ردّ الحكام عن الغي واجب كمهم جدا، ومسؤولية في غاية الأهمية، وهي لا تنحصر بفرد أو جهة معينة، فالجميع تقع عليهم قضية التصدي لاستبداد الحكّام وانحرافهم، إلا أن العلماء لهم قصب السبق، والدور الأكبر في ردّ الحكام عن غيّهم، ومنعهم من الاستمرار بالفساد، والاستهتار بحقوق الناس...
(أساس التقدّم والخير والعزّة.. هو الوعي الصحيح، والإيمان الصادق)
سماحة المرجع الشيرازي دام ظله
ردّ الحكام عن الغي واجب كمهم جدا، ومسؤولية في غاية الأهمية، وهي لا تنحصر بفرد أو جهة معينة، فالجميع تقع عليهم قضية التصدي لاستبداد الحكّام وانحرافهم، إلا أن العلماء لهم قصب السبق، والدور الأكبر في ردّ الحكام عن غيّهم، ومنعهم من الاستمرار بالفساد، والاستهتار بحقوق الناس، لهذا تؤكّد لنا الحوادث التاريخية المتعاقبة أن العلماء الأجّلاء قاموا بهذا الدور بأفضل وجه وراقبوا ونبّهوا و ردّوا الحكام عن ظلمهم.
هذا هو دور العلماء بالفعل، وهو المنهج العريق الذي وضعه لهم النبي صلى الله عليه وآله، والأئمة (عليهم السلام)، حيث ركزوا على هذه النقطة بالذات، وهي تحذير من يتحكم بالسلطة ويتربع على عرشها، من أن تأخذه موجات الغرور وتتضخم عنده الذات، فيبطش بالناس بأدوات سلطته وحكمه القمعي كما فعلا حكام ساقتهم الأيام إلى حتوفهم وإلى نهاياتهم التعيسة، فأما ماتوا قتلا، أو إعداما أو فرارا من بطش الناس، وأما سقطوا في قبضة العدالة فاقتصّ منهم المظلومون، ولم ينجُ حاكم ظالم على مرّ التاريخ من العاقبة التي يستحقها.
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، يقول في كتابه القيّم الموسوم بـ (السياسة من واقع الإسلام):
(إنّ العلماء عبر العصور المتمادية والقرون المتتابعة سائرون على منهجهم الذي رسمه لهم رسول الله صلى الله عليه وآله، والأئمة الطاهرون من إصلاح أمور الأمّة الإسلامية وتقويمها، فلم يتركوا الحكّام وما يفعلون، ويدعوهم وما يريدون، بل تدخلوا في السياسة).
وهكذا تصدى العلماء لكل حاكم منحرف، وكانوا لسان حال الناس البسطاء، الذين لا حيلة لهم في مواجهة الحاكم المتنمّر، فكان العلماء الأفاضل لا يترددون من تنبيه الحكام، وتحذيرهم، وتقديم النصيحة الرشيدة لهم، وإن لم يستجب بعضهم فكان التنبيه يتكرر والتحذير يستمر، فإذا لم يرعوي الحاكم ولم يستجب للعلماء فإنهم لا يتوقفون عند هذا الحد وإنما تبدأ المعارضة العلنية لهم ضد الحكام المنحرفين.
فكان العلماء يكفّرون الحكام الفاسدين المنحرفين، ويعارضونهم بصورة معلنة، ويحثون الناس على مواجهة ظلمهم، ويحرضونهم على الثورة ضد الظلم، مما يجعلهم في مواجهة مباشرة مع السلطان الغاشم، لكن مسؤولية موقف العلماء تستمر دونما تردد أو توقّف.
من يتحمّل مسؤولية مواجهة الطغاة؟
أما نتائج هذه المواقف فهي معروفة ومشهودة يذكرها التاريخ بأحرف من نور للعلماء الشهداء الذين وقفوا ضد الطغاة بصورة علنية، بعد أن رفض هؤلاء الحكام الفاسدون أن يستجيبوا لصوت العقل والحق، ويتخلوا عن الفساد ويكفّوا عن الغيّ، ولهذا السبب تعرض العلماء الأصلاء لعقوبات صارمة يصل بعضها إلى فقدان حياته بسبب معارضته للحاكم الفاسد و الوقوف في وجهه مهما كانت النتائج.
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(لقد كان من واجب العلماء أن يردّوا الأُمراء والحكّام عن الغي والفساد، إذا انزلقوا، وكان عليهم أن يقابلوهم ويرشدوهم باللسان والنصح، فإن لم ينفع ذلك فبالوقوف دونهم وما يريدون، مهما كلّفهم الأمر، وكانوا يقومون بذلك ويرشدون وينصحون، ويهددون ويكفّرون، ويعارضون ويقاطعون كل من كان ينحرف عن الإسلام من الحكام).
ومع استمرار العلماء بهذا الدور الكبير، وتحملهم مسؤولية مواجهة الطغاة، كانت الملاحقات تطولهم، هم وعائلاتهم وذويهم، وكان الأجهزة القمعية تطاردهم، والمحاكم الصورية تصدر بحقهم الأحكام التي لا تستند إلى القوانين الحقيقية، بل إلى قوانين يسنها جلاوزة الحكام الظالمين ويطبقونها بحق كل من يعارض سلطتهم وحكمهم المستبد.
لقد أُبعد العلماء وكل المعارضين عن ديارهم إلى منافٍ بعيدة، ومنهم من أودع السجن حتى موته، ومنهم من تم إشعال النار في داره، وتم تهجير عائلته قسرا، وهناك من تم صلبه وقتله بأيدي الأجهزة القمعية للحاكم الفاسد، ولكن لم تتوقف أصوات الحق التي تعمل بمنهج الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والاستمرار بإرشاد الحكام وتنبيههم على أخطائهم.
يشير سماحة المرجع الشيرازي دام ظله إلى هذه النقطة فيقول:
(فكم من عالم أُبعد من دياره؟ وكم من مجتهد أُوذي وسُجن؟ وكم من فقيه أُحرق داره وطُرد؟ وكم منهم قُتل وصُلب؟ وكم؟ وكم؟، كل ذلك للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإرشاد الحكّام وتقويمهم عن الهوى والشهوات).
وكان العلماء الأجلّاء يؤكدون بأن مسؤولية التصدي للحكام الفاسدين ليست حصرية عليهم، بل يجب أن يشارك الجميع في تحمل هذه المسؤولية، ورفض الفساد والاستبداد وردّ الغي، وإعلان المعارضة العلنية للحاكم الذي يتجاوز حدوده، ولا يحترم حقوق الناس، ومسؤولية التصدي للحاكم واجب جماعي وإن اختلف حجم هذه المسؤولية، لكن يبقى الجميع في مدار المسؤولية الجماعية يوم يحين الحساب.
حيث يقول سماحة المرجع الشيرازي دام ظله:
(لم يكن التدخل في الأمور السياسية، وتعديل الأمة، وتقويمها، واجب العلماء فحسب، بل هو واجب الجميع، والجميع مسؤول عنه غداً يوم القيامة. فكل زيغ، أو انحراف يحدث في الأمّة الإسلامية، يجب على جميع المسلمين مكافحته وإصلاحه).
ولابد للحاضرين أن يقتدوا بالماضين من المسلمين ومواقفهم المشهودة ضد الحكام الفاسدين، حيث كان المسلمون لا يتركون الحاكم يتصرف كما يشاء، خصوصا حين يتعلق الأمر بحقوقهم وحرياتهم، وحين يرتكب الفساد هو أو أعوانه وجلاوزته، فإن أصوات الحق ترتفع ضده ويتم إعلان المعارضة له وفضحه أمام الملأ.
سبل إيقاف ظلم الحاكم
وبهذا الأسلوب النضالي الفعال، استطاع المسلمون في السابق أن يحدوا من أضرار الحكام، وأن يضعوا لهم حدودا لا يمكنهم تجاوزها، لأن الجميع سوف يهبّ من مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيتم إيقاف ظلم الحاكم وفساده وهذه مسؤولية الجميع يتقدمهم العلماء.
يقول سماحة المرجع الشيرازي دام ظله):
(لقد كان المسلمون الأوّلون ـ الذي بهم تقدّم الإسلام، وبإيمانهم الصادق وصمودهم الجبار استقامت أركان البلاد والدين ـ إذا رأوا منكراً استنكروه بما لهم من حول وقوّة، حتى يزيلوه).
أما حين تراجع صوت الحق، وتكاسل المسلمون عن مواجهة الحكام الفاسدين، فقد ضاعت حقوقهم، واستبيحت حرياتهم، وصاروا لعبة بأيدي الحكام الطغاة وأجهزتهم القمعية، لذا لابد الاستفادة من دروس التاريخ في هذا المجال، ولابد للناس أن تدافع عن حقوقها وحرياتها، ولا تسمح للحكام بأن يطغي في فساده ويستمر في انحرافه لأن النتيجة هي فقدان الأمة لحقوقها وحرياتها، وتصبح فريسة لكل من هبّ ودب.
سماحة المرجع الشيرازي يؤكد هذه النتيجة حين يقول:
(ولكن المسلمين حينما تكاسلوا عن العمل، وفقدوا المسؤولية، صبّت عليهم المصائب ووقعوا فرائس الشرق والغرب وغيرهم).
ونتيجة للوعي الجمعي للمسلمين، ومعرفتهم لما يدور حولهم، وتوغلهم في السياسة ومسالكها المختلفة، فإنهم صاروا على فهم ودراية مما يحدث، واستيقظوا من غفوتهم وكسلهم، وأخذوا يواجهون الأخطاء بالوعي وتحقيق العزة الشاملة لأنها سبيل المسلمين إلى التطور والتقدم والازدهار.
وهذا سوف يتحقق بالوعي والإيمان الحقيقي، لذا على الجميع أن يعرف ويتعلم ويفهم ويفكر ويدرس كل الأمور بدقة وذكاء حتى يستطيع حماية حقوقه وتأدية واجباته الصحيحة، وهكذا يمكن لأمة المسلمين النهوض والسير المستمر في طريق التطور والتقدم والازدهار.
كما يؤكد ذلك سماحة المرجع الشيرازي دام ظله في قوله:
(المسلمون اليوم بدأوا اليقظة، ومعرفة ما يدور حولهم، فيرجى لمستقبلهم الخير الوافر، والعزّة الشاملة بإذن الله تعالى. فأساس التقدّم والخير والعزّة.. هو الوعي الصحيح، والإيمان الصادق، وقد ورد في الحديث الشريف: العالم بزمانه لا تهجم عليه النوائب).
وأخيرا لابد من أن نقرّ بأن مسؤولية العلماء في مواجهة الحكام الفاسدين أكبر من غيرهم، لكن هذا لا يعفي أي فرد من الأمة أو الشعب عن واجبه في مواجهة الحاكم إذا انحرف عن طريق الاستقامة الذي يحمي حقوق وحريات الجميع، ويضمن تطبيق الواجبات الموكَلة للجميع ضمن القوانين والأعراف والأحكام التي يجب على الجميع الالتزام بها.
اضف تعليق