قبيل غروب الشمس مع بداية احدى أمسيات العاصمة العمانية، تجمع عمانيون من مذاهب مختلفة في جامع السيدة مزون في مسقط ليؤدوا معا صلاة المغرب جنبا الى جنب، وينظر الى سلطنة عمان التي ينتمي سكانها الى المذاهب السنية والشيعية والإباضية، على انها إحدى أكثر الدول انفتاحا على التعايش بين المذاهب المختلفة في الشرق الاوسط. لكن احترام المذاهب هذا ليس وليد العادات والتقاليد فقط في السلطنة.
فالقانون العماني ينص على التقيد بهذا الاحترام، وهو التزام ينشر السلام في الدولة التي يبلغ عدد سكانها نحو 4,5 مليون نسمة (حوالى 46 بالمئة منهم أجانب) بينما تمزق الصراعات المذهبية دولا اخرى قريبة. بحسب فرانس برس.
بعيدا عن زحمة الاسواق القديمة في مسقط، يسود الهوء في مسجد السيدة مزون المسمى على اسم والدة السلطان قابوس بن سعيد، حاكم البلاد منذ العام 1970، وفي أروقة مسجد الإباضية، يهرول صبية ارتدوا الملابس التقليدية البيضاء نحو صف تعليم القرآن، بينما تقوم مجموعة من الرجال بواجب الوضوء قبل التوجه نحو قاعدة الصلاة الرئيسية. فيما ازدحمت القاعة في الطابق العلوي بالنساء اللواتي يتحضرن للصلاة في المكان المخصص لهن.
ويقول أحمد (46 عاما)، الطبيب المصري المقيم في السلطنة، انه اعتاد الصلاة في هذا المسجد رغم انه يتبع المذهب السني، ويقول لوكالة فرانس برس إن المرء "يرتاح في كل بيوت الله. لكن هذا المسجد، سبحان الله، أنا قريب منه، وأشعر بالسكينة والرحمة الطمأنينة عندما آتي الى هنا. الاخوة العمانيون، جزاهم الله خيرا، لا نشعر بالغربة بينهم"، ويضيف "نحن مسلمون، وكلنا اخوة، ولا تفرقة هنا. عمان أرض السلام والمحبة، والذي ياتي الى عمان يدرك هذا الأمر".
مواطنون درجة اولى
ويستمع يحيى رشيدي، صديق أحمد، الى تلاوة القرآن وهو يجلس على الأرض، وينتمي رشيدي الى مذهب الاباضية، وهو طالب يدرس الشريعة الاسلامية للسنة الثانية، ويؤكد ان الانفتاح في سلطنة عمان مصدره مراكز التعليم الديني في الدولة الخليجية.
ويضيف "في كلية العلوم الشرعية، هناك أشخاص من جميع الجنسيات، من شرق آسيا وشرق افريقيا وشمال افريقيا، حتى الاساتذة والمشايخ هم من مذاهب مختلفة وليسوا من مذهب الاباضية فقط"، ويتابع "أحيانا نسمع علماء للاسف الشديد يحذرون من قراءة كتب الطرف الآخر (...). لكن الأصل هو التعايش، وعندما تأتي الى عمان لا يسألك احد عن مذهبك، وهو ما يسير عليه صاحب الجلالة السلطان قابوس".
ومنذ توليه السلطة، عمل السلطان قابوس، صاحب أطول مدة حكم في العالم العربي، على إبعاد سلطنة عمان عن الانقسامات الاقليمية، بوجهيها الديني والسياسي، ويقول الباحث في معهد الشرق الاوسط في واشنطن أحمد ماجديار الخبير في شؤون المذاهب الدينية إن السلطنة تتعامل بحزم كبير مع أي تهديد للمس بالتعايش المذهبي فيها.
ويوضح أنه من الناحية القانونية، "يحظر القانون كل أشكال التمييز على أساس الدين"، مشيرا الى أن السلطات في البلاد فرضت عقوبات بالسجن بحق اشخاص دينوا بمحاولة نشر المذهبية، ومنعت في مناسبات عدة منح دعاة متطرفين تأشيرات دخول الى أراضي السلطنة.
وبالنسبة الى الباحث، فان هذا الامر يتناقض مع الوضع في دول اخرى مجاورة يسمح فيها للشيوخ بالتحريض على فئات اخرى وبتشجيع الطائفية والانقسام المذهبي.
ونجحت سلطنة عمان في ظل سعيها للقضاء على اي مؤشر للانقسام، في دمج الاقليات المذهبية في مكوناتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وفقا لماجديار، ما يعني انها "لم توفر سببا لهؤلاء للانخراط في التطرف او البحث عن دعم طرف أجنبي"، ويشير تحديدا الى الشيعة الذين يحصلون في السلطنة على معاملة "مواطنين درجة اولى"، بحسب تعبيره، بعيدا عن تأثيرات الصراع المستمر بين إيران الشيعية والسعودية السنية.
خوف على عمان
وقبيل مغيب الشمس، يسير إمام مسجد مزون مع ولده في الباحة الرئيسية حتى يبلغ مكتبته التي تكدست على رفوفها، من الارض وحتى السقف، كتب تفسير القرآن.
ويقول فهد العامري "بالحقيقة، عندما رأينا المشاكل التي تحدث في العالم وفي مناطق مجاورة، بالتأكيد خفنا من ان تدخل الى عمان"، لكنه يذكّر ان هذا الامر لم يحدث "بفضل سياسة السلطان قابوس الحكيمة التي يحاول من خلالها دائما النأي عن مشاكل الغير وعدم التدخل في شؤون الدول الاخرى وعدم السماح بالتدخل في شؤون السلطنة، وبفضل طبيعة أهل عمان ايضا"، ويؤكد إمام المسجد دوره ايضا في المحافظة على السلام والهدوء في السلطنة. "أنا كرجل أعمل في الجانب الديني، عليّ ان أعلّم الاجيال الاحترام، فالاحترام أساس كل شيء. أقول ان هذا صاحب رأي، أنت انظر لهذا الرأي وتمحص فيه وتفكّر، ويكون لك رأي فيه، لكن عليك، إن اختلفت معه، ان تحترمه"، وبينما بدأ المصلون من مذاهب مختلفة الاصطفاف الواحد الى جانب الآخر، غادر إمام المسجد مكتبته وتوجه نحو قاعة الصلاة الرئيسية ليؤم المصلين.
اضف تعليق