من المهم اتخاذ عدد المتابعين كأحد المعايير، لكن لا يمكن ان يكون المعيار الوحيد، لأن ذلك يعني أن جميع مشاهير التيك توك هم نخبة الصحفيين لكونهم يملكون من الجماهير ما لا يملكه أفضل الصحفيين، بينما إذا راجعنا محتواهم نجده لا يتعدى سرقة المحتوى من وسائل الإعلام، أو تقديم مشاهد لا تحمل أي رسالة سوى إثارة الجمهور...
في عام 2020 وخلال جائحة كورونا، قررت وزارة الداخلية إصدار بطاقات خاصة لعدد محدد من الصحفيين، لكي تسمح لهم بممارسة عملهم بدون التأثر بإجراءات حظر التجوال، على أساس أن الصحفيين لهم استثناء خاص خلال فترة الحظر، لكن هذا الإجراء وضع وزارة الداخلية ونقابة الصحفيين العراقيين أمام تناقضات ما تزال تكبر حتى يومنا هذا، وتستحق منا مناقشتها بشيء من التوضيح.
في البدء كان قرار اللجنة العليا المشكلة من رئاسة الوزراء بشأن جائحة كورونا قد استثنى الصحفيين من إجراءات حظر التجوال.
القرار لا يحتاج إلى شرح، فالمحامي مثلاً لا يشمله الاستثناء، والمواطن لا يشمله القرار، إنما يشمل من يعمل في مهنة الصحافة، فمن هو الصحفي؟
إذا عرفنا الصحفي قانونياً فقد عرفه قانون نقابة الصحفيين العراقيين رقم 178 لسنة 1969 بأنه "كل عضو في نقابة الصحفيين"، أي من يحمل هوية نقابة الصحفيين العراقيين.
وفي قانون حماية الصحفيين لسنة 2011 فقد عرف الصحفي بأنه: "كل من يزاول عملاً صحفياً وهو متفرغ له".
يتقاطع هذا التعريف مع قانون نقابة الصحفيين، إذ لم يشترط أن يكون الصحفي عضواً في نقابة الصحفيين، وهو ما تؤكده عدة مواد أخرى في ذات القانون التي أشارت صراحة إلى إمكانية حصول الصحفي على امتيازات معينة حتى وإن لم يكن عضواً في نقابة الصحفيين.
يعود قانون حقوق الصحفيين ليناقض نفسه بنفسه، فهو يعرف الصحفي بأنه كل من يزاول عملاً صحفياً وهو متفرغ له، ثم يعود في مواد أخرى ليخصص راتباً تقاعدياً لمن يستشهد من الصحفيين، بشرط أن يكون غير موظف في مؤسسات الدولة، أي أن القانون وافق ضمنياً على وضع صفة الصحفي على الموظف غير المتفرغ للعمل الصحفي.
على أساس هذا هذين القانونين تبني المحاكم العراقية قرارات مصيرية لبعض الأشخاص، بكونهم صحفيين أو غير صحفيين من خلال الانتماء لنقابة الصحفيين، فهناك مواد قانونية تخص صحفي وحده، ولا يمكن أن تنطبق عليه إلا إذا كان عضواً في نقابة الصحفيين.
في المقابل قد يحتج البعض بمواد قانونية في قانون حقوق الصحفيين، لأنه لم يشترط الانتماء لنقابة الصحفيين ولا التفرغ للعمل الصحفي.
هذا الالتباس في التنظيم القانوني لعمل الصحفيين دفع وزارة الداخلية إلى عدم الالتزام بتعليمات اللجنة العليا للصحة والسلامة التي استثنت الصحفيين من إجراءات حظر التجوال.
السبب يكمن في عدم ثقة المؤسسات الحكومية بطريقة انتماء الأفراد إلى مهنة الصحافة، والمعايير الموجودة غير كافية ليقال أن هذا الشخص صحفي أو لا، بدلالة أن عدداً لا يستهان به من أفضل الصحفيين لا يعترفون بالتنظيم النقابي الرسمي بينما أسس بعضهم الآخر نقابة موازية.
وقد تعرضت شخصياً لموقف محرج خلال أيام الجائحة، عندما اعترضني شرطي في الشارع، وسألني عن سبب خروجي بينما تفرض الحكومة حظراً للتجوال، فبرزت له هوية نقابة الصحفيين، فقال: هذه الهوية يملكها الكثير من سائقي سيارات الأجرة.
وفي السنوات الاخيرة سمحت نقابة الصحفيين العراقيين لخريجي كليات الإعلام بالانتماء لنقابة الصحفيين دون أن يكون لبعضهم أي تجربة صحفية، في تعارض واضح مع قانون النقابة الذي يشترط حصول الصحفي على شهادة عمل في إحدى المؤسسات الصحفية ليكون قادراً على الانتماء للنقابة.
وبسبب غياب القوانين الواضحة المحددة لصفة الصحفي، ارتبكت النقابة في وضع معايير لشروط الانتماء، ما أضعف من قدرة هوية نقابة الصحفيين العراقيين على أن تكون شهادة ليقول الشخص أنه صحفي محترف.
ما هي الشهادة الصحفية؟
إذا كان التشريع القانوني غير قادر على الاتفاق على توصيف محدد للصحفي، فإن الانتماء لنقابة الصحفيين غير كافٍ ليكون شهادة على كفاءة الشخص واعتباره صحفياً، بينما الدراسة في كلية الإعلام لا تعني إطلاقاً أن الخريج هو صحفي محترف.
يبقى لدينا عنصر واحد يمكن أن يفيدنا في معرفة من هو الصحفي.
البعض يطرح الجمهور بصفته الفيصل في تحديد من هو الصحفي، لأن المحترفين من الصحفيين يجذبون أكبر عدد من المتابعين، ومن ثم يكون هذا المعيار مفيداً في عملية الفرز.
يكون الجمهور مفيداً لو هذا الجمهور قادراً على التمييز بين المادة الصحفية الحقيقية والمادة الدعائية والإشاعات وغيرها من الأمور التي لا ترتبط بالعمل الصحفي مباشرة.
نعم، من المهم اتخاذ عدد المتابعين كأحد المعايير، لكن لا يمكن ان يكون المعيار الوحيد، لأن ذلك يعني أن جميع مشاهير التيك توك هم نخبة الصحفيين لكونهم يملكون من الجماهير ما لا يملكه أفضل الصحفيين، بينما إذا راجعنا محتواهم نجده لا يتعدى سرقة المحتوى من وسائل الإعلام، أو تقديم مشاهد لا تحمل أي رسالة سوى إثارة الجمهور.
لتعريف الصحفي وتمييزه عن غيره نحتاج إلى جملة من الخطوات الجادة وهي:
1- تحديث مناهج كليات الإعلام لتكون قادرة على رفد المؤسسات الإعلامية بما تحتاجه من كفاءات في مختلف الفنون الصحفية والإعلامية.
2- إعادة صياغة القوانين المنظمة للعمل الصحفي ودمجها في قانون واحد يضع ضوابط صارمة في الإنتماء لقطاع الصحافة، ويوفر حماية كافية للصحفيين، سواء كانت حماية مالية أو وظيفية أو اجتماعية وأمنية.
3- وإذا ما أعيدت صياغة القوانين، يشترط أن يتبعه تعديل في طبيعة عمل نقابة الصحفيين، لتكون قادرة على التأقلم مع الوضع القانوني الجديد.
4- التنسيق المستمر بين نقابة الصحفيين وكليات الإعلام، فالنقابة يجب أن تقدم احتياجاتها لكليات الإعلام في كل عام، ومن بين هذه الاحتياجات ما تطلبه وسائل الإعلام من كفاءات صحفية، فضلاً عن طبيعة المهارات المطلوب وضعها في مناهج الإعلام ليكون خريج الإعلام مدرباً على جميع المهارات المطلوبة في المؤسسات الإعلامية.
5- إنشاء معهد للصحافة يعنى بالتأهيل الصحفي، وظيفته التدريب السنوي للصحفيين العاملين في وسائل الإعلام وإطلاعهم على آخر مستجدات العمل الصحفي وتطورته التقنية، فضلاً عن قيام هذا المعهد بتوفير مراكز تأهيل لخريجي كليات الإعلام قبل دخولهم عالم الصحافة.
اضف تعليق