احتفالات كبيرة وفرحة عارمة وصلت حد الرقص في الشوارع، هكذا عبر الشعب الايراني عن ترحيبه بالاتفاق النووي لبلادهم مع القوى الغربية، ويبدو ان الترحيب الشديد للإيرانيين بالاتفاق الذي يصفونه بالتاريخي، جاء نتيجة الآمال والطموحات والحريات التي من المفترض ان يتمتع بها الشعب الايران في المستقبل القريب، إذ يرى الكثير منهم أن رفع العقوبات الذي سيلي الاتفاق سيسمح بازدهار الاقتصاد الإيراني وتحسن حياتهم اليومية، كما يعتبرونه فرصة سانحة للقضاء على الجماعات المتطرفة خاصة تنظيم داعش، والاهم ان هذا الاتفاق سيعني نهاية للعقوبات التي سببت مصاعب اقتصادية ولا سيما على مدى الأعوام الثلاثة المنصرمة عندما حرمت إيران من التعامل مع النظام المالي العالمي الأمر الذي جعل من الصعب عليها أن تبيع النفط أو تدفع مقابل الواردات، فالهدف من الاتفاق ضمان عدم امتلاك ايران لبرنامج يتيح لها تطوير السلاح النووي مقابل رفع العقوبات الدولية عنها، ويفتح الاتفاق الطريق امام تطبيع العلاقات الاقتصادية والدبلوماسية مع ايران في الوقت الذي يشهد فيه الشرق الاوسط عدة نزاعات.
على صعيد ذي أهمية للشأن الداخلي الايراني، يرى معظم المحللين إن التوصل إلى اتفاق نهائي لحل النزاع النووي مع إيران، يمكن أن يزيد من حدة التوتر السياسي الداخلي مع اقتراب استحقاقين انتخابيين في الجمهورية الإسلامية، فمن شأن تخفيف العقوبات الاقتصادية أن يعزز موقف الرئيس حسن روحاني داخل هيكل السلطة المعقد في إيران مما يعطي دفعة سياسية للمرشحين الليبراليين لانتخابات البرلمان في 2016 وانتخابات مجلس الخبراء وهو مجلس من رجال الدين له سلطة رمزية على الزعيم الأعلى.
في المقابل يرى خبراء في الشؤون الايرانية الداخلية أن الزعيم الأعلى الإيراني علي خامنئي الذي تولى الزعامة عام 1989 خلفا لمؤسس الجمهورية الإسلامية الراحل السيد الخميني عمل على ضمان ألا تستحوذ أي مجموعة على قدر من السلطة يتيح لها أن تتحداه بما في ذلك مجموعة المحافظين المتحالفة معه، ويرى هؤلاء الخبراء إن خامنئي لا يريد أن يحصل روحاني ذو النزعة العملية على قدر زائد على الحد من السلطة والنفوذ قبل الانتخابات المهمة المقبلة.
لكن يقول خبراء آخرون إن روحاني الذي مثل خامنئي لأكثر من 20 عاما في المجلس الأعلى للأمن القومي سيظل متمتعا بمباركته ما دامت مكانته المتنامية في الداخل والخارج لا تهدد سلطة خامنئي.
في حين يرى محللون آخرون مختصون بالشأن الايران أن الاتفاق سيثير توترا داخليا وسيزيد الضغط داخل البلاد، وستكون هناك أقليتان قويتان في البرلمان القادم هما الإصلاحيون والمحافظون وستكون هناك أقلية ضعيفة من المحافظين المتشددين... لن تكون لأي مجموعة الكلمة الأخيرة، فقد يؤدي العائد الاقتصادي للاتفاق النووي إلى ميل كفة ميزان القوة لمصلحة روحاني الذي يمكن أن ينال حلفاؤه المكافأة في صناديق الاقتراع على حساب الجماعات الأخرى بما فيها الصقور الأمنية القريبة من خامنئي.
ويؤكد بعض المراقبين ان الاتفاق النووي الذي توصلت إليه ايران مع القوى العالمية يمثل انتصارا للرئيس حسن روحاني الذي خرج من عباءة المؤسسة الدينية وعلق سمعته على التواصل العملي مع الغرب وواجه تحديات من فصائل محافظة، وهذا يعني معارك أخرى في الداخل مازالت بانتظاره.
وعليه الآن أن يقدم ما يبرر التوقعات الكبيرة لدى المواطن العادي في ايران الذي يترقب نهاية العقوبات توقعا لتحسن مستوى المعيشة وكذلك توقعات الإصلاحيين الذين لم يروا حتى الآن أي عائد مقابل الأصوات التي منحوها اياه في الانتخابات في الوقت الذي يحارب فيه المحافظون للابقاء على الوضع القائم.
وبينما كان فريق المفاوضين الايرانيين يجوب الأرض طولا وعرضا لإبرام الاتفاق النووي كان روحاني رجل الدين البالغ من العمر 66 عاما يعمل بلا كلل في الداخل من أجل الاحتفاظ بالتأييد للاتفاق واقناع جميع قطاعات المجتمع الايراني بأنه في صالحها.
لكن الكثير من المراقبين يعتقدون أن خامنئي ومتشددين آخرين قد يأخذون موقفا أكثر تشددا مع روحاني بعد الاتفاق خشية أن يتضخم نفوذ الرئيس إذا حقق فصيله نتائج طيبة في الانتخابات العام المقبل.
على الصعيد نفسه ترى المنظمات الانسانية والحقوقية بان الاتفاق النووي يمثل مرحلة جديدة في تاريخ الجمهورية الاسلامية مما يستدعي العمل على الاصلاح في داخل وخصوصا فيما يتعلق بقضايا حقوق الانسان وبعض القضايا الاجتماعية، فضلا عن تجاوز الخلافات السياسية الداخلية والانتهاكات الجارية على صعيد الافراد والمجتمعات داخل البلاد، واتاحة اجواء الحرية والمدنية لتعزيز النجاح الدبلوماسي في الخارج، وانعكاسه على الداخل بنحو افضل للمصالح العامة، وعليه في حال عدم استثمار الاتفاق النووي في الداخل ينذر الصراع بين المحافظين والمعتدلين بنشوب معارك سياسية حيوية خلال الفترة المقبلة، وقد تصنع هذه المعارك تحديات داخلية تمهد الطريق لمرحلة سياسية محورية لا تخلو من روح المغامرة، لكن على الرغم من كل ذلك باتت ايران اليوم بعد الاتفاق النووي وتحت حكم روحاني اقوى مما تبدو عليه امام العالم.
الإيرانيون يرقصون في الشوارع
في سياق متصل رقص شبان وشابات من إيران في بعض شوارع طهران وأطلقوا أبواق السيارات ورفعوا علامات النصر احتفالا بعد الإعلان عن إبرام اتفاق نووي تاريخي مع قوى عالمية يأملون أن ينهي سنوات من العقوبات الاقتصادية وعقودا من العزلة الدولية.
وتابع ملايين الإيرانيين المحادثات عن كثب لشهور بتوقعات بأن إبرام اتفاق سيتيح للاقتصاد الذي تضرر بسبب سنوات من العقوبات أن يستعيد استقراره وسيجعل حياتهم اليومية أكثر سهولة، وفي الشمال الغني بالعاصمة دوت موسيقى صاخبة من السيارات واستخدم شبان صغار أبواق فوفوزيلا المشهورة في جنوب أفريقيا في مشاهد لا تعرفها إيران إلا حين يتأهل منتخبها الوطني لنهائيات كأس العالم لكرة القدم.
وأغمض السكان والشرطة الأعين عن الاحتفالات بل إن البعض انضم إليها. وقالت امرأة في ميدان فاناك في شمال طهران لرويترز عبر الهاتف إن الناس يشترون حلوى ويهدونها لآخرين في الشوارع. بحسب رويترز.
والتحف بعض الشبان العلم الوطني ورفعوا صورا للرئيس حسن روحاني وشعارات النصر وهتفوا بالشكر للرئيس، ورفع آخرون لافتات كتب عليها "لا لليأس" وهو شعار ارتبط بمير حسين موسوي وهو أحد سياسيين وضعا قيد الإقامة الجبرية في 2011 بعد سحق الدولة لاحتجاجات أنصارهما، وبث التلفزيون الرسمي مؤتمرا صحفيا للإعلان عن الاتفاق الذي أبرم خلال محادثات مكثفة في فيينا على الهواء مباشرة، وكذلك بث كلمة ألقاها الرئيس الأمريكي باراك أوباما وهو أمر لم يكن من الممكن تصوره حتى الشهور الأخيرة. واجتمع الإيرانيون حول أجهزة التلفاز في المنازل والمتاجر لمتابعة كلمة أوباما.
وقالت باهار غورباني (36 عاما) وهي ربة منزل تعيش في اصفهان "هذه أول خطوة على طريق أن نصبح أصدقاء للعالم، وقالت عندما جرى الاتصال بها عبر فيسبوك "أعتقد أن الانجاز الأكبر للاتفاق النووي هو انتصار المنطق والحوار على التحريض على الحرب والعنف"، وقال روحاني في خطاب بثه التلفزيون "اليوم هو نهاية الظلم بحق شعبنا وبداية التعاون مع العالم.. إذا التزموا بذلك فسنلتزم. الشعب الإيراني دائما ما يفي بوعوده ومعاهداته"، وقال بهروز جانفده وهو مدير إدارة تكنولوجيا المعلومات بمعهد تعليمي لرويترز من طهران"الآن يمكن للناس أن يروا ثمار أصواتهم... وعد روحاني بحل الأزمة النووية في حملته الانتخابية. انتخبه الناس واستطاع أن ينقذ إيران من العقوبات وتهديد الحرب. هذا يجلب الأمل والاحساس بأنك لعبت دورا"، من جهته أيد الزعيم الأعلى الإيراني آية الله علي خامنئي المفاوضات لكنه لم يتحدث عن الاتفاق بنفسه.
روحاني يواجه معارك في الداخل
من جهته قال علي فائز المحلل المتخصص في شؤون ايران بمجموعة الأزمات الدولية "الآن وبعد أن تفوق الرئيس في المناورات على منافسيه على الجبهة النووية فمن المرجح أن يحاولوا سد الطريق أمامه على جبهات أخرى، وأضاف "المؤسسة السياسية قد تشعر بأنها مضطرة لتعويض المتشددين بمنحهم قدرا أكبر من الحرية في القضايا الاجتماعية والثقافية".
وسيمثل ذلك مشكلة للإصلاحيين في ايران الذين ساعدوا روحاني في تحقيق نصر كاسح في انتخابات عام 2013 بعد أن منع مجلس صيانة الدستور مرشحين إصلاحيين من خوض الانتخابات. بحسب رويترز.
وبدا أن روحاني أقرب المرشحين الذين يحظون بموافقة المجلس لتحقيق التحرر الاجتماعي والسياسي لكنه لم ينجز شيئا يذكر مما يبرر هذه الآمال. وكان روحاني أشار خلال حملته الانتخابية أن اثنين من الاصلاحيين البارزين الذين خاضوا الانتخابات السابقة قد يفرج عنهما خلال عام لكنهما مازالا قيد الإقامة الجبرية.
وروحاني في النهاية جزء لا يتجزأ من المؤسسة. فقد عاش في المنفى قبل الثورة مع آية الله روح الله الخميني أول زعيم أعلى كما أنه عمل فيما بعد أمينا للمجلس الأعلى للأمن الوطني لمدة 16 عاما. وشغل أيضا منصب كبير المفاوضين النوويين.
ومع ذلك فإن روحاني يحتاج للاحتفاظ بالناخبين الاصلاحيين وعينه على الانتخابات البرلمانية العام المقبل وعلى مجلس الخبراء الذي يتولى تعيين الزعيم الأعلى والإشراف عليه وكذلك انتخابات الرئاسة لعام 2017.
وبوسعه أن يشير إلى جهوده لكبح جماح مؤسسة القضاء التي يمكن لبعض عناصرها التصرف على هواها. وفي الشهر الماضي دعا روحاني إلى قدر أكبر من الشفافية في تطبيق القانون ووضع تعريفات واضحة للجرائم السياسية.
كما انتقد روحاني القضاء لإلغائه حفلات موسيقية حصلت على تراخيص من الحكومة وقال في ابريل نيسان في لقاء مع قادة الشرطة إن واجبهم تطبيق القانون فقط لا الإسلام، وقال كيفان هاريس الاستاذ المساعد لعلم الاجتماع بجامعة كاليفورنيا لوس أنجليس الذي تتركز أبحاثه على ايران "القضايا الاجتماعية الداخلية تمثل أولوية لروحاني بكل تأكيد"، وأضاف "أحد الأمور التي يمكن أن نتوقع حدوثها انفتاح نسبي في النقاش قبل الانتخابات ... والسؤال هو كيف ستستفيد كل الأطراف من ذلك؟".
خامنئي والليونة المؤقتة
الى ذلك غلب المرشد الاعلى للثورة الاسلامية في ايران آية الله علي خامنئي الذي كان حذره من الولايات المتحدة في بعض الاحيان سببا لابطاء المفاوضات النووية، مصلحة بلاده على كراهيته لاميركا.
واثار خامنئي لفترة طويلة الشكوك برغبته في التوصل الى اتفاق يجري التفاوض حول شق كبير منه مع واشنطن العدو التاريخي للجمهورية الاسلامية التي اسسها في 1979 سلفه الامام روح الله الخميني. بحسب فرانس برس.
وقد اكد بينما كان المفاوضون في فيينا يبذلون جهودا شاقة للتوصل الى اتفاق ابرم في نهاية المطاف ان "الولايات المتحدة هي النموذج الامثل للغطرسة واعدوا انفسكم لمزيد من الكفاح ضد الغطرسة"، ولم يكف الجناح المتشدد في النظام الايراني الذي يردد شعار "الموت لاميركا" في كل تظاهرة، عن ادانة التنازلات الكبيرة جدا كما يرى، التي قدمت للغربيين، لكن بالنسبة للايرانيين، سيسمح اتفاق فيينا بانهاء عقد من ازمة دبلوماسية وعقوبات دولية اثرت بقسوة على الاقتصاد، وقال المحلل السياسي القريب من السلطة امير محبيان ان "المهم ليس حذر المرشد حيال الولايات المتحدة او دول اخرى بل ارادته في تسوية المشكلة". واضاف ان "المرشد برهن انه يقود البلاد بعقلانية وبراغماتية"، مشددا على شرعية الرجل الاول في ايران الذي يشغل هذا المنصب منذ 26 عاما.
من جهته، قال رئيس مجلس الشورى الايراني علي لاريجاني انه بتأكيده خلال المفاوضات وجود "خطوط حمر"، قام خامنئي "بالاشراف على المفاوضات بشكل وثيق ليس لانه يعارضها بل بسبب ازدواجية الولايات المتحدة".
ويذكر قرار آية الله خامنئي قبول اتفاق حول النووي بقرار الامام الخميني الذي وافق بتحفظ على انهاء حرب استمرت ثماني سنوات ضد العراق في تموز/يوليو 1988، وقد رأى حينذاك ان القرار 598 للامم المتحدة الذي ينص على وقف اطلاق النار "اسوأ من السم" لكن الاقتصاد الايراني ازدهر في السنوات التي تلت وتأمل ايران في ان يتكرر هذا الامر.
وقال داود هرميداس باوند المحلل السياسي في جامعة طهران ان هذا الاتفاق لا يمثل خضوعا للقوى الكبرى بل بالعكس يعزز سلطة المرشد الاعلى، واضاف ان صعوبة القبول باتفاق مع الولايات المتحدة التي توصف "بالشيطان الاكبر" لا يهم، اذ ان لب البرنامج النووي تمت حمايته بينما كان اي فشل سيؤدي الى عواقب خطيرة لايران، وتابع ان "العقوبات الاقتصادية كان لها تأثير على السكان اكبر مما هي على النظام. الايرانيون يشعرون انهم شاركوا في المفاوضات والسلطة اعترفت بذلك".
واعتبر باوند ان الاتفاق "يوازي ربما انتصارا صغيرا على اسرائيل والسعودية وتركيا"، معتبرا ان الاتفاق سيعتبر خلال سنوات "اداة لخفض التوترات" الاقليمية، وكشف اطلاق المفاوضات مجددا حول الملف النووي الايراني مع مجموعة الدول الست (الصين وروسيا والولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا والمانيا) في ايلول/سبتمبر 2013 بعد توقفها سنوات، رغبة طهران في انهاء وضعها كدولة مارقة، ويدعو الرئيس المعتدل حسن روحاني منذ انتخابه في حزيران/يونيو 2013 الى "تبادل بناء مع العالم" يتعارض مع سياسة سلفه محمود احمدي نجاد الذي اتسمت ولايتاه الرئاسيتان بمواجهة مع الغرب.
لكن في نهاية المطاف، المرشد الاعلى للثورة هو الذي جعل هذا الاتفاق ممكنا بقبوله منذ 2012 اجراء محادثات سرية مع مبعوثين اميركيين على الرغم من تحفظه حيال الولايات المتحدة التي لا تقيم ايران معها علاقات دبلوماسية منذ 1980، وقال سيافوش رانجبار دائمي الخبير في شؤون ايران في جامعة مانشستر في انكلترا ان تجربة الحرب ضد العراق كان لها تأثير كبير ايضا.
وفي الواقع الشخصيات هي نفسها التي كانت في 1988 -- كان آية الله خامنئي رئيسا وروحاني مكلفا الدفاع الجوي وظريف يفاوض حول قرار الامم المتحدة -- والحاجة الى وقف الانزلاق هي نفسها، واكد ارنجبار دائمي ان "هذا الاتفاق ليس قرارا اتخذ بفرح بل لانه الاكثر فاعلية وان تطلب مفاوضات مباشرة مع اميركا"، واضاف ان "ايران قدمت تنازلات لكنها حصلت على امور مقابل ذلك مثل الاعتراف ببرنامجها النووي وانهاء العقوبات الاقتصادية ودور دولي وموقع اقل عزلة بكثير".
اضف تعليق