالْكَلَامِ والْخُطَبِ؟
فَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ (عليه السلام): "إِنَّ اللهَ لَمَّا بَعَثَ مُوسَى (عليه السلام) كَانَ الْغَالِبُ عَلَى أَهْلِ عَصْرِه السِّحْرَ فَأَتَاهُمْ مِنْ عِنْدِ الله بِمَا لَمْ يَكُنْ فِي وُسْعِهِمْ مِثْلُه ومَا أَبْطَلَ بِه سِحْرَهُمْ وأَثْبَتَ بِه الحجَّةَ عَلَيْهِمْ، وإِنَّ اللهَ بَعَثَ عِيسَى (عليه السلام) فِي وَقْتٍ قَدْ ظَهَرَتْ فِيه الزَّمَانَاتُ (23) واحْتَاجَ النَّاسُ إِلَى الطِّبِّ فَأَتَاهُمْ مِنْ عِنْدِ الله بِمَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ مِثْلُه وبِمَا أَحْيَا لَهُمُ الْمَوْتَى وأَبْرَأَ الأَكْمَه والأَبْرَصَ بِإِذْنِ الله وأَثْبَتَ بِه الْحُجَّةَ عَلَيْهِمْ، وإِنَّ الله بَعَثَ مُحَمَّداً (صلَّى الله عليه وآله) فِي وَقْتٍ كَانَ الْغَالِبُ عَلَى أَهْلِ عَصْرِه الْخُطَبَ والْكَلَامَ، وأَظُنُّه قَالَ: الشِّعْرَ. فَأَتَاهُمْ مِنْ عِنْدِ الله مِنْ مَوَاعِظِه وحِكَمِه مَا أَبْطَلَ بِه قَوْلَهُمْ وأَثْبَتَ بِه الْحُجَّةَ عَلَيْهِمْ..." (24). وهذا المثال يوضح أنَّ التَّعامل الفعَّال لا يكون موحدًا لكلِّ النَّاس أو لكلِّ زمان، ويحتاج إلى فهم العقول والبيئات ومستوى وعي النَّاس، ثمَّ اختيار الأسلوب الأمثل لإيصال الرسالة وتحقيق التَّأثير. وهو ما ينسجم تمامًا مع مبدأ التَّعامل وفق الدَّرجات الذي نعتمد عليه في الحياة اليوميَّة: إدراك الفروق بين النَّاس واختيار أسلوب يناسب مستوى فهمهم واحتياجاتهم ليكون التَّأثير إيجابيًا ومستدامًا.
وقبل أن نختم هذا الموضوع، يجدر بنا التَّأكيد على أنَّ التَّعامل وفق العقل لا يقتصر على شؤون الدُّنيا فحسب، ويمتد تأثيره ليشمل ثواب الآخرة أيضًا؛ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ الدَّيْلَمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ : قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عَلَيْهِ السَّلَامُ): فُلَانٌ مِنْ عِبَادَتِهِ وَدِينِهِ وَفَضْلِهِ كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ): كَيْفَ عَقْلُهُ؟
قُلْتُ: لَا أَدْرِي، فَقَالَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ): "إِنَّ الثَّوَابَ عَلى قَدْرِ الْعَقْلِ؛ إِنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فِي جَزِيرَةٍ مِنْ جَزَائِرِ الْبَحْرِ، خَضْرَاءَ، نَضِرَةٍ، كَثِيرَةِ الشَّجَرِ، ظَاهِرَةِ الْمَاءِ، وَإِنَّ مَلَكَاً مِنَ الْمَلَائِكَةِ مَرَّ بِهِ، فَقَالَ: يَا رَبِّ، أَرِنِي ثَوَابَ عَبْدِكَ هذَا، فَأَرَاهُ اللَّهُ تَعَالى ذلِكَ، فَاسْتَقَلَّهُ الْمَلَكُ، فَأَوْحَى اللَّهُ (تَعَالى) إِلَيْهِ أَنِ اصْحَبْهُ، فَأَتَاهُ الْمَلَكُ فِي صُورَةِ إِنْسِيٍّ، فَقَالَ لَهُ: مَنْ أَنْتَ؟
قَالَ: أَنَا رَجُلٌ عَابِدٌ بَلَغَنِي مَكَانُكَ وعِبَادَتُكَ فِي هذَا الْمَكَانِ، فَأَتَيْتُكَ لِأَعْبُدَ اللَّهَ مَعَكَ، فَكَانَ مَعَهُ يَوْمَهُ ذلِكَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ، قَالَ لَهُ الْمَلَكُ: إِنَّ مَكَانَكَ لَنَزِهٌ وَمَا يَصْلُحُ إِلَّا لِلْعِبَادَةِ، فَقَالَ لَهُ الْعَابِدُ: إِنَّ لِمَكَانِنَا هذَا عَيْباً، فَقَالَ لَهُ: وَمَا هُوَ؟
قَالَ: لَيْسَ لِرَبِّنَا بَهِيمَةٌ، فَلَوْ كَانَ لَهُ حِمَارٌ رَعَيْنَاهُ فِي هذَا المَوْضِعِ؛ فَإِنَّ هذَا الْحَشِيشَ يَضِيعُ، فَقَالَ لَهُ الْمَلَكُ: وَمَا لِرَبِّكَ حِمَارٌ؟
فَقَالَ: لَوْ كَانَ لَهُ حِمَارٌ مَا كَانَ يَضِيعُ مِثْلُ هذَا الْحَشِيشِ، فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالى إِلَى الْمَلَكِ: إِنَّمَا أُثِيبُهُ عَلى قَدْرِ عَقْلِهِ" (25).
إنَّ الوعي الإنساني الحقيقي لا يُقاس بمقدار المعلومات التي يمتلكها الإنسان؛ بل بقدرته على تحويل المعرفة إلى بصيرة، والبصيرة إلى سلوك، والسلوك إلى أثر نافع في الحياة. ومن يعي الوقت الأنسب لتفكيره، ويملك نظرة شموليَّة تربط بين أجزاء حياته، ويقرن علمه بالعمل، ويتعامل مع النَّاس وفق عقولهم ومراتبهم، فقد بلغ أعلى درجات النُّضج العقلي والرُّشد العملي، تلك المرتبة التي تُبنى عليها الحضارات وتُصاغ بها القيم الخالدة.



اضف تعليق