q

على الرغم من الوعود التي خرجت بها الحكومة المغربية والتحركات الملكية الاخيرة لتهدئة الأوضاع لاتزال المظاهرات والاحتجاجات الشعبية مستمرة في العديد من المناطق والمدن، وتشهد المغرب منذ مدة، وبحسب بعض المصادر، العديد من المظاهرات المنددة بالفساد في الدولة ووجوب تنمية المناطق الريفية و العديد من المطالب الأخرى فيما شبهه العديد بعودة الربيع العربي، وتفجر ما بات يعرف باسم "حراك الريف" في أواخر أكتوبر تشرين الأول الماضي بمدينة الحسيمة شمال المغرب عندما قُتل بائع السمك محسن فكري سحقا داخل شاحنة للنفايات عند محاولة استرجاع بضاعته المصادرة. وأسفرت المظاهرات في الحسيمة والمدن المتضامنة معها عن اعتقال العشرات من النشطاء. والاحتجاجات نادرة في المغرب الذي نجا من تبعات ثورات "الربيع العربي" في 2011 و يقدم نفسه كنموذج للاستقرار في المنطقة.

وأمام تزايد حدة المظاهرات والاحتجاجات لجأت قوات الأمن والشرطة إلى اعتقال أكثر من 100 ناشط من أبناء المنطقة، على رأسهم قائد الحراك ناصر الزفزافي، ووجهت لهم تهم ثقيلة من قبيل تهديد أمن الدولة والتحريض على العصيان المدني. حوكم بعضهم بعقوبات السجن وأفرج عن آخرين فيما لا يزال معظمهم ينتظرون مثولهم أمام القضاء. ومع دخول المنطقة مرحلة من التوتر نتيجة عجز رئيس الحكومة عن التدخل لإخماد ما اعتبرها البعض نار "فتنة" قادمة سارعت أكثر من مائة شخصية سياسية وأكاديمية مغربية إلى المطالبة بتدخل الملك لتهدئة الوضع على غرار تدخله في 9 مارس/ آذار من عام 2011 بالإعلان عن تعديلات دستورية جنبت المغرب السقوط في مسار صدامي بين المطالب الشعبية وسلطات النظام الملكي آنذاك.

وبالفعل وبعد طول انتظار جاء التدخل الملكي بشكل أمر للحكومة والوزراء المعنيين بفتح تحقيق في أسباب تعثر برنامج مشاريع سبق أن أطلقه عام 2015 لتنمية مدينة الحسيمة، رصدت له ميزانية بمبلغ 670 مليون دولار. وأعرب بيان صادر عن الديوان الملكي عن استياء الملك وانزعاجه وقلقه من عدم تنفيذ تلك المشاريع في الآجال المحددة لها. كما قرر عدم الترخيص للوزراء المعنيين بالاستفادة من العطلة السنوية حتى يتسنى لهم الانكباب على متابعة سير أعمال تلك المشاريع المذكورة. غير أن قرارات الملك لم تحل دون استمرار الاحتجاجات، وهو ما دفع السلطات الى القيام بمبادرات اخرى في سبيل تهدئة الشارع المغربي.

انسحاب قوات الامن

وفي هذا الشأن بدأت قوات الامن المغربية انسحابها "التدريجي" من وسط مدينتي الحسيمة وامزورين بشمال المغرب اللتين تشهدان منذ ثمانية اشهر حركة احتجاجية، بحسب مصادر متطابقة. وقال والي الحسيمة الجديد فريد شوراق ان اول الانسحابات انجزت "تدريجيا في امزورين ومن ساحة محمد الخامس بالحسيمة". واضاف "انها رسائل عميقة آمل ان يدركها الجميع (..) الانسحاب سيتم على مراحل" مؤكدا انه ينفذ "توجيهات" العاهل المغربي محمد السادس "لضمان الحريات". وتابع "اذا تفاعل المحتجون ايجابيا مع هذه الرسائل فستليها اخرى في الاتجاه ذاته. الثقة والامن مرتبطان (..) حتى العودة الى الوضع الطبيعي".

وقال احد سكان المدينة "انسحب الشرطة فعلا من ساحة الحسيمة المركزية. وبقي بعضهم باللباس المدني اضافة الى عربات مركونة الى جانب مفوضية الشرطة المجاورة كما هي الحال في الاوقات العادية". وبعد نحو ثمانية اشهر من احتجاجات في المدينتين بدأت سلمية ثم تخللتها مواجهات مع قوات الامن، تدخلت الاخيرة بعنف خصوصا في 26 حزيران/يونيو 2017. ولم يعلن ابدا عدد عناصر الشرطة والدرك الذين انتشروا في المحافظة لاحتواء تظاهرات الحراك.

لكن انتشارهم الكثيف في الاماكن العامة ندد به الناشطون واعتبروه دليلا على "عسكرة" المنطقة. وندد ناشطون محليون في الاسابيع الاخيرة ب "حالة حصار" مفروضة على المدينة ونواحيها كما يقولون. وانتشر قبل ايام عناصر مكافحة الشغب على الشواطىء لتفريق بضعة اشخاص رفعوا شعارات، بحسب ما اوردت صحف محلية.

وتم توقيف ابرز قادة الاحتجاجات في نهاية ايار/مايو وفي مقدمهم ناصر زفزافي وبات اطلاق سراحهم احد ابرز مطالب المحتجين. ومنذ التوقيف، استمرت التظاهرات شبه اليومية مع مواجهات مع قوات الامن. واضافة الى الافراج عن قادة الحراك يطالب المتظاهرون بتنمية منطقتهم. وانتقدت منظمات تدافع عن حقوق الانسان واصوات داخل المجتمع المدني والطبقة السياسية النهج "الامني" الذي اعتمدته السلطات.

ووضع نحو مئة شخص في التوقيف الاحتياطي وصدرت احكام بحق 40 معتقلا وصلت الى السجن 18 شهرا فيما لا يزال 18 اخرون ملاحقين مع الافراج المشروط عنهم، وفق اخر الارقام الرسمية. واشاد احد الملاحقين المفرج عنهم المرتضى لمراشين عبر موقع فيسبوك ب"انهاء حالة العسكرة في ساحة الشهداء" في الحسيمة. واحيت السلطات المغربية برنامج تنمية لهذه المنطقة، لكن العاهل المغربي وجه انتقادا على الحكومة لتأخر هذا البرنامج. بحسب فرانس برس.

وياتي هذا الانسحاب من الحسيمة مع بداية موسم عودة المغاربة من اوروبا لتمضية العطلة. لكن هذه العودة تثير مخاوف وخصوصا ان الجمعيات المغربية في الخارج تؤكد دعمها للحراك، علما بان الزفزافي كان دعا قبل توقيفه الى مسيرة كبيرة في 20 تموز/يوليو.

استياء ملكي

الى جانب ذلك عبّر العاهل المغربي الملك محمد السادس خلال ترأسه مجلساً وزارياً في القصر الملكي في الدار البيضاء، "للحكومة والوزراء المعنيين ببرنامج الحسيمة منارة المتوسط، بصفة خاصة، عن استيائه وانزعاجه وقلقه بخصوص عدم تنفيذ المشاريع التي يتضمنها هذا البرنامج التنموي ... في الآجال المحددة لها"، حسبما جاء في بلاغ رسمي. ويشهد إقليم الحسيمة في منطقة الريف تظاهرات منذ مصرع بائع سمك نهاية تشرين الأول/أكتوبر 2016 سحقاً داخل شاحنة نفايات.

وأضاف البلاغ الرسمي الذي تلاه الناطق باسم القصر الملكي أنّ الملك أصدر تعليماته لوزيري الداخلية والمالية من أجل "قيام كل من المفتشية العامة للإدارة الترابية بوزارة الداخلية والمفتشية العامة للمالية، بالأبحاث والتحريات اللازمة بشأن عدم تنفيذ المشاريع المبرمجة، وتحديد المسؤوليات، ورفع تقرير بهذا الشأن، في أقرب الآجال".

وتابع البلاغ أنّ الملك قرّر أيضاً "عدم الترخيص للوزراء المعنيين بالاستفادة من العطلة السنوية" من أجل دفعهم إلى "الانكباب على متابعة سير أعمال المشاريع المذكورة". وشدّد العاهل المغربي بحسب البلاغ، على "ضرورة تجنّب تسييس المشاريع الاجتماعية والتنموية التي يتم إنجازها، أو استغلالها لأغراض ضيقة". واتخذت التظاهرات في منطقة الريف مع الوقت طابعاً اجتماعياً وسياسياً للمطالبة بالتنمية في المنطقة التي يعتبر سكّانها أنها مهمشة. وتسعى الحكومة المغربية منذ سنوات إلى احتواء الاستياء. وبادرت إلى عدد من الإعلانات المتعلقة بتنمية اقتصاد المنطقة، مرسلةً وفوداً وزارية في الأشهر الستة الأخيرة، لكنها عجزت عن تهدئة الاحتجاجات. بحسب رويترز.

من جهة أخرى، أصدر الملك تعليماته للحكومة المغربية "بالإسراع في عرض مشروع القانون المتعلق باختصاصات رئاسة النيابة العامة وقواعد تنظيمها، على البرلمان" من أجل "المصادقة عليه خلال الدورة التشريعية الحالية" وذلك "في إطار تعزيز استقلال السلطة القضائية"، وفقاً للبلاغ الرسمي. وخلال الجلسة عيّن الملك "مجموعة من المسؤولين، من ولاة وعمال، بالإدارة المركزية وبالإدارة الترابية" ومن بينهم والٍ للحسيمة. كذلك عيّن سفراء للمملكة لدى الصين والسعودية وموريتانيا وإسبانيا وكندا وأوكرانيا ورومانيا وغانا وكوبا وجمهورية التشيك، بينهم ممثل دائم للمملكة لدى مكتب الأمم المتحدة والمنظمات الدولية في جنيف وممثل آخر دائم لدى الاتحاد الأفريقي.

انتهاكات ومطالب

على صعيد متصل اتهم "الائتلاف المغربي لهيئات حقوق الإنسان" والذي يضم أكثر من 20 منظمة غير حكومية، السلطات بارتكاب "انتهاكات لحقوق الإنسان" خلال "قمع" الحركة الاحتجاجية التي تهز منذ أكثر من سبعة أشهر شمال المملكة. وقال الائتلاف في تقرير أن "الأغلبية الساحقة ممن تعرضوا للاعتقالات هم شباب، وكانت هذه الاعتقالات عشوائية ومرفقة بالعنف"، مؤكدا أنه استمع إلى "إفادات بالتعذيب داخل مخافر الشرطة، من ضرب وعنف ومعاملة سيئة وتهديد".

وأوضح الائتلاف أن تقريره هو ثمرة عمل "لجنة تقصي حقائق" قام بإرسلها مؤخرا للوقوف على "مجمل التطورات التي يعرفها إقليم الحسيمة" منذ سبعة أشهر حيث تنشط حركة احتجاجية تطالب بتنمية الريف الذي يعتبر المحتجون أنه "مهمش". ومنذ 26 أيار/مايو اعتقلت السلطات أكثر من مئة شخص من قادة هذا الحراك أبرزهم زعيمه ناصر الزفزافي. وأكد الائتلاف أن عدد المعتقلين منذ نهاية أيار/مايو يبلغ 135 بينهم سبعة صحافيين. بحسب فرانس برس.

ولفت التقرير إلى أن "القوات العمومية تدخلت بعنف مفرط وبكثافة لفض تجمعات سلمية، استعملت فيها القنابل المسيلة للدموع وخراطيم المياه والعصي، ونجم عن هذه التدخلات عشرات من الجرحى". من جهتها نفت وزارة العدل المغربية اتهامات التعذيب. من جانب اخر اكدت منظمتا "هيومن رايتس ووتش" والعفو الدولية ان زعيم الحراك ناصر الزفزافي تعرض "للضرب والإهانة" من قبل شرطيين عند توقيفه في 29 أيار/مايو الماضي. وحثت المنظمتان السلطات على "التحقيق حول ادعاءات ذات صدقية بحصول أعمال عنف من قبل الشرطة ضد الزفزافي وعلى الامتناع عن ملاحقة التعليقات او التظاهرات السلمية المتصلة بذلك". وندد الاتحاد الأبرز للصحافيين في اسبانيا ايضا بـ"الانتهاكات المتواصلة" لحرية الصحف في شمال المغرب وبسجن صحافيين من الريف قاموا بتغطية الاحتجاجات الشعبية.

وقال مسؤول في الاتحاد الاسباني "لا يفترض ان تحصل مثل هذه الانتهاكات والاعتقالات لصحافيين في بلد يحترم حرية الإعلام من حيث المبدأ". وكان وزير الداخلية عبد الوافي لفتيت شدد مؤخرا على ان "الصحف بامكانها تغطية الأحداث في الريف بحرية"، مبررا عمليات التوقيف بضرورة "احترام القوانين".

من جنبها قالت الحكومة المغربية إنها أحالت تقريرا أعدته هيئة رسمية عن مزاعم بتعرض ناشطين اعتقلوا على خلفية أحداث "حراك الريف" في شمال المغرب المتوتر منذ ثمانية أشهر إلى النيابة العامة. ووصف متابعون للشأن الحقوقي في المغرب تلك الخطوة بأنها اعتراف رسمي بوجود حالات تعذيب في هذا الملف. وقالت وزارة العدل المغربية في بيان إنه "بخصوص تقرير المجلس الوطني لحقوق الإنسان(هيئة حقوقية رسمية) بشأن الخبرات الطبية المنجزة حول بعض المعتقلين على ذمة القضية المحال على الوزارة فإن وزير العدل وفور توصله بهذا التقرير أحاله على الوكيل العام للملك(النيابة العامة) لدى محكمة الاستئناف بالدار البيضاء والوكيل العام للملك لدى محكمة الاستئناف بالحسيمة." وأضافت أن الهدف من ذلك هو "ضم هذه الخبرات لملفات القضايا المعروضة بعضها على قاضي التحقيق والبعض الآخر على المحكمة لاتخاذ المتعين قانونيا."

وكان تقرير للمجلس الوطني لحقوق الإنسان قد تسرب إلى الصحافة أعقبه بيان للمجلس عبر فيه عن "استغرابه لعملية التسريب الجزئي التي تمت لوثيقة حرص المجلس أن توجه حصريا إلى الجهة المعنية." وأضاف المجلس أن "العمل الذي أنجز من قبل الطبيبين الخبيرين يندرج ضمن وسائل لإنجاز تقاريره حول مثل هذه الأحداث ولذلك ليست تقارير نهائية تمثل موقف المجلس وما تحصل عليه من قناعات بناء على التحريات والأبحاث والمقابلات والمعاينات التي تنجزها فرق عمله ميدانيا."

واعتبر أحمد الهايج رئيس الجمعية المغربية لحقوق الإنسان المستقلة تقرير المجلس الوطني لحقوق الإنسان ومبادرة وزارة العدل "بادرة طيبة في الاعتراف بالتعذيب والتعاطي معه بطريقة ايجابية." وأضاف "هذا ما يجب القيام به بدل الرد السريع ونفي مزاعم التعذيب..لا بأس أن تعترف الدولة بحصول تجاوزات قامت بها السلطات في التعامل مع الحراك." وقال "بما أن تقرير المجلس ليس نهائيا لا يمكن أن نستبق الأحداث علينا أن ننتظر ونلتقط الإشارات الايجابية والسلبية."

ومن جهته أشاد سعيد بلمحان المحامي عن عدد من معتقلي الحراك بهذا التقرير وقال لرويترز إن حقوقيين ومحامين وقفوا على "حالات التعذيب الجسدي والمعنوي وممارسات حاطة بالكرامة خلال زيارتنا للمعتقلين كما عاينوا آثار الضرب وان لم تكن بادية جدا لكن المعتقلين أكدوا لنا ذلك." وكان رئيس الحكومة المغربية قد أكد "على ضرورة الاحترام التام للمساطر القضائية التي تنظم المحاكمة العادلة وفتح التحقيق والبحث في أي ادعاء بسبب التعذيب." وأضاف "بلغ عدد طلبات الفحص المرتبطة بالخبرة الطبية على مزاعم التعذيب 66 طلبا".

اضف تعليق