q
بموازاة الفوضى الخلاقة –سياسياً- يجري العمل على فوضى فكرية خلاقة ايضاً في بلاد يُراد لها انعدام الثقة بوجود دولة، وقدرة على إدارة شؤون البلاد والعباد، ثم حاجة شديدة لمساعدة الآخرين على ذلك كما تحدث عن ذلك صراحةً الاميركيون، و بصوت عالٍ إزاء الوضع في العراق بعد...

بموازاة الفوضى الخلاقة –سياسياً- يجري العمل على فوضى فكرية خلاقة ايضاً في بلاد يُراد لها انعدام الثقة بوجود دولة، وقدرة على إدارة شؤون البلاد والعباد، ثم حاجة شديدة لمساعدة الآخرين على ذلك كما تحدث عن ذلك صراحةً الاميركيون، و بصوت عالٍ إزاء الوضع في العراق بعد صدام عام 2003، وافغانستان بعد طالبان عام 2001، رغم تنصّلهم عما جاؤوا اليهم في لحظة الفشل السياسي الذريع، والانسحاب المخزي من افغانستان بأننا "لم نكن بصدد تشييد دولة"!

عدم وجود دولة ومؤسسات دستورية وسياسية لا يكفي للسيطرة على البلاد وتحقيق الطموحات السياسية والاقتصادية ، لأن ثمة دعامة أخرى تكفي الشعب على الأرض لأن تزوده بالقوة والمنعة ما تساعده على تلمّس الطريق نحو تأسيس الدولة ومؤسساته وفق متبنياته وطموحاته، لذا كان لابد من خلق فوضى فكرية وعقدية بموازاة الفوضى السياسية حتى لا يطئمن الناس الى عامل قوة تحميهم من التهديدات الخارجية، وتبقيهم على حالة الشك والقلق والتشاؤم من كل شيء.

"كلمة حق يُراد بها باطل"!

اذا كان من السهل تطبيع الناس على مقولة أن "لا وجود لدولة ولا حكومة" في العراق، فان من الصعب جداً اقناع الناس بأن "لا وجود للدين"، ولا وجود للقيم والتقاليد والاعراف والأخلاق والآداب في مجتمع سابق في وجوده وتماسكه على وجود الدولة المستقلة، متسلحاً بمنظومة قيمية مقدسة ذات جذور "لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها"، وهو من شأنه توفير عامل قوة ومنعة غير طبيعية عصية على أية محاولة للتدجين او الاستغلال مهما كانت، ولا أدلّ على الهبّة الجماهيرية لمواجهة اجتياح تنظيم داعش عام 2014 لمجرد صدور فتوى بكلمات معدودة من مرجع دين، وليس من مؤسسات الدولة ذات الإمكانات الهائلة.

والحل؛ في "فكرة الانقسام التي تساعد كثيراً في السيطرة والتحكم بمقدرات الشعوب والدول، بينما نجد أن تضامن وتعاون ابناء البلد الواحد، او الدين الواحد، او المذهب الواحد، يشكل حجر عثرة في طريق مخططاتهم واهدافهم التوسعية والاستعمارية". (مناشئ الظلال، ومباعث الانحراف- آية الله السيد مرتضى الشيرازي).

ولابد من اتخاذ سبل ذات صبغة شرعية محببة الى النفوس تحقق ما يريدون بشكل لا يستشعر الناس أنه نقيض ما يريدون هم لقاء تفاعلهم مع النظام الديمقراطي الجديد بعد التخلص من نظام صدام، وهو أن يسود الأمن والاستقرار والعدل وسائر قيم الحق والفضيلة.

لذا تقمّصوا قيمتين كبيرتين:

الاولى: الحرية، والثانية: الاختلاف والتعددية

فائدة الحرية في هذا المجال أنها تفتح الابواب على مصراعيها للمطالبة بمختلف اشكال الحقوق، مثل؛ حق التعبير عن الرأي، وحق الانتماء الفكري، الى جانب حقوق المرأة والطفل وايضاً الحرية الفردية التي نادت بها الليبرالية في اوربا طوال قرنين من الزمن.

هذه المفاهيم لا تتعارض مطلقاً مع فطرة الانسان، بل هي من أولى مستحقاته بما يؤكد عليه الدين والنظام الاسلامي، مع الفارق في طريقة الاستخدام، لذا فان هامش المناورة في فهم، ثم الاستخدام يجعل هذه القيمة تحديداً عرضة للتحوير والتغيير دون النظر لأية ضوابط تذكر، متعكزين على فكرة "الاجتهادات"، او "القراءات" التي راجت في العقود الماضية في بعض البلاد الاسلامية.

ويبدو أن التشبث بهذا السبيل جاء بعد فشل اختلاق مذاهب وتيارات فكرية في القرن التاسع عشر مثل البهائية والقاديانية التي انزوت عن الساحة منذ أمد بعيد، ولم تعد ذات تأثير أو وجود إلا من بعض الفعاليات برعاية غربية مباشرة، والسبب الاصطفاف الديني والنهائي للأمة بين السنّة، وما تفرعاتها المذهبية مثل؛ الوهابية والسلفية، وبين الشيعة الإثناعشرية.

و رغم التأكيدات والظمانات من علماء ومفكرين اسلاميين على محورية الحرية في النظام الاجتماعي والسياسي وحتى الاقتصادي، فان التدهور الاقتصادي، والاسقاطات السياسية، والضغوط النفسية، جعلت من الصعب جداً وضع الحرية في إطارها الصحيح لتكون الاستفادة منها بشكل آمن للجميع دون ضَرر أو ضِرار، وهو ما ساعد بشكل كبير على تحقيق الفوضى الفكرية في الساحة الاجتماعية، وأعطت الحق للجميع لأن يجربوا تيارات ومذاهب فكرية مستنسخة من بلاد أخرى على أمل أن تنقذهم من واقعهم السيئ.

نفس الأمر ينطبق على مفهوم التعددية والاختلاف الايجابي الذي أُسيئ فهمه هو الآخر، فيما راح البعض يردد الحديث النبوي الشريف: بأن "اختلاف أمتي رحمة"، لتعزيز صحة تفسيرهم، حتى صارت التعددية في الآراء والأفكار أكبر من العقيدة التي يفترض انها تنتج هذه الافكار والآراء، ليتحول رأي او فكرة ما تمثل عقيدة بحد ذاتها يؤمن بها صاحبها، وهذا ما يشير اليه سماحة آية الله الشيرازي في مؤلفه: "مناشئ الضلال ومباعث الانحراف"، في مثال له عن "حزب الحمير"! وأن "من وراء هذا الحزب أناس يطرحون فلسفة براقة تخدع الناس وتبرر ذلك لعلمهم بأن الناس ألوان و أذواق مختلفة، فلابد من تأسيس احزاب وجماعات و نوادٍ مختلفة تتلائم مع أذواق ونفسيات أغلب الناس، وبذلك تتم السيطرة على مجاميع بشرية كبيرة عبر قيادتها وتوجيهها من حيث تدري او لا تدري".

العنف المُنظم وتبريراته

في البلاد الاسلامية، والعراق تحديداً؛ جرت محاولات لتكريس خيار العنف ليحلّ محل العفو والتسامح، وتحكيم القيم الاخلاقية في التعاملات الاجتماعية، وايضاً في العلاقة بين المجتمع والدولة، واذا كان العنف مرتكزاً في العهود الماضية على خلفيات اجتماعية وأعراف قبلية وعشائرية –وهي ما تزال قائمة- فان اليوم شهدت نوعاً من التطور نحو التنظيم والمأسسة –إن صحّ التعبير- لتتحول الى مصدر قوة مرغوب بها، لحل النزاعات والاختلافات.

وليس خافياً وجود هذه الظاهرة يُعد إفرازاً طبيعياً لضعف وهشاشة الدولة ومؤسساتها، وغياب القانون، لذا تجد لهذه الظاهرة مقبولية بين الناس كونها البديل بين خيارين أحلاهما مُر، او في أقل التقادير الصمت إزاءها، كونها لا تستهدف حياة المواطن مباشرة، كما تفعل الانظمة السياسية الديكتاتورية، بقدر ما تبحث عن مصالح خاصة، كما نلاحظه في تنظيمات المافيا بالعالم، و ايضاً عصابات تجارة المخدارت، بل نجد في البعض دول اميركا الجنوبية اتخاذ الناس من أحد كبار تجار المخدرات كأب روحي ومنقذ لهم من الازمات والملمّات، فهو يمد يد العون والمساعدة للفقراء، ونفس الدور تمارسه المافيات في اوربا و اميركا التي تقوم بالأساس على قاعدة اجتماعية، فهي عبارة عن عائلات متعددة ومتصارعة على المصالح والنفوذ.

ويبدو أن البعض في بلادنا استهوته تجربة هذه النظرية في ظل هشاشة الانظمة السياسية وفشلها في الإدارة والحكم، او انغماسها في الفساد المالي والمحاصصة السياسية، فيتعلم كيف تتحكم جماعات عنيفة بأمن الناس واستقرارهم، كما يأتي سماحة السيد الشيرازي في مؤلفه المشار اليه بمثال من مافيات الغرب بأنهم وصلوا حتى الى المدارس، "فاذا جاء الطالب الى المدرسة وجد عصابتين او اكثر، كلها تدعوه للانضمام اليهم لكي يكون محميّاً من قبل العصابة التي ينتمي اليها، فإن أجاب فعليه الامتثال لما يقولون ويخططون، أما اذا لم ينضم لأي منهما فسيتعرض لمضايقات مزعجة، وقد يكون عرضة الى الخطر، ومن ثمّ لابد أن ينضم الى أحدهما شاء أم أبى".

واذا كانت هذه الظاهرة مسيطر عليها في بلاد الغرب، وحتى في روسيا التي عمّتها المافيات مؤخراً، وهي تعمل ضمن منظومة أمنية ومخابراتية مُحكَمة لا تمسّ الأمن القومي، ولا المصالح الوطنية العليا، فانها في بلادنا ربما تتحول الى رديف لمؤسسات الدولة يلجأ اليها البعض لحل مشاكله والحصول على ما يريد. ومن ثمّ؛ اذا ما تخلّى البعض عن قيمه ومبادئه وتاريخه، وعما يعبّر عنه القرآن الكريم بـ {لباس التقوى خير}، فانه يضيّع بنفسه على نفسه ما يميزه عن الآخرين بتفوق هائل في المجالات كافة مما يسهل على الآخرين من ذوي المصالح الكبرى في العالم لأن يحققوا ما يريدون وسط فوضى فكرية وماء عكر يتقنون التصيّد فيه.

اضف تعليق