العالم الذي طالما حاول الغرب تغريبه وتملكه، وفرض مركزيته عليه، وتحويله إلى جيوب هامشية، وضواحي خلفية، ومدارات حزينة، وجعله تابعاً وخاضعاً له ولسياساته الثقافية والاقتصادية، هذا العالم له كلمته التي يريد أن يقولها للغرب، وحان الوقت الذي يصغي فيه الغرب إلى العالم، وهو يعيد النظر في الرؤية لذاته...
نشر الفيلسوف والاقتصادي الفرنسي غاي سورمان، في صحيفة بروجيكت سنديكيت ـ عالم أوروباـ مقالة هامة بعنوان (ماهية الغرب)، قامت بترجمتها صحيفة العرب القطرية، ونشرتها في الثاني من شهر مايو 2008م. وتعد هذه المقالة من نمط المقالات الجدلية التي تفتح بطبيعتها نقاشاً اختلافياً، لا يتحدد بالضرورة بمكان، ولا ينتهي بزمان، ويمكن أن يكون عابراً بين الثقافات والمجتمعات.
علماً أن الحديث عن قضية ماهية وهوية الغرب، ليس جديداً في ساحة الجدل والنقاش عند الغربيين، والأوروبيين منهم بشكل خاص، والفرنسيين بشكل أخص، وليس قديماً أيضاً، وسيظل سارياً ومفتوحاً على ما يبدو، وسيكون من الصعب وضع حد وخاتمة لهذا النقاش، في ظل وضعيات بات فيها العالم برمته يتغير ويتحول، وتتغير معه صورته، ورؤية الناس له.
ومن الواضح أيضاً، أن هذه القضية لم تعد تعني الغربيين فحسب، وإنما باتت تعني العالم بكل ثقافاته ومجتمعاته، وذلك نتيجة تعقيدات العلاقة من النواحي كافة بين الغرب والعالم.
العالم الذي طالما حاول الغرب تغريبه وتملكه، وفرض مركزيته عليه، وتحويله إلى جيوب هامشية، وضواحي خلفية، ومدارات حزينة، وجعله تابعاً وخاضعاً له ولسياساته الثقافية والاقتصادية، هذا العالم له كلمته التي يريد أن يقولها للغرب، وحان الوقت الذي يصغي فيه الغرب إلى العالم، وهو يعيد النظر في الرؤية لذاته وهويته، وعلى أمل أن يصحح رؤيته وعلاقته بالعالم.
وبالعودة إلى مقالة غاي سورمان هناك وقفات نقاشية عديدة، من هذه الوقفات مقاربته لمقولة صدام الحضارات من جهة رؤية هنتنغتون لمفهوم الغرب، حيث اعتبر سورمان أن خطأ هنتنغتون الأساسي يتلخص في حصر الغرب داخل حدود وطنية، في حين أنه يرى أن الغرب لا يتحدد بحدود وطنية، ولا خريطة جغرافية له، ولا يمكن في نظره رسم خريطة للغرب ما دامت بعض الدول الآسيوية غربية مثل اليابان وتايوان، وما دامت المجموعات غير الغربية مثل المسلمين في أوروبا تعيش في بلدان من المفترض أنها غربية، وما دامت بعض الدول الشرقية تتبنى أسلوباً شبه غربي، وبعض الدول الغربية مثل روسيا لا تتبنى أسلوباً غربياً كاملاً.
وبالتالي فمن الأيسر حسب رؤية سورمان تعيين الحدود الفكرية للغرب، بدلاً من محاولة تعيين حدوده الجغرافية.
وبالطبع فإن هذا الرأي لا يحسم النقاش حول ماهية الغرب، وليس باستطاعته تحقيق هذا الحسم لا عند الغربيين، ولا عند غيرهم أيضاً، وقصارى ما يصل إليه أنه يكشف عن وجهتي نظر في داخل الغرب عن الغرب نفسه، بين وجهة نظر تحاول أن تحدد الغرب على أساس مفهوم الحدود الجغرافية والمكانية، ووجهة نظر أخرى تحاول أن تحدد الغرب على أساس مفهوم الحدود الفكرية والثقافية.
إلى جانب وجهة نظر ثالثة لم يشر إليها سورمان تحاول تحديد الغرب على أساس مفهوم الدين بتصوير أن الغرب يتحدد في نطاق المسيحية، إلى جانب وجهات نظر أخرى!
نقاش في المحددات
من الوقفات التي تستدعي النقاش، والنقاش المستفيض والنقدي في مقالة (ماهية الغرب) للاقتصادي الفرنسي غاي سورمان، محاولته تصوير الغرب بوصفه العالم الفريد والمتفرد والمتفوق حتمياً على بقية العوالم الأخرى، والمبالغة في مدح الغرب، وكأن ما دونه هي عوالم أقل حظاً في الإبداع، وأدنى درجة في الذكاء، وأنزل رتبة في الخيال.
وحتى يصل سورمان إلى تحديد صائب ودقيق لماهية الغرب، يرى أن هناك ثلاث سمات جوهرية، لا يمكن العثور عليها بسهولة في نظره فيما يسمى بالحضارة الشرقية، ومن يكتسب هذه السمات مجتمعة ينتمي إلى الغرب، مهما كان موطنه في عالم الجغرافيا، حتى لو كان في أبعد بقعة من أوروبا، ومن يفقدها أو يتخلى عن بعضها يخرج عن عالم الغرب حتى لو كان موطنه في أوروبا، باعتبار أن الغرب في رؤية سورمان إنما يعبر عن أسلوب فكري لا غير.
وهذه السمات الثلاث هي:
أولاً: الرغبة في الإبداع والتجديد، حيث يرى سورمان أن منذ العصر الهليني كانت التحية المعتادة بين المعارف والأصدقاء ما الجديد؟، وهذه التحية في نظر سورمان تجسد جوهر العقلية الغربية، أما غير الغربيين فإنهم يضعون التقاليد في مرتبة أعلى من الإبداع. ويضيف سورمان إن الإبداع باعتباره قيمة جوهرية يفسر النجاحات العلمية التي حققها الغرب، كما يفسر الصراعات الحتمية مع المجتمعات المحافظة غير الغربية، ويفسر كذلك ما يتعين علينا ـ والكلام لسورمان ـ أن نطلق عليه تغريب الغرب.
ويتمم سورمان كلامه بالقول: إن الغرب يواصل تدمير تقاليده، بما في ذلك معتقداته الدينية، وهي العملية التي وصفها الاقتصادي جوزيف شومبيتر بالتدمير الخلاق.
ثانياً: القدرة على انتقاد الذات، التي تشكل في نظر سورمان سمة أساسية للغرب، ويرى أن أغلب الحضارات غير الغربية، إن لم يكن جميعها تعمل الكبرياء، وحب الذات على صد انتقاد الذات، أو على الأقل منع الفرد من انتقاد حضارته، ويضيف أن المفكر المسلم أو الصيني لا يمكن وصفه بالمسلم أو الصيني الحقيقي، إذا ما تعرض لعالمه بالانتقاد، وأما في الغرب فالأمر ليس كذلك، إذ يظل المفكر الغربي يتمتع بشرعيته الكاملة حين يحكم بالموت على القيم الغربية.
ثالثاً: المساواة بين الجنسين، فبعد أن ظلت هذه الفكرة كما يقول سورمان، تشكل موضوع نزاع في الغرب طيلة قرون من الزمان، أصبحت اليوم قاعدة ثابتة، بخلاف واقع الحال في أغلب الحضارات غير الغربية.
هذه هي محددات ماهية الغرب في نظر سورمان، التي تجعل منه عالماً فريداً ومتفرداً على بقية العالم.
ولا أعلم على وجه التحديد ما هي وجهات نظر الغربيين الآخرين حيال هذه المحددات، لكنها محددات لا يمكن المرور عليها بدون نقاش، ولا حتى التسليم بها، والركون إليها، ولا تصلح أساساً لهذا الغرض، لأنها محددات نسبية وليست مطلقة، بمعنى أن هذه المحددات لا ينفرد بها الغرب بصورة كلية ومطلقة، ولا تنعدم في الحضارات غير الغربية بصورة كلية ومطلقة أيضاً، فالإبداع والتجديد ليس حكراً على الغرب، وليس شأناً غربياً بالتأكيد، والمفارقة نسبية، وهذه النسبية لن تظل ثابتة بالمطلق، ويمكن أن تتبدل لغير صالح الغرب في لحظات تاريخية غير محسوبة.
ومن جهة أخرى، إن اليابان التي حرص الأوروبيون على إدماجها في مفهوم الغرب، والتي عرف عنها الإبداع والتجديد إلا أنها لم تدمر تقاليدها، ولم تتخل عنها، وما زالت تحافظ عليها. والصين التي هي خارج مفهوم الغرب، تشهد حركة في الإبداع والتجديد بطريقة متوثبة بدأت تلفت بشدة انتباه العالم برمته. الأمر الذي يؤكد أن الإبداع والتجديد لا يتنافى مع فكرة التقاليد التي تكون حية ونابضة كما في مثال اليابان، وأن الإبداع والتجديد ليس شأناً غربياً ولن يكون مطلقاً، والصين مثال على ذلك.
ومن جهة ثالثة، إن التاريخ لم يحدثنا عن حضارة لم تشهد إبداعاً وتجديداً، وإذا كان الغرب اليوم يشهد تفوقاً في هذا الشأن على بقية الحضارات الأخرى، ليس لأنه غربي ويتفرد بأسلوب فكري لا نظير له، إنما هو حصيلة عجلة التقدم من جهة، وتراكم منجزات التقدم الإنساني بصورة عامة. وبالتالي فإن التفوق في الإبداع والتجديد هو سمة الحضارة المتفوقة، فكانت سمة للحضارة الإسلامية في عصور تفوقها، وستكون سمة لكل حضارة متفوقة، وليس شأناً وامتيازاً أوروبياً أو غربياً.
وأما بشأن القدرة على انتقاد الذات، فهي ليست سمة حميدة بالمطلق أو سيئة بالمطلق، كما أنها ليست سمة غائبة أو منعدمة في بقية الحضارات، وليس فخراً للغرب أن يتظاهر بتدمير معتقداته الدينية.
وأما بشأن المساواة بين الجنسين، فإن الغرب الذي دافع عن حقوق المرأة، وفي المقابل تحطمت مؤسسة الأسرة، وهذا ما يعرفه الغربيون أنفسهم قبل غيرهم، ليس هذا فحسب وإنما تغيرت حتى هوية مؤسسة الأسرة، وانحرفت عن طبيعتها السوية بعد الاعتراف بالزواج المثلي، والذي هو بخلاف قانون الطبيعة، وإعطاء هذا النمط من الزواج وصف الأسرة، مع ضمان الحق القانوني.
وبالتالي فإن مسألة المرأة والأسرة في الغرب، هو أكثر أمر بات يخيف المجتمعات غير الغربية، ولا يحق للغرب أن يتبجح بهذه السمة، التي كان يفترض منها أن تنبه الغرب إلى ذاته!
اضف تعليق