السباق على مدينة دير الزُّور السورية سيحدد بشكل كبير موازين القوى في الشرق الأوسط، وبينما يبدو أن الروس والإيرانيين يعلمون جيداً أهدافهما من هذه المدينة التي تعد كنزاً استراتيجياً، فإن الأميركيين لديهم خيارات محدودة.
ولعبت روسيا دوراً رئيسياً في انتصارات قوات النظام السوري، ما يعني بصورةٍ متزايدة أنَّ القوّات السورية المدعومة من قبل روسيا ستلتقي قوات سوريا الديمقراطية المدعومة من قبل الولايات المتحدة في محافظة دير الزُّور، بحسب مقال للكاتب والأكاديمي الأميركي سيث فرانتزمان، نشرته مجلة ناشونال انتيرست الأميركية.
وهذا ما حدث بالفعل، حيث اتهمت روسيا، الخميس 21 سبتمبر/أيلول 2017، قوات سوريا الديمقراطية، المدعومة من واشنطن، بإطلاق النار على قوات النظام السوري بالقرب من دير الزور في شرقي سوريا، وحذَّرت الجيش الأميركي بالرد على أي حادث جديد من هذا النوع.
وصرَّح الجنرال إيغور كوناشينكوف من الجيش الروسي في بيان: "القوات السورية تعرَّضت مرتين لقصف كثيف من مدافع ومدافع هاون، انطلاقاً من مواقع على الضفة الشرقية لنهر الفرات، حيث ينتشر مقاتلو قوات سوريا الديمقراطية والقوات الخاصة الأميركية".
وجاء في بيان الجيش الروسي: "ستتعرض المواقع التي ينطلق منها إطلاق النار في هذه المناطق على الفور للضرب، بكل التجهيزات العسكرية المتوافرة".
وراثة داعش
وفيما يستمر سقوط داعش، يشغل الفراغ الذي تركه هذا التنظيم أطرافاً تختلف أجندتها عن داعش تماماً، وتظل كما حال واشنطن، سياستها في شرقي سوريا غير واضحة.
وهذا بدوره يؤدّي لتعاظم النفوذ الإيراني في سوريا والعراق، ويثير تساؤلاتٍ لدى حلفاء الولايات المتحدة في الخليج، وإسرائيل، وعلى أرض المعركة في سوريا، عمَّا سيحدث تالياً.
وبعد أيامٍ من كسر قوات النظام السوري، بمساعدة سلاح الجو الروسي، حصار دير الزور، شنّت قوات سوريا الديمقراطية، المحسوبة على الأكراد والمدعومة من قبل الولايات المتحدة هجوماً، بغرض الوصول إلى المدينة من جهة الضفّة المُقابلة لنهر الفرات.
وأفادت تقارير من الشبكة الإعلامية الكردية "رووداو"، بأنَّ قوات سوريا الديمقراطية قد بلغت المنطقة الصناعية المحيطة بالمدينة بالفعل، يوم 10 سبتمبر/أيلول 2017.
ودير الزور هي مدينة ذات أهمية استراتيجية، حيث تمتد مساحتها الشاسعة على كلا جانبي نهر الفرات، وصولاً للحدود العراقية، فضلاً عن ثرائها بحقول النفط.
وقد توسّع تنظيم داعش في تلك المنطقة عام 2014، مستخدماً إياها كممر للوصول إلى محافظة الأنبار العراقية، ذات الأغلبية السنيّة، عبر معبر البوكمال.
وفي حين أنَّ خريطة المناطق الخاضعة لسيطرة داعش تتقلّص يوماً بعد يوم، وبقُرب استيلاء قوات سوريا الديمقراطية على مدينة الرقة، عاصمة التنظيم، تترقّب الولايات المتحدة وروسيا وحلفاؤهما كيف ستكون المرحلة التالية من النزاع في سوريا والعراق.
أهمية هذه المدينة للإمبراطورية الإيرانية!
وينقل فرانتزمان، الذي يعمل محرراً لقسم الرأي بصحيفة جيروزاليم بوست الإسرائيلية، عن مدير مركز روبن لأبحاث الشؤون الدولية بمركز هرتسليا للدراسات البينية في إسرائيل جوناثان سباير، قوله إنَّ الوضع الحاليّ يطرح تساؤلاتٍ هامة، خاصةً تلك المتعلّقة بدعم إيران للنظام السوري.
ويقول سباير: "نحن نعلم ما يفعله النظام السوري، وهو محاولة هزيمة داعش وإعادة فرض سيطرة النظام. ويريد الإيرانيون المعبر الحدودي في مدينة أبو كمال والممر البرّي الذي هوَ جزءٌ من المعبر".
السيطرة على المعبر والطريق البرّي ستساعد إيران في تحقيق هدفها بالربط بين الميليشيات الشيعية التي تدعمها في العراق وحزب الله في لبنان، من خلال حليفتها في دمشق.
وسبق أن قال علي يونسي، مستشار الرئيس الإيراني، حسن روحاني، إن "إيران اليوم أصبحت إمبراطورية كما كانت عبر التاريخ، وعاصمتها بغداد حالياً".
كما أشارت صحيفة الغارديان إلى مخطط إيراني اقترب من الانتهاء في العراق وسوريا، لتنفيذ مشروع ممر بين طهران والبحر المتوسط عبر الدولتين.
ماذا تريد أميركا؟
ويقول سباير: "نحن نعلم ما يريده الإيرانيون أيضاً، أمّا ما تريده قوات سوريا الديمقراطية والأميركيون، فإنَّ هذا أقلّ وضوحاً… إذ إنَّه لا توجد استراتيجية أميركية شاملة في سوريا، عدا ضرورة القضاء على داعش".
ويجادل سباير قائلاً، إنَّ إيران ترى في العراق، وسوريا، ولبنان مساحةً واحدة تمارس عليها لعبةً استراتيجية بارعة في المنطقة. ولهذا السبب يقاتل حزب الله في سوريا، ولهذا شوهد رجالٌ تابعون لحزب الله في العراق.
لهذا السبب أيضاً حاربت الميليشيات العراقية في سوريا. وعلى النقيض، فإنَّ الولايات المتحدة ترى كل دولةٍ بعينٍ مختلفة، إذ تتعاون مع حكومة رئيس وزراء العراق حيدر العبادي في بغداد ضد داعش، وتساند قوات سوريا الديمقراطية في سوريا، كذلك تتعاون مع حكومة رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري في بيروت.
ويقول سباير إنَّ "تسليم إدارة الملفّ السوري إلى الروس" سيكون أشبه بتسليم سوريا لخصوم أميركا.
لن يدخلوها
ويشير فلاديمير فان فيلغنبرغ، وهو محلّلٌ للشؤون الكردية مقيم في سوريا وعلى درايةٍ بقوات سوريا الديمقراطية، إلى أنَّ الروس والأميركيين قد سعوا لـ"تهدئة النزاع"، فيما اقتربت قواتهم من بعضها.
ويقول فيلغنبرغ: "لا أعتقد أنَّ سياسة قوات سوريا الديمقراطية تقضي بدخولها مدينة دير الزور، ربما تدخل بعض الأحياء، لكنَّ المدينة ستُترَك للنظام السوري".
ويقول فيلغنبرغ إنَّ قوات سوريا الديمقراطية تريد الاستيلاء على ريف المحافظة، ويبدو أنَّ الأميركيين مهتمّون بالتقدّم في اتجاه الحدود العراقية. ويضيف: "أعتقد أنَّ تلك هي الخطة، لكنَّهم يرسمون حدوداً مع النظام السوريّ، وهذا لن يعجب الإيرانيين. سيحاول الروس والأميركيون تنسيق هذه العمليات". ويبقى السؤال الأهم ما إن كانت الولايات المتّحدة ستُعلن صراحةً أنَّ سياستها تقضي باحتواء النفوذ الإيراني، وتحويل الاهتمام تجاه المنطقة الحدودية باعتبارها الموقع المناسب لتنفيذ تلك السياسة.
تسير العلاقات الأميركية - الروسية في سوريا حالياً عبر آلية "خفض التصعيد"، التي جنَّبت التقاء سلاحي الجو لكلا البلدين.
وفي أواخر أغسطس/آب 2017، سُمِحَ لقافلةٍ تتألف من عدة مئات من مقاتلي داعش بمغادرة منطقة القلمون على الحدود اللبنانية - السورية، بموجب اتفاقٍ مع حزب الله.
وكان من المفترض أن ينتقلوا إلى مدينة البوكمال، لأنَّ النظام كان يُجهِّز لمعركة دير الزور، ولم يرغب في الاضطرار لمواجهة مقاتلي داعش من جديد. وتحت ضغطٍ من العراق، الذي لم ترغب حكومته في أن تعبر القافلة حدودها مع سوريا، استهدف التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة أحد الطرق لمنع القافلة من مواصلة طريقها.
وقال التحالف في بيانٍ له إنَّه "تواصل مع الروس لنقل رسالةٍ إلى النظام السوري، مفادها أنَّ التحالف لن يقبل تقدُّم مقاتلي داعش إلى الشرق أكثر من ذلك باتجاه الحدود العراقية". ومع أنَّ عمليات التحالف الجوية قد عبرت نهر الفرات، يُشدِّد التحالف باستمرارٍ على أنَّه "لا يقاتل النظام السوري أو حلفاؤه في المعركة ضد داعش".
تحذير روسي
يبدو أنَّ الروس يشدِّدون موقفهم حيال الدور الأميركي في سوريا. ففي يوم السبت، 10 سبتمبر/أيلول، نُقِل عن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف قوله إنَّ "أي طرفٍ على الأراضي السورية أو في المجال الجوي السوري دون موافقة دمشق، بما في ذلك الولايات المتحدة، قد انتهك القانون الدولي".
وفي أوائل سبتمبر/أيلول 2017، أفادت وكالة سبوتنيك الروسية، التي تُعَد مُقرَّبةً من الحكومة الروسية، بأنَّ "طائرةً أميركية، وفقاً لأحد المصادر، قد أجلت 20 من قياديي داعش في دير الزور".
وكان جلياً أنَّ تلك معلومةٌ خاطئة، لكنَّها كانت تهدف لتشويه صورة الولايات المتحدة في سوريا. وفي 11 سبتمبر/أيلول، ورداً على المزاعم بأنَّ الولايات المتحدة ضربت الجيش السوري، غرَّد المتحدث باسم قوة المهام المشتركة لعملية العزم الصلب، بأنَّ الشائعات "خاطئة، ومعركتنا مع داعش، ونفَّذنا هذا الأسبوع 22 ضربة".
العلاقة بين الروس والأكراد
ورغم ترويج الشائعات والحرب الكلامية الهادئة، ثمة إشاراتٌ أيضاً على أنَّ موسكو تنظر إلى دور قوات سوريا الديمقراطية التي يقودها الأكراد نظرةً إيجابية. ففي 13 سبتمبر/أيلول 2017، أُفيد بأنَّ الجيش الروسي قال إنَّ 85% من سوريا حُرِّرت من الأعداء.
ووفقاً لوكالة أسوشيتد برس، قال الجنرال ألكسندر لابين، إنَّه لا يزال هناك 15% من البلاد لاستعادة السيطرة عليها. وربما يشير ذلك إلى عدم نظر الروس إلى مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية، التي تمثل نحو 35% من البلاد، باعتبارها مناطق يسيطر عليها الأعداء. ولعب المراقبون العسكريون الروس دوراً في مناطق مثل عفرين، والتي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية ولا تتواجد فيها الولايات المتحدة.
يطرح هذا سؤالاً رئيسياً حول الماهية التي ستكون عليها سياسة الولايات المتحدة، في ظل سعيّ حلفائها لتحرير مزيدٍ من المناطق بطول نهر وادي الفرات باتجاه الحدود العراقية. فحالياً، يخضع الجانب الآخر من الحدود العراقية في معظمه لسيطرة ميليشيات الحشد الشعبي الشيعية المدعومة من قبل إيران، والتي تُعَد رسمياً جزءاً من قوات الأمن العراقية.
وترغب تلك القوات في التوجه جنوباً والسيطرة على مدينة القائم عبر مدينة البوكمال. ثُمَّ سيرغبون بعد ذلك في إقامة روابط مع قوات النظام السوري وحلفائه من الميليشيات التي تدعمها إيران كذلك.
ولا تزال الولايات المتحدة ملتزمة فقط بهزيمة داعش، وعملت قواتها التي تساعد العراقيين في العراق بجانب الميليشيات الشيعية في الحملات الأخيرة، مثل الهجوم على تلعفر.
ومع ذلك، فإنَّ سياسة التحالف الرسمية في العراق هي عدم العمل مع الميليشيات، بل فقط مع الجيش العراقي، والشرطة الاتحادية، والوحدات الأخرى. ويُعَد هذا تقسيماً ملائماً لا معنى له على الأرض، لأنَّ كل تلك القوات متداخلة في الحرب على داعش.
الولايات المتحدة ستقرر مستقبل الشرق الأوسط
وعلى الأرجح سيبدأ ما تُقرِّر الولايات المتحدة وحلفاؤها في قوات سوريا الديمقراطية عمله في الشهور المقبلة بسوريا، في تحديد المرحلة المقبلة من مستقبل الشرق الأوسط.
وإذا ما بدأت الولايات المتحدة رسم سياسةٍ لاحتواء النفوذ الإيراني، فإنَّها قد تقوم بذلك مع شركائها. وإذا ما كانت الولايات المتحدة هناك في سوريا من أجل هزيمة داعش فحسب، فإنَّ استراتيجيتها لمرحلة ما بعد داعش في العراق وسوريا ستترك شركاءها غير المتوافقين مع إيران أمام مستقبلٍ غامض. وسيكون لذلك تداعياتٌ تتجاوز وادي نهر الفرات. إذ سيؤثر الأمر على الطريقة التي تنظر بها كلٌّ من السعودية، والإمارات، وإسرائيل، والأكراد، وتركيا إلى التزامات الولايات المتحدة وسياساتها.
اضف تعليق