إن النخب المتقدمة في التفكير والعلم والتخطيط، هي التي تنقذ مجتمعاتها، وهذه النقطة واضحة من حلال تجارب الأمم المتقدمة وتواريخها ودور النخب فيها، لذلك يحتاج العراق إلى تتصدى هذه النخب إلى مهام إرشادية تثقيفية كبيرة ومخطَّط لها بخبرات وتخصصات دقيقة، مع وضع خارطة الطريق الدقيقة الواضحة لبلوغ هذا الهدف المصيري...
(تُعقد آمال كبيرة على الجامعات، بإغناء الأمة بخيرة الخبراء)
سماحة المرجع الشيرازي دام ظله
الأمم التي خرجت من عنق الزجاجة، وغادرت أزماتها العصيبة والمعقدة، وتخلصت من أغلال الجهل والتخلف، ما كان لها أن تحقق ذلك لو لا الدور المحوري للمؤسسة العلمية فيها، لاسيما الجامعات الرصينة لتلك الأمم، ودورها العلمي الفاعل في نقل الإنسان من الظلمات إلى ضفة النور، فهل تصدّت جامعاتنا العلمية والإنسانية لهذه المهمة الصعبة، وهل قامت بما يجب أن تقوم به؟
لابد من إجابة عن هذا السؤال، لاسيما بعد أن عبر العراقيون محنة الطغيان والاستبداد، بزوال الصنم وانهيار حكم البعث البائد، لا يزال العراق يعاني من مشكلات سياسية كبيرة ومعقدة، تتطلب من الجميع دون استثناء أن يعوا طبيعة هذه المشكلات، وأن يحسموا الأمر بشكل قاطع بعدم السماح بعودة الطغاة والاستبداد، ولكن لابد من التذكير بقوة أن مهمة التوعية والتنوير والتثقيف هناك من هو أقدر عليها من غيره، وهم النخب الإرشادية التنويرية ممثلة، بالعلماء الأعلام والخطباء والجامعات والمثقفين والإعلاميين الذين يقع عليهم دور الإرشاد والتوعية والتنوير.
إن الأزمات التي تعصف بالمجتمع العراقي معقدة وخطيرة، وأن الشعب يخشاها بشدة، لأنه جرب أنواع الاضطرابات كافة، وعانى من ويلات الحروب، وتألم كثيرا من ظلم الفاسدين والمستبدين، ولهذا لا يريد عودة الاضطرابات ولا الاستبداد ولا انتشار الفساد، بل يريد أن يبني نفسه كمجتمع معاصر قوي ومستقر، ويبني دولة الحقوق والواجبات.
خير من ينوّر الناس على هذا النوع من البناء هم العلماء الأعلام، من خلال أفكارهم النيرة ومجالسهم التثقيفية الرصينة، وخطبهم التي تفتح الطريق أمام بصائرهم، كون هؤلاء الكبار علما وأخلاقا وقيما يشكلون امتدادا فكريا ثقافيا وعقائديا، لمبادئ وتعاليم وأخلاقيات أئمة أهل البيت عليهم السلام، وهذا ما يمنح العلماء الأجلّاء مكانة كبيرة بين الناس.
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، يخاطب النخب والعلماء الأعلام في كتابه القيّم الموسوم بـ (اضاءات مرجعية) قائلا:
(إخواني العلماء الأعلام في الحوزات العلمية وفي سائر المدن (أعلى الله كلمتهم) الذين جعلهم الله تعالى ورثة الأنبياء وامتداداً للأئمة الطاهرين (سلام الله عليهم)، والمرابطين بالثغور التي يليها إبليس وعفاريته: أن يتصدوا أكثر من ذي قبل لهداية الناس إلى سبل الحق، وبثّ الهدوء في المجتمع، وإحياء روح الأمل والعمل فيهم، واستنهاضهم من وهاد اليأس والقنوط).
الخطباء والتطوير الفكري والسلوكي
مسؤولية توعية العراقيين تقع على عاتق الخطباء أيضا، لما لهم من تأثير فكري ديني تثقيفي مهم على عامة الناس، فالخطباء وهم يرتقون المنابر، إنما يسعون بكل جهودهم العلمية والفكري والعقائدية لكي يجعلوا عقول الناس مفتوحة عميقة وقادرة على فهم ما يمر به العراق والعراقيون من مشكلات كبيرة، لا يمكن حلّها ما لم يشارك الجميع في توفير الحلول اللازمة، كل حسب قدرته، فالمهم هنا أن لا يتخلى الإنسان عن هذه المسؤولية، ويساهم بعقل مفتوح وإيمان راسخ وإرادة حرة، في رص الصفوف لتجاوز المعوقات الصعبة.
يُضاف الكتاب والصحفيون إلى هذه المهمة، فالكتاب الملتزمون هم أصحاب الأفكار المضيئة، حيث يصفهم سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) بأنهم (لسان الأمة)، ولذلك تقع عليهم هذه المسؤولية الكبيرة لنشر الثقافة الصحيحة والقيم الجيدة بين الناس، والمسؤولية نفسها تقع على عاتق الإعلاميين أيضا، فالإعلامي هو ناشر الأفكار والمبادي للقراء من خلال المواضيع الإعلامية التي ينشرها، عبر فنون الكتابة الصحفية المتعددة.
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(السادة الخطباء الكرام والوعّاظ الأجلاء والكتّاب والصحفيون المؤمنون الذين هم لسان الاُمّة، في داخل الوطن وفي المهجر، أن يؤدوا كما هم أهله رسالتهم في توجيه الأمة، على جميع الصُعد، وإرشادهم، وتذكيرهم مسؤولياتهم الجسام، عبر الإذاعة والتلفزيون والصحف والمجلات والمنابر والندوات وغيرها).
أما المؤسسات العلمية كالجامعات ومراكز الدراسات وسواها، فإنها تتحمل عبئا كبيرا في مجال التوعية والإرشاد والتثقيف، وهي قادرة على ضخ الكثير من الخبراء الكبار في المجالات كافة، ومن الأهمية بمكان أن تنهض المؤسسات والمراكز والمنظمات العلمية بدورها المهم والكبير في توعية المجتمع وإرشاده، ومعاونته للاستدلال على السبل الكفيلة بمساعدة العراقيين على تجاوز الصعوبات الكبيرة التي تواجه بلدهم.
هذه الصعوبات والأزمات ليست سياسية فقط، كما أنها لا تنصبّ على الجانب الاقتصادي أو تنفرد بحدوثها في الجانب الاجتماعي، إنها أزمات مترابطة، فالأزمة الاجتماعية المعقدة، سوف تنعكس على السياسة والاقتصاد كذلك، كما أن القرارات السياسية والسياسة الاقتصادية تنعكس إيجابا أو سلبا على المجتمع.
لهذا لابد أن تتوافر الحلول والمعالجات ذات الطابع الكلّي أو الشامل، فلا يصح أن تتصدى الجامعات وخبراؤها للمشاكل الاقتصادية وتهمل السياسية والاجتماعية، وإن الحلول والمقترحات والتوصيات العلمية، يجب أن تتصدى لكل المجالات كونها مترابطة مع بعضها، ولا ينبغي للأكاديمي والأستاذ الجامعي النظر إلى دوره بأنه بسيط أو واهٍ.
إنما هو دور حاسم ومفصلي لتطوير أفكار المجتمع وثقافتهم ونظرتهم إلى الحياة، وطبيعة وسبل التعاطي معها، فالعلم والمؤسسات العلمية اليوم باتت عمود بناء الدول والمجتمعات.
جامعاتنا تغنينا عن الحاجة للآخرين
يمكن أن تغنينا الجامعات العراقية والمؤسسات العلمية الأخرى عن الاستعانة بدول أخرى، من خلال تخريج الخبراء المتخصصين في جميع المجالات العلمية، ورفدها بخبرات متخصصة متفردة وعميقة، فتغني العراقيين عن الحاجة للآخرين، ليس بمعنى الانغلاق وإنما بمعنى التناظر والكفاءة المماثلة لخبراء الدول الأخرى.
كذلك في حال قامت الجامعات بهذا الدور الكبير، فإنها سوف تساعد البلد اقتصاديا، من خلال توفير الأموال الكبيرة التي يتقاضاها الخبراء الأجانب مقابل خبرتهم، كما أننا مع مرور الزمن نكون أصحاب خبراء وعقول متمرسة، تكتسب خبرتها من ميدان العمل في خدمة المجتمع، وتطوير العقلية العلمية العراقية في عالم بات يتسابق نحو العلم والابتكارات الكبيرة على مدار الساعة.
وقد أصبحت درجات التطور العلمي لهذه الدولة أو تلك، معيارا لتطورها وتقدمها، لهذا يجب أن تتصدى المؤسسة العلمية بكافة أنواعها وتشكيلاتها إلى مهمة تطوير العراق علميا، لكي يُنظَر إليه على أنه دولة معاصرة مستقرة ومتقدمة.
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) حول دور المؤسسة العلمية:
(تُعقَد آمال كبيرة على الجامعات، بأساتذتها الأكارم وطلبتها الأماجد، أن يقوموا بمهمتهم الأساسية بإغناء الأمة بخيرة الخبراء والمثقفين الملتزمين في جميع التخصصات، لكي لا يحتاج هذا الشعب الأبي إلى غيرهم، بل يصبح هو في مقام إسعاف الآخرين بالخبرة والتقنية والاختصاص وما شاكل ذلك، ويقدموا الأمة إلى الإمام، وفي الحديث الشريف: واستغنِ عمن شئت تكن نظيره).
ويبقى لدينا الشباب ودورهم في بناء العراق، فهذه الشريحة يتم التركيز عليها من لدن سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) بشكل كبير، لأنها الأقدر على أداء دور كبير في بماء البلد، كما أنها تتميز بالحماسة، والإقدام على الابتكارات، والتمسك بالقيم النبيلة، وبالعقائد التي فتحنا عقولنا عليها وأخذناها كدروس عظيمة في مدرسة أئمة أهل البيت (ع).
وهناك نماذج شبابية تتحلى بها سيرة أهل البيت (ع)، وتقدم أعظم النماذج في التضحية والإقدام والالتزام بالمبادئ والعقائد والبناء النابع من قيم وأخلاقيات الدوحة النبوية المكرّمة، لذلك يحث سماحة المرجع الشيرازي الشباب على النهوض بدورهم بشكل متميز وكبير، حين يقول سماحته (دام ظله):
(الشباب في العراق اليوم، الذين هم رجال الغد، وأمل المستقبل، سواء في الحوزات والجامعات، أو في سوح العمل.. أن يتخذوا من شباب الإمام الحسين (سلام الله عليه)، علي الأكبر (ع) والقاسم بن الحسن (ع) وأصحابه الأوفياء (ع) أسوة وقدوة في خوض غمار الحياة، مع التحلي بالإيمان والصبر والتقوى والتضحية ونكران الذات).
خلاصة القول، إن النخب المتقدمة في التفكير والعلم والتخطيط، هي التي تنقذ مجتمعاتها، وهذه النقطة واضحة من حلال تجارب الأمم المتقدمة وتواريخها ودور النخب فيها، لذلك يحتاج العراق إلى تتصدى هذه النخب إلى مهام إرشادية تثقيفية كبيرة ومخطَّط لها بخبرات وتخصصات دقيقة، مع وضع خارطة الطريق الدقيقة الواضحة لبلوغ هذا الهدف المصيري.
اضف تعليق