يوم 18 تموز اليوم الدولي لنيلسون مانديلا اعترافاً بإسهام رئيس جنوب أفريقيا الأسبق في ثقافة السلام والحرية. لما يتحلى به من قيم ولتفانيه في خدمة البشرية، اهتماماً منه بالقضايا الإنسانية، في ميادين حل النزاعات والعلاقات العرقية وتعزيز حقوق الإنسان والمصالحة والمساواة وحقوق الأطفال وسائر الفئات المستضعفة...
من السهل أن تُكسر وتُدمر، ولكن الأبطال هم أولئك الذين يبنون ويصنعون السلام
نيلسون مانديلا
في تشرين الثاني/نوفمبر 2009، أعلنت الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم 18 تموز/يوليه “اليوم الدولي لنيلسون مانديلا” اعترافاً بإسهام رئيس جنوب أفريقيا الأسبق في ثقافة السلام والحرية. وأعربت الجمعية العامة في قرارها A/RES/64/13 ن تقديرها لما يتحلى به نيلسون مانديلا من قيم ولتفانيه في خدمة البشرية، اهتماماً منه بالقضايا الإنسانية، في ميادين حل النزاعات والعلاقات العرقية وتعزيز حقوق الإنسان وحمايتها والمصالحة والمساواة بين الجنسين وحقوق الأطفال وسائر الفئات المستضعفة وتحسين أحوال الفقراء والمجتمعات المتخلفة النمو. واعترفت بإسهامه في الكفاح من أجل الديمقراطية على الصعيد الدولي وفي الترويج لثقافة السلام في شتى أرجاء العالم.
وفي كانون الأول / ديسمبر 2015، قررت الجمعية العامة توسيع نطاق اليوم العالمي لنيلسون مانديلا ليتم استخدامه أيضا من أجل تعزيز الظروف الإنسانية للسجن، وزيادة الوعي بشأن السجناء باعتبارهم جزءاً متواصلاً من المجتمع، وتقدير عمل موظفي السجون على أنه خدمة اجتماعية ذات أهمية خاصة.
ولم يعتمد قرار الجمعية العمومية A/RES/70/175 الحد الأدني لقواعد الأمم المتحدة النموذجية المنقحة لمعاملة السجناء فحسب، بل وافق أيضاً علي أن تُعرف بإسم "قواعد نيلسون مانديلا" من أجل إحترام إرث رئيس جنوب أفريقيا الراحل الذي قضي 27 عاماً في السجن بسبب كفاحه المشار إليه أعلاه.
الانقسام يهدد عرى التماسك الاجتماعي
يحيي العالم اليوم الدولي لنيلسون مانديلا في 18 تموز/يوليو من كل عام، وهو عيد ميلاد السيد مانيلا أو ’ماديبا‘ كما كان يلقب من قبل محيطه. وفي رسالة بهذه المناسبة، أشاد الأمين العام للأمم المتحدة "بهذا الرجل الاستثنائي الذي جسّد أسمى تطلعات الأمم المتحدة والأسرة البشرية."
وقال الأمين العام، أنطونيو غوتيريش، إن دعوات ماديبا للتضامن وإنهاء العنصرية لها أهمية خاصة اليوم، "إذ يهدد الانقسام عرى التماسك الاجتماعي في جميع أنحاء العالم."
وأضاف أن المجتمعات أصبحت أكثر استقطابا مع تزايد خطاب الكراهية وطمس المعلومات المضللة للحقيقة، وتشكيكها في العلم وتقويضها للمؤسسات الديمقراطية.
وأدت جائحة كـوفيد-19 المستمرة إلى زيادة حدة هذه العلل وتراجع التقدم بسنوات في الكفاح العالمي ضد الفقر.
أشار السيد غوتيريش إلى أن المهمشين والمعرضين للتمييز - وكما هو الحال دائما في أوقات الأزمات - هم الذين يعانون أكثر من غيرهم، وغالبا ما يلامون على المشاكل التي لم يتسببوا فيها.
وتابع قائلا: "إن اليوم الدولي لنيلسون مانديلا يمثل فرصة للتأمل في حياة وإرث مدافع عالمي أسطوري عن الكرامة والمساواة والعدالة وحقوق الإنسان."
وبحسب المسؤول الأممي، أظهرت الجائحة الأهمية الحيوية للتضامن الإنساني والوحدة الإنسانية، "وهما قيمتان ناصرهما وجسدهما نيلسون مانديلا في كفاحه مدى الحياة من أجل العدالة."
وشدد على ألا أحد في مأمن إلى أن يصبح الجميع آمنين. "وكل واحد منا له دور يؤديه. فدعونا نستلهم رسالة ماديبا بأن كل واحد منا يمكن أن يحدث فرقا في تعزيز السلام وحقوق الإنسان والانسجام مع الطبيعة والكرامة للجميع. ودعونا نحيي جميعا دعوة ماديبا إلى العمل ونستمد القوة من إرثه."
إرث نيلسون مانديلا
ولد نيلسون مانديلا في 18 تموز/يوليو 1918 في مفيزو بجنوب أفريقيا. وانضم إلى حزب المؤتمر الأفريقي في 1944، وأسس مع آخرين عصبة الشبيبة التابعة لحزب المؤتمر. وفي عام 1952 دشّن حملة "تحد" التي كانت حملة عصيان مدني كبيرة اعتراضا على القوانين الظالمة. في عام 1964 حُكم عليه بالسجن مدى الحياة، وخرج من السجن في عام 1990 بعد أن أمضى فيه 27 عاما.
كرّس نيلسون مانديلا 67 عاما من حياته في خدمة الإنسانية – كمحامٍ لحقوق الإنسان وسجين ضمير وصانع سلام دولي وأول رئيس منتخب ديمقراطيا لدولة جنوب أفريقيا.
واعتمدت الجمعية العامة قواعد الأمم المتحدة النموذجية الدنيا لمعاملة السجناء ووافقت على أن تُعرف باسم "قواعد نيلسون مانديلا" من أجل احترام إرث رئيس جنوب أفريقيا الراحل.
مقتطفات من خطبه في الفترة من 1961 إلى 2008
في الحرية
لا يجوز أن يُتوقع ممن لا صوت لهم أن يواصلوا دفع الضرائب إلى حكومة ليست مسؤولة أمامهم. ولا يجوز أن يتوقع من الناس الذين يعيشون في فقر وجوع أن يدفعوا إيجارات باهظة للحكومة والسلطات المحلية. فنحن نوفر سواعد الزراعة والصناعة. ونكد في مناجم الذهب والماس والفحم، والمزارع والمصانع، مقابل أجور زهيدة. فلماذا سنواصل إغناء من ينهب ثمار عرقنا ودمائنا؟ أولئك الذين يستغلوننا ويحرمونا من حق التنظيم في نقابات عمالية؟...
لقد بلغني أنه قد تم إصدار أمر باعتقالي، وأن الشرطة تبحث عني.... إن أي سياسي جدي يدرك أنه في ظل الظروف الحالية في هذا البلد، لن يكون السعي إلى الاستشهاد الرخيص بتسليم نفسي للشرطة إلا عملاً ساذجاً وإجرامياً. إن لدينا برنامجاً مُهما ينتظرنا، ومن المهم إنجازه جدياً ودون أي تأخير.
وقد اخترت هذا المسار الأخير، وهو مسار أصعب محفوف بمخاطر ومشاق يهون السجن أمامها. إذ يتعين علي أن أفارق زوجتي العزيزة وأطفالي الأعزاء، وأمي وأخواتي، لأعيش مارقاً في بلدي. وبات لزاماً علي أن أوقف عملي، وأتخلى عن مهنتي، وأعيش في فقر وبؤس، على غرار الكثير من بني جلدتي.... إني سأكافح ضد الحكومة بجانبكم، شبراً شبراً، وذراعاً ذراعاً، حتى النصر. فما تراكم فاعلون؟ هل ستنضمون إلينا، أم أنكم ستتعاونون مع الحكومة في سعيها إلى قمع مطالب وتطلعات أهاليكم؟ أم أنكم ستلتزمون الصمت والحياد في مسألة هي بالنسبة لأهلي وأهلكم مسألة حياة أو موت؟ أما أنا فقد قر عزمي. ولن أغادر جنوب أفريقيا، ولن أستسلم. فما نيل الحرية إلا بتحمل المشاق والتضحية والعمل النضالي. والنضال هو حياتي. وسأواصل الكفاح من أجل الحرية حتى الرمق الأخير.
المساواة
تعني المساواة أمام القانون في معناها الصحيح الحق في المشاركة في سن القوانين التي تحكم المرء، ودستوراً يضمن الحقوق الديمقراطية لجميع فئات السكان، والحق في اللجوء إلى المحكمة التماساً للحماية أو الانتصاف في حالة انتهاك الحقوق المكفولة في الدستور، والحق في المشاركة في إقامة العدل بصفة قاض أو محام أو مدعٍ عام أو مستشار قانوني أو غيره من المناصب.
وفي غياب هذه الضمانات فإن عبارة "المساواة أمام القانون"، بالصيغة التي يراد تطبيقها علينا، عبارة لا معنى لها بل إنها مضللة. فجميع الحقوق والامتيازات التي أشرت إليها هي حكر على البيض، ولا نتمتع بأي منها …
... ولا أعتبر نفسي ملزماً أخلاقياً ولا قانوناً بطاعة قوانين سنها برلمان لا يمثلني.
فكون إرادة الشعب أساساً لسلطة الحكومة مبدأ معترف به عالمياً باعتباره مبدأ مقدسا في جميع أنحاء العالم المتحضر، ويشكل الركيزة الأساسية للحرية والعدالة. ومن المفهوم لماذا ينبغي أن يكون المواطنون، الذين لهم الحق في التصويت، وكذا الحق في التمثيل المباشر في الهيئات التي تحكم البلد، ملزمين أخلاقياً وقانوناً بالقوانين التي تحكم البلد. …
وينبغي أن يكون مفهوماً كذلك لماذا ينبغي أن نتخذ، نحن الأفارقة، موقفاً يجعلنا غير ملزمين أخلاقياً ولا قانوناً بطاعة القوانين التي لم نسنها، ولا ينبغي أن يتوقع منا أن تكون لنا ثقة في المحاكم التي تطبق هذه القوانين.
إنني أكره ممارسة التمييز العنصري، وتؤيدني في كراهيتي تلك الغالبية الساحقة من البشرية التي تمقته أيضاً. إنني أكره التنشئة المنهجية للأطفال على التحيز ضد الملونين وتؤيدني في كراهيتي تلك الغالبية الساحقة من البشرية هنا وفي الخارج. وأكره الغطرسة العنصرية التي تفرض حق استئثار أقلية السكان بالأشياء الجيدة في الحياة، وتحشر أغلبية السكان في وضع من التبعية والدونية، وتجعل منهم عبيداً لا صوت لهم يعملون حيث يؤمرون ويتصرفون حسبما تأمر به الأقلية الحاكمة. وتؤيدني في تلك الكراهية الغالبية العظمى من البشر في هذا البلد وفي الخارج. وليس بوسع هذه المحكمة أن تفعل شيئاً لتغير بأي حال من الأحوال الكراهية التي أحس بها، والتي لا يمكن إزالتها إلا برفع الظلم واللاإنسانية التي سعيت إلى إزالتهما من الحياة السياسية والاجتماعية في هذا البلد...
الأفارقة يشتكون... لا لأنهم فقراء والبيض أغنياء فحسب، بل لأن القوانين التي يسنها البيض ترمي إلى إدامة هذا الوضع. فللانعتاق من ربقة الفقر، ثمة طريقتان: الأولى عن طريق التعليم الرسمي، والثانية بحصول العامل على قدر أكبر من المهارات في عمله وبالتالي حصوله على أجر أعلى. أما فيما يتعلق بالأفارقة، فإن التشريعات تعرقل سبيلي التقدم هذين عمداً....
وقبل كل شيء، نريد المساواة في الحقوق السياسية، لأنه بدونها ستكون إعاقتنا دائمة. وأعلم أن هذا يبدو ثورياً للبيض في هذه البلد، لأن أغلبية الناخبين ستكون من الأفارقة. وهذا ما يجعل الرجل الأبيض يخشى الديمقراطية.
ولكن هذه الخشية لا يمكن السماح لها بأن تقف في وجه الحل الوحيد الذي يضمن الانسجام العرقي والحرية للجميع. وليس صحيحاً أن منح حق التصويت للجميع سيؤدي إلى الهيمنة العرقية. فالتقسيم السياسي، على أساس اللون مفتعل تماماً، وعندما يختفي تختفي معه هيمنة فئة من لون معين على فئة أخرى. ولقد أمضى المؤتمر الوطني الأفريقي نصف قرن في مكافحة العنصرية. وعندما ينتصر لن يغير تلك السياسة.
هذا إذن ما يكافح المؤتمر الوطني الأفريقي من أجله. وكفاحه كفاح وطني حقيقي. بل هو كفاح الشعوب الأفريقية، المستوحى من معاناتها وتجاربها الخاصة. إنه كفاح من أجل الحق في العيش.
وطيلة حياتي، كرست نفسي لنضال للشعوب الأفريقية. وكافحت ضد هيمنة البيض، وكافحت ضد هيمنة السود. وما فتئت أتوق إلى المثل الأعلى المتجسد في مجتمع ديمقراطي وحر يعيش فيه جميع الأشخاص معاً في وئام وعلى أساس تكافؤ الفرص. وهو مثل آمل أن أعيش من أجله وأتمنى أن يتحقق. ولكن إذا لزم الأمر، فهو مثل أعلى أنا على استعداد للموت في سبيله.
لقد بلغ نضالنا لحظة حاسمة. وإننا ندعو شعبنا لاغتنام هذه اللحظة حتى تتسارع عملية الانتقال نحو الديمقراطية دون انقطاع. لقد انتظرنا طويلاً من أجل حريتنا. ولم يعد بوسعنا التريث. ولقد حان الوقت لتكثيف النضال على جميع الجبهات. فإن توانت جهودنا الآن فسيكون ذلك خطأ لن تغتفره الأجيال القادمة. إن مشهد الحرية الذي يلوح في الأفق ينبغي أن يشجعنا على مضاعفة جهودنا.
ولا يمكن ضمان النصر إلا بالعمل الجماهيري المنضبط. ونهيب بمواطنينا البيض أن ينضموا إلينا لتشكيل دولة جديدة في جنوب أفريقيا. فحركة الحرية هو بيت سياسي لكم أنتم أيضاً. وندعو المجتمع الدولي إلى مواصلة حملة عزل نظام الفصل العنصري. فرفع الجزاءات الآن من شأنه أن يجهض عملية القضاء التام على الفصل العنصري.
إن مسيرتنا نحو الحرية لا رجعة فيها. وعلينا ألا نسمح للخوف بأن يثنينا عنها. فالسبيل الوحيد إلى السلام والوئام بين الأعراق هو الاقتراع العام على دور مشترك للناخبين في دولة موحدة ديمقراطية وغير عنصرية في جنوب أفريقيا.
بمناسبة الخروج من السجن كيب تاون، جنوب أفريقيا، 11 شباط/فبراير 1990
في التمييز العنصري
ان مجرد حصول جريمة الفصل العنصري سيظل آفة لا تمحى في تاريخ البشرية. وستتساءل الأجيال القادمة قطعاً: ماذا الذي حصل حتى نشأ هذا النظام في أعقاب اعتماد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان؟ وسيظل إلى الأبد اتهاماً وتحدياً لجميع الرجال والنساء من ذوي الضمائر أن طال أمد هذا النظام قبل أن نهُب جميعاً ونصيح ''كفى''...
ونحن مقتنعون بأن حرمان أحدنا من حقوقه، ينال من حرية الآخرين. لكن المسافة التي لا يزال من المتعين علينا أن نقطعها ليست طويلة. فلنقطعها معاً. دعونا، من خلال أعمالنا المشتركة، نحقق المقاصد التي أنشئت من أجلها هذه المنظمة، وننشئ وضعاً يصبح فيه ميثاقها والإعلان العالمي لحقوق الإنسان جزءًا من مجموعة من القوانين التي ستدرج في النظام السياسي والاجتماعي لدولة جنوب أفريقيا الجديدة. إن نصرنا المشترك أكيد.
خطاب أمام لجنة مناهضة الفصل العنصري، 22 حزيران/يونيه 1990
لا بد أن يكون حتماً من المفارقات الكبرى في عصرنا مخاطبة هذه الجمعية العامة، للمرة الأولى في تاريخها الذي امتد تسعاً وأربعين سنة بلسان رئيس دولة ينتمي لجنوب أفريقيا ويختار من الغالبية الأفريقية في بلد أفريقي بطبيعته.
وسترى الأجيال المقبلة أنه من الغريب جداً ألا يتمكن وفدنا، إلا في وقت متأخر جداً من القرن العشرين، من شغل مقعده في الجمعية العامة، معترفاً به على السواء من شعبنا ودول العالم بوصفه ممثلاً شرعياً لشعب بلدنا.
إن مما يبعث على السرور البالغ أن المنظمة ستحتفل في العام المقبل بالذكرى الخمسين لإنشائها وقد اختفى نظام الفصل العنصري وأصبح من مخلفات الماضي. لقد تحقق هذا التغير التاريخي، على الأقل بفضل الجهود الكبيرة التي قامت بها الأمم المتحدة لكفالة قمع جريمة الفصل العنصري بحق البشرية....
ويتعين علينا أن نكفل في كل ما نفعله شفاء الجراح التي ابتلي بها شعبنا كله عبر الخط الفاصل الكبير الذي فرضته على مجتمعنا قرون من الاستعمار والفصل العنصري. ويجب علينا أن نكفل أن يصبح اللون والعرق والجنس مجرد هبة منحها الله لكل فرد وليس علامة لا تمحى أو خاصية تمنح مركزاً خاصا لأي منا.
ويجب علينا أن نعمل من أجل ذلك اليوم الذي نرى فيه نحن أبناء جنوب أفريقيا بعضنا بعضاً، ونتفاعل بعضنا مع بعض، بوصفنا بشراً متساوين وجزءًا من أمة واحدة موحدة، وليس كإرب ممزقة بفعل اختلافها.
إن الطريق الذي يتعين علينا أن نقطعه للوصول إلى هذه الوجهة لن يكون هيّناً بأي حال من الأحوال. وكلنا يعلم كيف تستطيع العنصرية أن تعلق بالأذهان بعناد وبأي قدر من العمق يمكن لها أن تصيب الروح البشرية. ويمكن لهذا العناد، حينما يؤازره الترتيب العنصري للعالم المادي، كما هو الحال في بلادنا، أن يضاعف مئات المرات.
بيد أنه مهما تكن مشقة هذه المعركة، فإننا لن نستسلم. ومهما استغرقت من وقت، فإننا لن نكل. إن مجرد كون العنصرية تفسد المذنب والضحية على السواء يقتضي منا، إذا ما كنا صادقين في التزامنا بصون الكرامة البشرية، أن نكافح حتى يتحقق النصر.
في المصالحة
نحن في جنوب أفريقيا مقتنعون بأن من الممكن والعملي بلوغ هدفنا المتمثل في تهيئة حياة أفضل للجميع في أقصر وقت ممكن. ونستمد ثقتنا من أننا نعلم أن هذه رؤية مشتركة لدى الأغلبية الساحقة من مواطني جنوب أفريقيا على اختلاف ألوانهم وانتماءاتهم السياسية.
ونحن نقدر دور المجتمع الدولي حق قدره في تحقيق هذا الأمر ـ لا بالدعم المادي فقط. واذا كان بوسعنا اليوم أن نتحدث بكل فخر عن أمة قوس قزح، الموحدة في تنوع ثقافتها وأديانها وأجناسها ولغاتها وأعراقها، فإنما تأتى ذلك لأن العالم وضع لنا مثالاً أخلاقياً تجرأنا على اقتفاء أثره
ولابد لهذا الإنجاز أن يستمر لأنه يقوم على إدراك أن المصالحة وبناء الدولة يعنيان، في جملة أمور أخرى، أن نسعى إلى معرفة حقيقة الماضي الرهيب، وأن نضمن عدم تكراره. ولهذا يجب ألا تكون مصالحتنا مجرد فترة استراحة قبل أن تستحكم من جديد مرارة الماضي.
وندرك أيضاً أن المصالحة وبناء الدولة ستظل كلمات جوفاء إذا لم تكن مبنية على جهد منسق لاجتثات الجذور الحقيقية لماضي الصراع والظلم. فأمننا الوطني وبقاء ديمقراطيتنا الفتية يتوقفان، قبل كل شيء آخر، على برنامج تلبية الاحتياجات الأساسية للشعب. وستضمن إعادة الإعمار والتنمية لجميع مواطني جنوب أفريقيا نصيباً في الحياة، ومصلحة مشتركة في رفاهية البلد ككل.
لقد ساورت الشكوك الكثير من الناس بشأن قدرتنا على تحقيق المثل الأعلى المتجسد في أمة متعددة الأعراق. وصحيح أن جنوب أفريقيا في كثير من الحالات كانت على حافة الدمار بسبب الخلافات. ولكن دعونا نؤكد من جديد هذا الأمر هنا في هذا اليوم: إن ما يفرقنا ليس هو تنوعنا ولا هي أعراقنا أو أدياننا أو ثقافاتنا. وبما أننا نلنا حريتنا، فلا يمكن أن يكون بيننا إلا فيصل واحد: يفصل بين أولئك الذين يتعلقون بالديمقراطية وأولئك الذين لا يتعلقون بها!
وبما أننا محبون للحرية، فإننا نريد أن نرى بلدنا ينعم بالازدهار ويوفر الخدمات الأساسية للجميع. لأن حريتنا لن تكون كاملة ولا ديمقراطيتنا مستقرة ما لم تُلبى الاحتياجات الأساسية لشعبنا. ولقد رأينا الاستقرار الذي تجلبه التنمية. وبالتالي نحن نعلم أن السلام هو أقوى سلاح يمكن أن يتسلح به أي مجتمع أو دولة لتحقيق التنمية.
وإذ نعيد بناء بلدنا، ينبغي أن نَحْذَر أعداء التنمية والديمقراطية، حتى وإن خرجوا من صفوفنا. ولن يقربنا العنف من تحقيق أهدافنا.
وينبغي أن نسأل أنفسنا جميعاً السؤال التالي: هل فعلتُ كل ما في وسعي لإحلال السلام الدائم والازدهار في مدينتي وبلدي؟
في حقوق الإنسان
وإنه لمن المناسب تماماً، أن تذكر هذه الدورة الثالثة والخمسون [للجمعية العامة] عبر العصور بوصفها اللحظة التي خلدنا واحتفلنا فيها بالذكرى السنوية الخمسين لاعتماد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
إن هذا الإعلان الذي ولد في أعقاب هزيمة الجريمة النازية والفاشية ضد الإنسانية، تعلق به الأمل في أن تبنى جميع مجتمعاتنا، في المستقبل، على أسس الرؤية الرائعة التي تجلت في كل بند من بنوده.
وبالنسبة للذين اضطروا للكفاح من أجل تحررهم، أولئك الذين كان عليهم ـ مثلنا ـ أن يقوموا، بفضل مساعدتكم، بتحرير أنفسهم من نظام الفصل العنصري الإجرامي، جاء الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ليقرر عدالة قضيتنا. وفي الوقت نفسه، فإنه يشكل تحدياً لنا بأن حريتنا، متى تحققت، ينبغي أن تكرس لتنفيذ الرؤى التي احتواها الإعلان.
واليوم، نحتفل بكون هذه الوثيقة التاريخية سلمت من خمسة عقود مضطربة، شهدت بعض أكثر التطورات خروجاً عن المألوف في تطور المجتمع البشري. منها انهيار النظام الاستعماري، وانقضاء عالم ثنائي القطبية، وانطلاقة مذهلة في العلوم والتكنولوجيا وترسيخ عملية العولمة المعقدة.
إلا أنه في نهاية هذا كله، لا يزال البشر الذين هم موضوع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان تحيق بهم الحروب والنزاعات العنيفة. إنهم مع هذا لم يتحرروا من الخوف من الموت الذي قد يلحقه بهم استخدام أسلحة الدمار الشامل وكذلك الأسلحة التقليدية...
هذه على الأرجح المرة الأخيرة التي يحصل لي فيها شرف الوقوف على هذه المنصة للتحدث إلى الجمعية العامة.
لقد ولدت بينما كانت الحرب العالمية الأولى تضع أوزارها، وأغادر ساحة الحياة العامة بينما يسجل العالم مضي نصف قرن على صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، فبلغت من المسيرة الطويلة المرحلة التي تعطى لي فيها الفرصة، كما ينبغي أن تعطى لجميع الرجال والنساء، لأتقاعد، كي أخلد إلى بعض الراحة والهدوء في القرية التي هي مسقط رأسي.
وبينما سأجلس في كونو، قريتي، ويتقدم بي العمر ليضاهي عمر تلالها، سيظل يحدوني الأمل في ظهور جيل من الزعماء في بلدي ومنطقتي، في قارتي وفي العالم، لن يسمحوا بأن ينكر على أحد حريته كما أنكرت علينا؛ ولا بأن يحول أحد إلى لاجئ كما حولنا؛ ولا أن يحكم على أحد بأن يجوع كما حكم علينا؛ ولا أن يجرد أحد من كرامته الإنسانية كما جردنا.
وسأظل آمل أن تضرب نهضة أفريقيا جذورها في عمق الأرض، وتزهر إلى الأبد، بصرف النظر عن تغير المواسم.
فإذا ما تحولت كل هذه الآمال إلى حلم قابل للتحقيق، وليس إلى كابوس يقض مضاجع الشيوخ، عندئذ سأشعر حقا بالسلم والطمأنينة. وآنئذ سيعلن التاريخ وبلايين الناس في العالم كله أننا كنا محقين في حلمنا، وأنا جهدنا كي تدب الحياة في حلم قابل للتحقيق.
في مكافحة الفقر
لقد أبانت جنوب أفريقيا عن قدرة هائلة على التآزر في مواجهة الشدة. فلقد سقط نظام الفصل العنصري في نهاية المطاف بفضل وحدة أولئك الذين حرموا من حقوقهم، ولأن جميع شرائح المجتمع أدركت بأنها ستكسب الشيء الكثير من العمل يداً في يد بدل التناحر. وتلك الخصلة بالذات هي التي ساعدتنا على التعجيل بإرساء أسس حياة أفضل.
وعندما انتهى الفصل العنصري واجهنا مهمة شاقة تمثلت في إعادة بناء مجتمعنا المحطم وتوفير أبسط الخدمات لشعبنا. وكان علينا أن نبني المدارس والمستشفيات، وتوفير السكن وفرص العمل، وتعزيز اقتصادنا، وحماية حقوق أهالينا عن طريق دستورنا ومحاكمنا، ومساعدة جنوب أفريقيا على معالجة انقسامات ماضيها وبدء عملية التعافي، والتصدي للعنف والحيف اللذين حاقا بمجتمعاتنا.
وكانت مهمتنا أساساً هي تهيئة الظروف التي من شأنها أن تتيح لكل مواطن في جنوب أفريقيا فرصة بناء حياة أفضل لنفسه. لكن الحكومة لا يمكنها أن تواجه هذه التحديات بمفردها. إذ أنها تتطلب منا جميعاً أن نتعاون سوياً، في شراكة، من أجل إحداث التغييرات الضرورية.
ولتحقيق هذه الأهداف، يلزمنا تحويل الحكومة من نظام يخدم مصالح الأقلية إلى نظام يلبي احتياجات جميع مواطني جنوب أفريقيا. وتعين القيام بكل هذه الأمور في بلد لم تتح لمعظم الناس فيه فرصة تجربة الحكم أو الحصول على تعليم وتدريب ملائمين. ولهذا السبب ركزنا كثيراً على بناء القدرات في الحكومة...
وعندما نقول إنه لا يمكن العثور على أفضل الحلول لهذه التحديات إلا عندما نعمل يداً في يد، فإن الأمر يتطلب التزام كل واحد منا. واليوم علينا أن نسأل أنفسنا جميعاً: ماذا فعلت لتحسين المحيط الذي أعيش فيه؟ هل نثرت الأزبال أم عملت على حماية محيطي؟ هل أبث البغضاء العنصرية أم أروج للسلام والمصالحة؟ هل أقتني المسروقات أم أعمل على الحد من الجريمة؟ هل أدفع ما علي من مستحقات أم أنني أغش في دفع ضرائبي، ورسوم الخدمات والرخص؟ هل أتوقع أن يتم تسليم كل شيء لي أم أنني أعمل مع أعضاء مجلسي المحلي لتهيئة حياة أفضل لنفسي ولمجتمعي المحلي؟
ما دام الفقر والظلم والتفاوت الفاحش قائماً في عالمنا، فلن يرتاح لأحد منا بال حقاً. ولن ننسى أبداً كيف تضامن معنا ملايين الناس في شتى أنحاء العالم لمكافحة الظلم والاضطهاد عندما كنا في السجون. وأتت تلك الجهود أُكلها وأصبحنا قادرين على الوقوف هنا والانضمام إلى الملايين من الناس في شتى أنحاء العالم من المناصرين للتحرر من الفقر.
إن شدة الفقر وفظاعة انعدام المساواة آفتان رهيبتان من آفات عصرنا ـ هذا العصر الذي يفتخر فيه العالم بتحقيق إنجازات هائلة في العلوم والتكنولوجيا والصناعة وتراكم الثروات.
ونعيش في عالم خطت فيه المعرفة والإعلام خطوات جبارة، ومع ذلك يحرم الملايين من الأطفال من ارتياد المدارس. ونعيش في عالم يهدد فيه وباء الإيدز نسيج حياتنا. ومع ذلك، فإننا ننفق على الأسلحة ما لا ننفقه على ضمان علاج الملايين من المصابين بفيروس نقص المناعة البشرية وعلى رعايتهم.
إنه عالم واعد ومفعم بالأمل. بل هو أيضاً عالم من اليأس والمرض والجوع.
والتغلب على الفقر لا يكون مِنّة. وإنما هو إحقاق للعدل. وهو حماية حق أساسي من حقوق الإنسان، ألا وهو الحق في الكرامة والحياة الكريمة. وما دام الفقر قائماً، فلن تكون ثمة حرية حقيقية. والخطوات المطلوبة من الدول المتقدمة النمو واضحة.
أولاها ضمان عدالة التجارة. وقد سبق لي أن قلت أن عدالة التجارة هي وسيلة مجدية حقاً للدول المتقدمة لإظهار الالتزام بإنهاء الفقر في العالم. وثانيها وضع حد لأزمة ديون الدول الفقيرة. وثالثها تقديم المزيد من المعونة والحرص على أن تكون معونة من أعلى جودة.
في بناء السلام
السلام ليس مجرد انعدام القتال؛ بل إن السلام هو تهئية بيئة يزدهر فيها الجميع، بصرف النظر عن عرقهم أو لونهم أو معتقدهم أو جنسهم، أو طبقتهم، أو طائفتهم أو أي سمة اجتماعية مميزة. فالدين والعرق واللغة والممارسات الثقافية عناصر تغني الحضارة البشرية، وتضيف إلى ثراء تنوعنا. فلماذا نسمح لها بأن تكون سبباً للتفرقة والعنف؟ إننا نحط من قدر إنسانيتنا المشتركة إن سمحنا بذلك.
لا يزال ثمة قدر مفرط من الشقاق والكراهية والتفرقة والصراع والعنف في عالمنا هذا في بداية القرن الحادي والعشرين. ولعل العناية الأساسية بالآخرين في حياتنا الفردية والجماعية من شأنها أن تسهم إسهاماً كبيراً في جعل هذا العالم مكاناً أفضل يراودنا بقوة حلم تحقيقه.... فما أسهل التخريب والتدمير. بيد أن الأبطال هم أولئك الذين يصنعون السلام ويشيدون.
اضف تعليق