لا يكاد يمر عام في العراق دون أن تصدمنا كارثة جديدة، وآخرها حريق مول في مدينة الكوت وخلف وراءه قتلى وجرحى وخسائر بملايين الدولارات. هذا التكرار المأساوي للحرائق يكشف عن خلل عميق في منظومة السلامة، وسوء الإدارة، والأخطر من ذلك تفشي الفساد الذي يحرق البلاد وأهلها قبل أن تشتعل النيران في الأبنية...

لا يكاد يمر عام في العراق دون أن تصدمنا كارثة جديدة، وآخرها حريق مول في مدينة الكوت وخلف وراءه قتلى وجرحى وخسائر بملايين الدولارات. هذا التكرار المأساوي للحرائق يكشف عن خلل عميق في منظومة السلامة، وسوء الإدارة، والأخطر من ذلك تفشي الفساد الذي يحرق البلاد وأهلها قبل أن تشتعل النيران في الأبنية.

المولات في العراق تحوّلت إلى مصائد موت، بسبب غياب أبسط شروط السلامة، من مخارج الطوارئ، إلى أجهزة الإنذار، إلى أنظمة الإطفاء الفعالة. والمأساة لا تتوقف عند الخسائر المادية، بل تتعداها إلى أرواح تُزهق، وأُسر تُفجع، وحياة تُدمَّر. من يتحمل المسؤولية؟ سؤال يتكرر في كل حادث، لكن الإجابة دائماً فضفاضة، تتقاذفها المؤسسات، دون تحقيق أو محاسبة فعلية.

إن منح إجازات البناء والتشغيل دون الالتزام الصارم بشروط الدفاع المدني والسلامة يُعد جريمة موثقة، لكنّها مغلفة بأوراق رسمية ممهورة بتواقيع المُفسدين. كم من مول بُني بلا خرائط هندسية مدروسة، أو افتُتح بوساطة، أو أُغلق ملفه الرقابي مقابل رشوة؟ الفساد هنا ليس مجرد خلل، بل هو الوقود الحقيقي لكل هذه النكبات.

أما عن تعويض الضحايا، فغالباً ما يُترك الأمر للأقدار أو للتبرعات العشوائية، في غياب قانون واضح يُلزم المستثمرين أو الدولة بدفع تعويضات عادلة للعوائل المنكوبة. فمن يُعيد الأم لطفلها أو الزوج لزوجته؟ ومن يعوّض مواطناً بسيطاً فقد مصدر رزقه تحت ركام سوق محترق؟

الحكومة العراقية مطالبة اليوم بأكثر من مجرد تشكيل لجان تحقيق روتينية. نحتاج إلى تغيير جذري في منهج التعامل مع ملف السلامة، ابتداءً من تشديد شروط منح الإجازات، إلى فرض الرقابة الدورية الصارمة، وصولاً إلى تفعيل قوانين العقوبات بحق المتسببين، سواء كانوا مسؤولين أو مستثمرين.

البرلمان من جهته يجب أن يتحمل دوره التشريعي والرقابي، من خلال تعديل قوانين الاستثمار والبناء، لتشمل بنوداً إلزامية تتعلق بسلامة المواطنين كشرط مسبق للترخيص. كما يجب نشر تقارير دورية للرأي العام توضح مدى التزام المراكز التجارية بهذه الشروط، وفضح المتقاعسين.

الحرائق ليست قضاءً وقدراً، بل نتيجة إهمال مقصود وفساد مزمن، وأي صمت على استمرار هذه الكوارث هو مشاركة ضمنية في الجريمة. على الجهات الحكومية أن تتحرك قبل أن يتحول كل مول جديد إلى مأتم، وكل سوق شعبي إلى مشهد حزن يتكرر.

لعل أبرز الحلول تكمن في تطبيق نظام رقمي موحد لإدارة تراخيص البناء والسلامة، يدمج بيانات الدفاع المدني، البلديات، وهيئات الاستثمار، لضمان الشفافية الكاملة وتتبع كل خطوة من التصميم حتى التشغيل، مع تفعيل آليات الرقابة الإلكترونية لمنع التدخلات البشرية الفاسدة. يجب كذلك الاستثمار في كوادر الدفاع المدني وتزويدهم بأحدث التقنيات والتدريب المستمر، وتمكينهم من صلاحيات حقيقية لفرض الإغلاق الفوري للمخالفين دون الحاجة لموافقات معقدة. كما بات لزاماً على الحكومة تأسيس صندوق وطني لتعويض ضحايا الكوارث يُموّل من غرامات المخالفين وجزء من أرباح المشاريع التجارية الكبرى، لضمان حقوق المتضررين وعدم تركهم لليأس والعوز. إنها مسؤولية جماعية تتطلب يقظة شعبية وضغطاً متواصلاً على صانعي القرار لكي لا تذهب هذه الأرواح هدراً، ولتصبح كل مأساة حافزاً لبناء عراق أكثر أماناً وعدالة.

ختاماً لقد آن الأوان لإشعال نيران المحاسبة في وجه من يحرقون الأمل، قبل أن ندفن مزيداً من الأبرياء تحت أنقاض التجاهل والتقصير.

اضف تعليق