توجد مخاطر كبرى لتعظيم الذات، وأكثرها خطرا حين يتحول هذا التبجيل والتعظيم إلى نوع من القناعة الحاسمة بحب الذات، ومن ثم النزوع إلى حالات سحق متواصلة للآخرين، وفقدان مستمر للأخلاق، واندثار متتابع للقيم، وحين تنتشر هذه الثقافة في المجتمع، فإنه سيبلغ الانهيار...
(نكران الذات وحبّ الله أساس كلّ فضيلة)
سماحة المرجع الشيرازي دام ظله
الذات تختلف عن النفس بحسب العلماء المختصين، وهي تتعلق بالهيكل الذاتي للإنسان، فمفهوم الذات يُعرف أيضا باسم تكوين الذات أو الهوية الذاتية أو الهيكل الذاتي) وهو مجموع العقائد والأفكار بخصوص النفس، وبصورة عامة يجسد مفهوم الذات الإجابة عن سؤال "من أنا؟".
لا بد من التمييز بين مفهوم الذات وبين إدراك الذات، والذي يشير إلى تعريف درجة معرفة الذات، وهو متسق وقابل للتطبيق على اتجاهات وسلوكيات الفرد وتصرفاته. يختلف مفهوم الذات أيضا عن تقدير الذات، إذ يعبر مفهوم الذات عن مكوّن معرفي أو وصفي لذات الفرد (على سبيل المثال: "أنا عدّاء سريع")، بينما نجد تقدير الذات مفهوما تقديريا خاضعا للآراء الأخرى المحاذية له في المكان والزمان.
يتكون مفهوم الذات من مخططات الفرد الذاتية، ويتفاعل مع تقدير الذات والذات الاجتماعية ليكوّن الذات ككل. يشمل مفهوم الذات في كل من الماضي والحاضر والمستقبل، في حين تمثل ذوات المستقبل (أو الذوات الممكنة) أفكار الفرد عن ما يمكنه أن يكونه، أو ما يرغب أن يكونه، أو ما يخاف من أن يكونه. وقد تعمل الذوات الممكنة كحوافز لبعض السلوكيات.
إن التصورات التي يحملها الناس بخصوص ذواتهم الماضية أو المستقبلية مرتبطة بتصورهم عن ذواتهم الحالية. تجادل نظرية التقييم الذاتي الزمني بأن الناس يميلون إلى الحفاظ على تقييم ذاتي إيجابي من خلال إبعاد أنفسهم عن ذواتهم السلبية وتركيز الانتباه على ذواتهم الإيجابية. وهذا يعني فرز الطاقة الإيجابية عن السلبية، وهو أمر بالغ الصعوبة، لكن بالإمكان تحقيق ذلك من خلال إيجابية الذات.
في الغالب يحب الإنسان نفسه، ويفضلها على غيره، وإن ادّعى عكس ذلك، لأن كبح الذات قضية عسيرة جدا، وهدف يصعب الوصول إليه إلا من خلال تدريب مستمر للإنسان على الخير، ورفض الشر، والميل الغريزي للتعاون ونبذ الصرعات الفردية والجمعية، وعدم الانشغال بتوافه الأمور.
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله) يقول في كتابه القيم الموسوم بـ (نفحات الهداية):
(الإنسان بطبعه ميّال لذاته كلّ إنسان - في الأعمّ الأغلب - يوقّر ذاته ويحترمها ويراها أولى من كلّ شيء، مع أنّ كلّ البلايا والمصائب وكلّ ظلم وتجاوز يأتي من حبّ الذات).
مناظرة الذات الإلهية
إذًا ليس غريبا أن يحب الإنسان نفسه، ويفضلها على الآخرين، مع أن هذا الفعل يتسبب بمخاطر هائلة، لاسيما في الجانب الاجتماعي، ولا يكتفي عند هذا التفضيل بين البشر بعضهم مع بعض، بل يذهب الأمر إلى أبعد من ذلك بكثير، فينظر إلى ذاته تناظر الذات الإلهية، وتعلن ذلك بوضوح، بل هناك تبجّح في هذا الإعلان، وكأن من يضع نفسه بموازاة خالقه من البشر قد حقق ما يصبو إليه، ولكن هذا لن يتحقق.
هناك من يفضل نفسه على المجتمع، بعد أن يساويها بالله، وهناك من المثقفين من ينظر إلى مثل هذه الأفعال على أنها تحررية، وأنها نوع من التمرد الذي يدفع الإنسان للسؤال المستمر والدائم، فلا يكتفون بمساواة الخالق، والوقوف كأنداد له وليس كعباد، في هذه الحالة يُسحق الفقراء، ويزداد الفقر والحرمان بصورة مضاعفة، وتتراجع الأخلاق مع أنها الركن الأهم لتخفيف غلواء الذات وتعاليها وغطرستها الفارغة.
فالأخلاق هي منظومة قيم يعتبرها الناس بشكل عام جالبة للخير وطاردةً للشر، وهي ما يتميز به الإنسان عن غيره. وقد قيل عنها إنها شكل من أشكال الوعي الإنساني كما تعتبر مجموعة من القيم والمبادئ تحرك الأشخاص والشعوب كالعدل والحرية والمساواة بحيث ترتقي إلى درجة أن تصبح مرجعية ثقافية لتلك الشعوب لتكون سنداً قانونياً تستقي منه الدول الأنظمة والقوانين.
والأخلاق التي تدعم الذات وتحسن من جوهرها، هي السجايا والطباع والأحوال الباطنة التي تُدرك بالبصيرة والغريزة، وبالعكس يمكن اعتبار الخلق الحسن من أعمال القلوب وصفاته. فأعمال القلوب تختص بعمل القلب بينما الخُلُق يكون قلبياً ويكون ظاهرا أيضا.
والأخلاق هي دراسة، حيث يقيم السلوك الإنساني على ضوء القواعد الأخلاقية التي تضع معايير للسلوك، يضعها الإنسان لنفسه أو يعتبرها التزامات ومبادئ يمشي عليها وأيضا واجبات تتم بداخلها أعماله أو هي محاولة لإزالة البعد المعنوي لعلم الأخلاق، وجعله عنصرا مكيفا، أي أن الأخلاق هي محاولة التطبيق العلمي، والواقعي للمعاني التي يديرها علم الأخلاق بصفة نظرية.
مراقبة الذات بدقة واستمرار
لذا لا يصح إهمال الأخلاق مطلقا، لأنها (الأخلاق) حين تندمج مع الهيكل الذاتي، نجد أن الإنسان يميل إلى الخير، ويكره الشر، بل يحاربه، وهذا هو الإنسان المستقيم، أو الذي يتسم بالاستقامة من خلال أخلاقه العالية التي يركز عليها سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) بالقول:
(الطامّة الكبرى عندما يؤثر الإنسان ذاته في مقابل الحقّ سبحانه وفي مقابل الأخلاق والمجتمع والفضائل، فأكثر الناس ـ مع الأسف ـ يرى الله ويرى ذاته معه؛ ينظر إلى المجتمع والأخلاق ويرى ذاته معهما؛ ولذلك تراهم في الغالب يسحقون كلّ شيء من أجل ذواتهم).
حين تغيب الأخلاق يفقد الإنسان السيطرة على ذاته، فيبدأ بسحق الناس وصولا إلى أهدافه بأية طريقة كانت، ولا علاقة للشرعية في هذا الأمر، فالهدف هو تأليه الذات، وتفضيلها، وسحق كل من يحاول الوقوف بالضد من مطامحها، فكل وسائل القمع والبطش والظلم والأساليب المحرمة متاحة وممكنة لبلوغ الهدف، المهم لديه الوجاهة والنفوذ والقوة، هذا ما يقوم بها من يجعل ذاته محط تبجيل وتفضيل دائم فوق الآخرين.
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(الذي يفعل الحرام بأكله الربا أو بظلم الناس مثلاً إنّما يفعل ذلك من أجل ذاته.. فهو يريد لها المال.. يريد لها التقدير والظهور والوجاهة والزعامة وتحقيق كلّ رغباتها ولو عبر الطرق غير الشرعية).
يوجد بين الناس من يتنكّر للذات الإلهية، ويجعل ذاته فوق كل شيء، وفي هذه الحالة لا يرى إلا نفسه، ويصل به الأمر إلى تأليه ذاته، والنظر إليها نظرة تفضيلية لا تقبل التراجع، وهذا ما يجري في المجتمعات التي تنتشر فيها ثقافة تبجيل الذات، والابتعاد الكلي عن مبدأ نكران الذات الذي يجعل الإنسان أكثر تواضعا كلما ارتقى في سلّمه الوظيفي أو سواه.
المعادلة المهمة التي يجب أن يؤمن بها الإنسان ويحفظها عن ظهر قلب، هي كلّما بجّلت ذاتك وفضلتها على الناس، صرتَ أكثر بعدا عن الخير، وهذا ما يحدث في المجتمعات التي تفقد قيمها، وتتنكر لجذورها الثقافية، وتنزلق في مسالك الاستهلاك والمادية المدمّرة، حينئذ يتنكر الإنسان للذوات الأخرى حتى الذات الإلهية، ويفقد بذلك فرصة الإرشاد كليا.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يقول: (إذا لم يكن الإنسان يرى الله وينكر ذاته تراه يسحق أحكام الله ولا يبالي، ويولّي ظهره لله ولأنبيائه ويتّخذ نفسه إلهاً من دون الله).
ويضيف سماحته: (من هنا كان نكران الذات وحبّ الله أساس كلّ فضيلة، فكما أنّ الإنسان الذي يحبّ ذاته يرتكب كلّ رذيلة من أجلها، كما في الحديث النبوي الشريف: حبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة، فكذلك يكون معرفة الله والقيام له ونكران الذات أساس كلّ فضيلة. فمن ينكر ذاته يترفّع عن الرذائل).
الخلاصة توجد مخاطر كبرى لتعظيم الذات، وأكثرها خطرا حين يتحول هذا التبجيل والتعظيم إلى نوع من القناعة الحاسمة بحب الذات، ومن ثم النزوع إلى حالات سحق متواصلة للآخرين، وفقدان مستمر للأخلاق، واندثار متتابع للقيم، وحين تنتشر هذه الثقافة في المجتمع، فإنه سيبلغ الانهيار، إلى هذه الدرجة تصل مخاطر تضخيم الذات التي يجب التنبّه جيدا إلى وضعها في حدودها الطبيعية المقبولة.
اضف تعليق