الوفاء يعد من القيم الانسانية التي أسهمت بقوة في تطور الدول والمجتمعات، ويعني الوفاء في أوضح وأقصر تعريف له، أنك لا تنس ما قدمه لك الآخرين من مساعدة، أيا كان نوعها، صغر حجمها أو كبر، ومهما كان نوعها، فمن يبادر ويمد لك يد العون، ويقف الى جانبك ويساندك، أيام المحنة والحاجة، يستحق أن تعيد إليه الموقف نفسه عندما تتمكن من ذلك.

فالوفاء إذاً نوع من إعادة الجميل، فضلا عن كونه موقف اخلاقي يفرض نفسه على الانسان، ويستدعي نوعا من الالتزام غير القابل للتسويف او التملّص، وكلما كان الفرد اكثر وفاءً وتمسكا بهذه القيمة، كلما كان اكثر قيمة ومكانة عند الآخرين، والعكس يصح تماما، فمن لا يتحلى بالوفاء لا قيمة له عند الآخرين.

هذا الأمر لا ينطبق على الافراد فقط، ولا يتعلق بالجانب الاخلاقي حصرا، بل ينطبق على الحكومات والسلطة بأشكالها وانواعها كافة، إذ ينبغي أن تكون الحكومة والمسؤول الحكومي مهما كان حجم مسؤوليته وصلاحياته، وفياً للآخرين، والحاكم الوفي هو الحاكم الناجح، وهو الذي يكسب الشعب الى جانبه، كونه ملتزم بقيمة الوفاء.

ولدينا في هذا الجانب، حكومة الاسلام المشرقة، متمثلة بحكومة الرسول الكريم (ص)، فالحقيقة تمثل شخصية قائدها النبي (ص)، نموذجا للوفاء السياسي والاخلاقي المشترك، كما تدل على ذلك وقائع ومواقف كثيرة يحتفظ بها التاريخ المشرق للمسلمين.

يقول سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله) في كتابه القيّم الموسوم ب، (السياسة من واقع الاسلام) جول هذا الجانب تحديدا: (سياسة الرسول صلی الله عليه و آله التي هي: إدارة البلاد والعباد بمعناها الصحيح كما يحب الله تعالى ويرضاه، كانت مبنيّة على الوفاء بالوعد، والالتزام بالقول، والوفاء الخلقي).

ان ما كان يقوم به قائد الدولة ايان الرسالة الاسلامية، يمثل دروسا للجميع آنذاك، فكانت شخصية القائد النموذجي، تعني كل شيء بالنسبة للمسلمين، سواء بالنسبة للقادة والمسؤولين او على مستوى الناس البسطاء، فالوفاء الذي كان يتميز به قائدهم هو بمثابة الدرس الاخلاقي العملي لهم جميعا، لاسيما انه لا يتعلق بالسلوك السياسي فحسب، وانما يمتد الى السلوك المجتمعي ايضا، في تقدم الوفاء لكل من يستحقه.

وقد ورد في هذا الشأن قول سماحة المرجع الشيرازي في كتابه نفسه: (وذكروا: أنّه جاء وفد من قبل النجاشي إلى رسول الله صلی الله عليه و آله فأضافهم، وأكرمهم، واحترمهم.. وقام النبي صلی الله عليه و آله يحضر لهم بعض الحاجات بنفسه الكريمة. فقال لـه بعض الأصحاب: نحن نكفيك ذلك. فقال صلی الله عليه و آله: إنّهم كانوا لأصحابنا مكرمين، وإني أحب أن أكافئهم).

شركاء في السراء والضراء

وهناك مواقف ذات بعد شخصي، كان يحرص قائد المسلمين على إظهاره للناس، حتى يتعلموا منه، خاصة انه (ص) النموذج للجميع، فكان الالتزام مع الآخر ديدن القائد، وكان شديد الحرص على الالتزام بالوعد والموعد عل حد سواء، بغض النظر عن قيمة مركز الانسان، فالأخير متساوٍ في القيمة عند رسول الله (ص)، والانسان لديه واحد في قيمته، فكان الوفاء والالتزام لقائد المسلمين (ص) يشمل الجميع، القادة وبسطاء الناس ايضا.

يقول سماحة المرجع الشيرازي حول هذا الجانب، في كتاب (السياسة من واقع الاسلام): (في مكّة المكرمة، وقبل البعثة تواعد النبي صلی الله عليه و آله مع شخص أن ينتظره حتى يجيء ذلك الشخص، فراح الرجل، ونسي وعده، وترك النبي صلی الله عليه و آله يترقّبه ثلاث ليال في المكان نفسه. وبعد ثلاث جاء الفتى ليجد النبي صلی الله عليه و آله لا يزال في انتظاره بمكانه).

ان في هذا الانتظار درس لنا جميعا، لاسيما قادة المسلمين المعاصرين، تُرى هل هم على استعداد لانتظار شخص بسيط لمدة دقائق، أم يتركونه وينسونه في دقائق؟؟، هكذا يعلمنا القائد النموذج الرسول الكريم (ص) أن للجميع قيمة كبرى، وأن الالتزام بالموعد دليل على قيمة عليا للانسان، وهو مؤشر عظيم على التقدم البشري، وقد أخذت المجتمعات المتقدمة اليوم بهذا السلوك في تعاملاتها كافة، فيما تركه المسلمون في تعاملاتهم، فتقدم أولئك، وتأخّر المسلمون.

وللوفاء أوجه كثيرة لا حصر لها، والأهم في هذا الجانب، أن هذه القيمة لا تنحصر في جانب الاخلاق فقط، إنما هي نوع من السلوك الذي يخدم مصلحة الانسان في السياسة، وفي الجوانب العملية الاخرى في الحياة، لذلك حرص القائد النموذج للمسلمين (ص)، أن يكون وفياً لمن آزروه في سنوات المحنة، وقدم ذلك كدرس لا يُنسى لنا ولقادة المسلمين جميعا.

يذكر سماحة المرجع الشيرازي في معرض كلامه عن الوفاء: (لما فتح الله تعالى لرسوله الكريم صلی الله عليه و آله مكّة المكرّمة لم يبق فيها ويترك الأنصار يعودون إلى المدينة لوحدهم، فيكون قد شاركهم مادام في العسرة فإذا تم الفتح تركهم.. بل أمّر على مكّة بعض أصحابه، وقفل راجعاً إلى المدينة بصحبة الأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة، وآووه ونصروه).

وهذا الموقف يمثل درسا في الوفاء لمن يقف الى جانبك أيام العسر، فهل يفعل المسلمون ذلك ويلتزمون بهذا الدرس؟؟ ليس القادة فقط، بل حتى بسطاء الناس مشمولون بهذا الموقف.

الفريد في تاريخ العظماء

يذكر لنا التاريخ، أن هناك قادة عظماء لا مثيل لهم من قبل أو من بعد، وعظمة هؤلاء القادة تكمن في تفرّد مواقفهم التي لا مثيل لها، فيتم تسجيلها بأسمائهم حصرا، وتبقى نموذجا حيا للجميع ما بقيت الحياة واستمر الوجود، ويأتي بعض هذه المواقف من التزام القادة بالوفاء، على الرغم من انهم باتوا يمتلكون سلطة قصوى تجعلهم لا يحتاجون لغيرهم بعد اليوم!.

ولكن العظماء، أوفياء بالفطرة، لا ينسون من وقف الى جانبهم، وساندهم في ايام وسنوات المحن الكبرى، وهكذا كان قائد المسلمين النموذج الأرقى في الوفاء للآخرين، في السياسة وفي الجانب الاخلاقي الانساني الراسخ.

يقول سماحة المرجع الشيرازي حول هذا الموضوع في كتابه نفسه: (على الرغم من أن مكّة كانت مسقط رأسه الشريف، وبلده الذي قضى فيه أكثر من خمسين عاماً، وبلد آبائه، وفيها الكعبة، وأضرحة آبائه وأجداده وآثارهم، وآثار الأنبياء السابقين من آدم، ونوح، وإبراهيم، وإسماعيل عليهم السلام وغيرهم. كل ذلك وفاءً للأنصار. وقال: اليوم بر ووفاء).

ولعلنا اطلعنا على تاريخ الثورات الكبرى وعلى قادتها، وسلوكهم، او على بعض النماذج المهمة من الثورات التي غيّرت تاريخ البشرية، وفي جميع التجارب، كان القادة يحاربون الطغاة من المنفي، وعندما ينتصرون، يعودون الى بلدانهم ويستقرون فيها، لكن ما قام به قائد المسلمين النموذج، النبي محمد (ص)، مختلف تماما، إنه موقف القادة العظماء، وهو الموقف المتفرد من بينهم جميعا.

كما يؤكد ذلك سماحة المرجع الشيرازي في قوله: (هذا هو الفريد من نوعه في تاريخ العظماء والقادة والثوار، فإنهم إذا أخرجوا من ديارهم نتيجة الثورة، فإذا قضوا على الزمرة الظالمة عادوا إلى ديارهم، إلا الرسول صلی الله عليه و آله، فلم يعد إلى مكّة ليبقى فيها، بل رجع إلى المدينة مع الأنصار، وبقي فيها حتى توفاه الله تعالى والتحق بالرفيق الأعلى، ولم يسكن في مكّة المكرّمة، ولم يبت فيها ليلة واحدة).

اضف تعليق