العالم يتغير والتاريخ يتحرك. والمنافسة الاقتصادية بين الصين والولايات المتحدة هي من أبرز العوامل المؤثرة على حركة السياسة العالمية في القرن الحادي والعشرين، ولا تريد الولايات المتحدة لهذه المنافسة أن تؤدي إلى تراجعها إلى ما دون المركز الأول الذي تحتله وتتربع عليه منذ نهاية الحرب الباردة، أما الصين فلا تخفي سعيها للفوز والتقدم...
بقلم: رافد جبوري
كان الرئيس الأمريكي جو بايدن واضحا عندما زار السعودية الصيف الماضي فقد قال إن الولايات المتحدة لا تنوي الانسحاب من منطقة الشرق الأوسط وترك فراغ تحتله الصين أو روسيا أو إيران، وللصين طبعا منزلة خاصة بين تلك الدول المنافسة للولايات المتحدة، فهي الأقوى اقتصاديا بفارق كبير. والاقتصاد الصيني هو ثاني أكبر اقتصاد في العالم بعد الاقتصاد الأمريكي.
وتعد الصين الشريك التجاري الأكبر للسعودية. ولذا تنظر الولايات المتحدة باهتمام، بل وربما بقلق ، لزيارة الرئيس الصيني شي جينبينغ إلى السعودية وما يمكن أن ينتج عنها، وردد المسؤولون الأمريكيون وهم يتابعون الزيارة ويتلقون الأسئلة بشأنها أن واشنطن لا تجبر أصدقائها على الاختيار بينها وبين الصين أو أي دولة أخرى. لكنهم يقولون إن الولايات المتحدة تمثل الخيار الأكثر جاذبية في إطار تنافسها مع الصين.
وقال جون كيربي، المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأمريكي، لوسائل إعلام أمريكية إن واشنطن تدرك أن الصين تحاول مد نفوذها إلى الشرق الأوسط وتعزيزه. وفي عبارة متحفظة ولكن مثيرة للاهتمام، ينتقد الطريقة التي تفعل بها الصين ذلك، قال إنها لا تشير إلى مراعاة المحافظة على نظام دولي يستند إلى القواعد.
ورغم كل العبارات الدبلوماسية ومحاولة تجنب التعليق العلني، فإن الزيارة تمثل واحدة من المحطات الكبيرة التي يقاس بها موقف العلاقات الدولية بين القوى المؤثرة في العالم ودرجات نفوذها في منطقة الشرق الأوسط الحيوية.
والخطاب الذي تقدمه إدارة بايدن في علاقتها التنافسية مع الصين يقوم على أنه من الممكن إدارة التنافس بطريقة غير عدائية. لكن ذلك ليس سهلا بالتأكيد، وتضع زيارة الرئيس الصيني إلى السعودية ذلك الموقف الأمريكي في موقع الاختبار فعلا.
فالسعودية قدمت للزعيم الصيني نفس ما قدمته لبايدن من مظاهر الحفاوة ومن توسيع للزيارة وجعلها قمة إقليمية ضمت رؤساء دول المنطقة. لكن الحفاوة الشخصية والترحيب والتفاعل من قبل الأمير محمد بن سلمان ولي العهد السعودي مع الرئيس الصيني كانت أكبر طبعا من لقائه مع بايدن.
فقد كانت المصافحة الثابتة الطويلة بدلا من التحية المقتضبة باستخدام القبضة التي جرت بين بايدن وبن سلمان وتعددت التفسيرات بشأنها. فهناك من اعتبرها إشارة لعدم رغبة بايدن بمصافحة الأمير الذي اتهمته أجهزة الاستخبارات الأميركية بالمسؤولية عن مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي. وهناك من رأى أن التحية بالقبضة تمثل على العكس دليل حفاوة وفشل لبايدن في محاسبة الأمير السعودي. وقد كان خاشقجي يتمتع بحق الإقامة الدائمة في الولايات المتحدة ويكتب مقالات ناقدة للسياسة السعودية في صحيفة واشنطن بوست المؤثرة.
وبالنسبة لبايدن، فإن زيارته للسعودية لم تحقق الكثير. فسعيه لإقناع السعودية بعدم خفض إنتاج النفط جاء بنتائج عكسية، فقد اتفقت السعودية وروسيا في إطار أوبك بلس على خفض الإنتاج، وهو الأمر الذي هدد برفع أسعار النفط العالمية وبالتالي أسعار الوقود داخل الولايات المتحدة، وهو أمر محرج سياسيا لبايدن.
واضطر بايدن لإطلاق كميات كبيرة من الاحتياطي النفطي الاستراتيجي الأمريكي لطمأنة الأسواق والسيطرة على الأسعار لكنه عبر عن استياءه من القرار السعودي، الطريف أن بايدن في حينها كان يردد أن الزيارة ليست مخصصة للسعودية بل لكل منطقة الشرق الأوسط، وذلك في محاولة للتهرب من النقد الذي تلقاه بسبب تراجعه عن تعهده بمحاسبة السعودية على مقتل خاشقجي.
أما الصين ورئيسها فتقبل على السعودية والمنطقة من غير الحاجة للتركيز على قضايا حقوق الإنسان. فالصين أصلا دولة يحكمها حزب واحد، وهي متهمة بخرق حقوق الإنسان على أراضيها في أكثر من قضية، وتتمتع السعودية بمكانة قيادية في منظومة العلاقات الخليجية والشرق أوسطية.
والعلاقات بين واشنطن والرياض تمتد لعشرات السنين، وقد تجازوت الكثير من المراحل الصعبة واستعادت قوتها، وهو الأمر الذي يراهن عليه كثير من المتابعين للعلاقات بين البلدين من الأمريكيين والسعوديين.
ورغم الحديث الأمريكي المتشدد عن قضية خاشقجي، فقد وصلت حدود محاسبة بايدن إلى أقصاها، وهي إثارة الموضوع في الأحاديث المباشرة مع السعوديين وفي التركيز عموما على قضايا حقوق الإنسان في العلاقة بين البلدين. ولكن لا عقوبات مؤلمة ولا أزمة كبرى.
وقد قدمت إدارة بايدن مكسبا مهما للسعودية في الأسابيع الماضية، إذ منحت الحصانة السيادية للأمير محمد بن سلمان أمام المحاكم الأمريكية. وهو الأمر الذي أدى إلى إبطال دعوى رفعتها ضده خطيبة خاشقجي في محكمة أمريكية.
والملف الأهم والاعتبار الأكثر تأثيرا في العلاقات هو جانبها الأمني. فعندما رصدت السعودية "تهديدا أمنيا إيرانيا" عليها الشهر الماضي، اتصلت ونسقت مع الولايات المتحدة وليس مع الصين.
أما زيارة الرئيس الصيني إلى السعودية، فقد شهدت توقيع العديد من الاتفاقات والتفاهمات. ولكن الملف الذي لم يكن حاضرا بقوة في الإعلانات السعودية- الصينية هو الملف الأمني والعسكري.
صحيح أن للسعودية تعاونا أمنيا وعسكريا مع الصين ولكنه لا يقاس بدرجة علاقتها التاريخية في هذا المجال مع الولايات المتحدة.
لكن العالم يتغير والتاريخ يتحرك. والمنافسة الاقتصادية بين الصين والولايات المتحدة هي من أبرز العوامل المؤثرة على حركة السياسة العالمية في القرن الحادي والعشرين، ولا تريد الولايات المتحدة لهذه المنافسة أن تؤدي إلى تراجعها إلى ما دون المركز الأول الذي تحتله وتتربع عليه منذ نهاية الحرب الباردة، أما الصين فلا تخفي سعيها للفوز والتقدم.
وقد كان الشرق الأوسط مسرحا رئيسيا للتنافس في الحرب الباردة القرن الماضي وتمتعت الولايات المتحدة، وقبلها بريطانيا، بالنفوذ الأكبر والعلاقات الأكثر قوة مع دول الخليج العربية، وما زالت العلاقات الأمريكية مع السعودية ودول الخليج قوية جدا، لكن النفوذ الأمريكي يواجه منافسة شديدة وهناك مؤشرات وتغيرات يتابعها العالم.
فقد أعطت السعودية لزيارة الرئيس الصيني نفس منزلة زيارة بايدن، وربما أكثر من ذلك، وقبل ذلك وقفت دول الخليج أقرب إلى الحياد في الصراع بين روسيا والغرب في حرب أوكرانيا، وقد تزامنت زيارة شي جينبينغ مع اتفاق تبادل سجناء بين روسيا والولايات المتحدة. وقد لعبت الإمارات والسعودية دورا أساسيا في إبرامه، وقد أكدت الدولتان الخليجيتان أن الاتفاق تم ونجح لقوة علاقاتهما مع موسكو وواشنطن معا.
اضف تعليق