إنها الدولة البالغ عدد سكانها 6 ملايين نسمة، ورغم ذلك رحبت بـ1.5 مليون لاجئ سوري. وجاء هؤلاء اللاجئون من دولةٍ كانت بالنسبة لهم دولة احتلال على مدى 29 عاماً.
لا يتألم لبنان حالياً فقط بسبب هذا العدد من اللاجئين فحسب، وليس لأنَّ كثيراً من اللبنانيين لا يزالون يتألمون بعد 15 عاماً من الحرب الأهلية الهمجية والوحشية، ولكنَّ ذلك بسبب حالة الوهن العميق التي تعيشها البلاد نفسها، هكذا وصفت جومانا المطرة، مديرة المركز الأسترالي للمرأة المسلمة لحقوق الإنسان، وضع لبنان، في مقال نشرته صحيفة الغارديان البريطانية.
تقول: "منذ 3 أسابيع من الآن، اعتقد اللبنانيون أنَّهم على وشك التعرُّض لاجتياحٍ مرةً أخرى. ففي الرابع من نوفمبر/تشرين الثاني 2017، أعلن رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري استقالته من السعودية، مُشِيراً إلى مخاوف تعرض حياته للخطر، وكذلك إلى نفوذ حزب الله وإيران (غير المقبول) على السياسة اللبنانية.
وصرَّح مقربون من الحريري مراراً بأنَّ السعودية أرغمته على الاستقالة وبعد ذلك احتجزته. وقد اتخذت الحكومة والبرلمان اللبناني 3 خطواتٍ غير متوقعة؛ الأولى أنَّهم وحَّدوا صفهم، والثانية طالبوا بعودة رئيس الوزراء اللبناني إلى البلاد، والثالثة اتَّهموا السعودية باحتجازه قسراً.
وكانت جهود الحكومة اللبنانية في التصعيد لشن حملةٍ دوليةٍ للضغط على السعودية لإطلاق سراح الحريري، تجري على مستوى أقل علانية. وفيما يبدو كردٍ على ذلك، عاد الحريري، يوم الثلاثاء 21 نوفمبر/تشرين الثاني 2017، إلى البلاد بمناسبة عيد استقلال لبنان، وخلال يوم من عودته إلى الوطن، علَّق الحريري استقالته. وهذا الأمر يُضفي ثقلاً إلى نظرية أنَّ الحريري أُجبِرَ على الاستقالة".
الغائب عن التحليل
في جميع التحليلات المبتذلة والسطحية لحروب الوكالة الدائرة بين السعودية وإيران، بين القوى السُّنية والقوى الشيعية، ما يُغيَّب عن المشهد هو لبنان ومدى معاناة وخوف شعبه من تهديد الاجتياح والعنف، والغزو من قوى أجنبية مرة أخرى.
قد نجا اللبنانيون، على غرار نظرائهم السوريين، من سلسلةٍ من أهوال الحرب، لكنَّ حربهم والتوغُّلات الكثيفة لحدودهم لا تزال شيئاً لا يستطيع اللبنانيون الحديث عنه. وتتشكَّكُ كاتبة المقال في أنَّه بالإضافة إلى الأذى المُتأصل في الحرب، فهناك أيضاً إحساسٌ مشتركٌ بين اللبنانيين، عبَّرت عنه رسمةٌ جدارية لقناصٍ محفوظة على جدار داخل متحف (بيت بيروت) بأفضل طريقة؛ إذ تقول: أريدُ أن أقول الحقيقة، أصبحت رُوحي مُلوَّثة.
بلد التناقضات
لبنان هو بلد الفقر الذي يقتل الذَّات وكذلك بلد ثروةٍ تدعو للتباهي، وكأنَّ ما مِن شيءٍ منهما يتحدَّى الآخر. لبنان دولةٌ حيث تُقام مهرجانات الأفلام الدولية، ويتحدث مواطِنوه 3 لغات في بعض الأحيان بالإضافة إلى لغتهم الأم، في حين قد يجذب الأطفال أطراف ملابسك ليتسوَّلوا الطعام".
تقول مديرة المركز الأسترالي للمرأة المسلمة لحقوق الإنسان: "في كلِّ مكانٍ بلبنان، ترتفع مبانٍ جديدة من بين الأنقاض؛ وقد جعلت مباني الشقق السكنية ذات التصاميم الدولية في بيروت الشقق الأسترالية تبدو دون المستوى، وكأنَّها مبنيةٌ على طراز العمارة الشيوعية القاسية، والتي تُمثّل نمط المباني الحكومية والمساكن منخفضة الإيجار".
وتضيف: "هذه دولة يُعاد بناؤها حرفياً، لكن حتى بينما يعيدون بناءها، يعرف اللبنانيون أنَّه في أي لحظة قد تقع دولتهم فريسةً لحربٍ أو اجتياحٌ أجنبي.
هنا كان يقتلنا السوريون
يمكنكم زيارة صالات معرض (طرابلس الدولي) ذات المباني المعمارية المعقدة والتي صممها المعماري البرازيلي أوسكار نيماير. وقد حوَّل الجيش السوري واحداً منها عندما كان قوة محتلة ليستخدمها لهدفين؛ احتجاز السجناء اللبنانيين الذين يعتقلهم السوريون، وتنفيذ أحكام الإعدام رمياً بالرصاص بحقهم أمام الجدار الخارجي له.
وهذا الأمر يُمثل تعقيداً أخلاقياً؛ إذ لا يزال اللبنانيون قادرين على الترحيب بالسوريين على الرغم من ذلك، ما يجعل موقفنا (الغرب) من احتجاز وترحيل طالبي اللجوء واهياً أخلاقياً.
ورغم أنَّ نظرات العنصرية والاستشراق قد تغيَّرت وتكيَّفت مع حساسيات حديثة تجاه العِرق، فإنَّ ما لم يتغيَّر هو الخطاب الذي يقول إن كل ما يحدث في الشرق الأوسط إحدى نتائج الثقافة والدين. فكلُّ شيء، من الحرب إلى الاضطرابات المدنية والتدهور الاقتصادي، يُعد بمثابة تجلّياتٍ للكراهية الدينية والتجاذبات حول الهوية.
لقد حلَّ الانقسام المسيحي-المسلم، والشيعي-السني محل أي تحليلاتٍ ذات معنى للطريقة التي يتسبَّب بها العالَم المُعقد والجغرافيا السياسية في إحداث خرابٍ بلبنان والمنطقة. وتُلقى تحليلاتٍ قليلة بذلك على الطرق التي تُدمر بها عولمة السياسات الاقتصادية النيوليبرالية الاقتصاد في كثيرٍ من دول المنطقة.
تُدرِك الدول الشرق أوسيطة أنَّ أمنهم ورخاءهم يعتمدان على السياسات الأميركية والروسية. والآن، لدى الدولتين الكبيرتين رؤى مختلفة في الشرق الأوسط، ومع حلفاء مختلفين لكلٍ منهما. ولا تُعدُّ التهديدات السعودية الحالية باستخدام العنف فشلاً كبيراً للسياسات بقدر كونها فشلاً في تقدير الوضع.
لماذا فعلت ذلك بالحريري؟
من المعروف، على نطاقٍ واسع، أنَّ الحريري كان رجل السعودية في لبنان. وهناك توافقٌ واسعٌ بين وسائل إعلام الدول الشرق أوسطية على أنَّ فشله في أن يحل نفوذه محل نفوذ إيران "غير المقبول" بلبنان جعل له مكاناً بين العدد المتزايد من الأفراد الذين يحتجزهم حالياً ولي العهد ضمن جهوده لتوطيد سلطته.
لم تُغيِّر عودة الحريري إلى لبنان سوى النظرة إلى الوضع؛ فمن غير المرجح أن يكون الرجل حراً. فقد جعلت المملكة شركته العاملة في مجال الإنشاءات بالسعودية تُعلن إفلاسها، فضلاً عن أنَّ عائلته لا تزال تعيش هناك. ولا تعني عودة الحريري إلى الحكومة أنَّه سيلعب دوراً رئيسياً في جهودهم للسيطرة على لبنان. فربما يجد السعوديون سياسياً لبنانياً آخر للاتِّفاق معه. وكما هو الحال، تبدو السعودية الآن على مسارٍ أكثر عدوانية بكثير.
أمر مرعب
ويُعدُّ أي تهديد بالحرب يأتي من الرياض أمراً مُرعباً. فلطالما اتُّهِمَت السعودية، خلال سعيها نحو تحقيق أهدافها السياسية، بانتهاك الحدود القانونية والأخلاقية.
في الوقت الحالي، يتزايد عدد القتلى في اليمن نتيجة للحملة العسكرية للتحالف الذي تقوده السعودية ضد الحوثيين المدعومين من إيران. وينبغي للمجتمع الدولي التنديد بحصارها الحالي لليمن، الذي نجم عنه تعريض 7 ملايين شخص لخطر المجاعة وتفشي وباء الكوليرا المدمر، ووصفه بأنَّه حصارٌ غير قانوني.
ومن المحتمل أن تكون عواقب الغضب السعودي على لبنان كارثية. ويُدرك اللبنانيون منذ زمن أنَّهم يفتقرون إلى القوة السياسية والعسكرية التي تجعلهم في مأمن من تدخلات القوى الأجنبية. وهذا السبب في أنَّ كثيراً من السياسيين اللبنانيين مأثورون بالفضل للحكومات الأجنبية. ولكنَّ هذا بالتأكيد يحدث عندما لا يُطبق القانون الدولي بصرامةٍ أكبر.
مقال الغارديان يختم بالقول إن نفوذ إيران وحزب الله في لبنان، مشكلة يقع عبء حلها على عاتق اللبنانيين، ولكن ليس للسعودية دخلٌ في ذلك.
اضف تعليق