q
هل الحديث عن فضيلة التعايش، هو حديث ترفي؟ أم هو من الأحاديث المهمة، التي تحتاج لفتح المزيد من الأسئلة والنقاش المستديم حولها بين أبناء الأمة؟ القرآن الكريم حسم القضية منذ وقت مبكر، بإرسائه دعائم التعايش، عبر إقراره لمشروعية: التعددية والاختلاف في الكون وفي الأمم. فكل هذا الجمال...

تمهيد

قد يثار في البدء سؤال مفاده: هل الحديث عن فضيلة التعايش، هو حديث ترفي؟ أم هو من الأحاديث المهمة، التي تحتاج لفتح المزيد من الأسئلة والنقاش المستديم حولها بين أبناء الأمة؟

وبداهة نقول: إن القرآن الكريم حسم القضية منذ وقت مبكر، بإرسائه دعائم التعايش، عبر إقراره لمشروعية: التعددية والاختلاف في الكون وفي الأمم. فكل هذا الجمال الذي نلحظه في الطبيعة من حولنا، هو وليد لحالة الاختلاف والتمايز، ففي اليوم الواحد، نبصر الليل والنهار، والشمس والقمر! فالطيف مبهرٌ بتنوُّعهِ، ومن يعمل لصهر الكل في بوتقة واحدة، فإنه كمن يحاول نحت لوحة فنية بديعة في الماء! وأنى له ذلك؟ إلّا أن يُجمِّد الحياة، ويحيلها إلى سكون محض!!

فالبشر يختلفون في: الأديان، والمذاهب، والثقافات، واللغات، والألوان، و...إلخ، ولذلك خلقهم!

فالله خلقنا شعوبًا وقبائل؛ لنتعارف، لا لنتقاتل، ولا لكي نُكره الآخر على الإيمان بما نؤمن به، إذ: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}[البقرة: 256]، فلكلٍ دينه، ولكلٍ مذهبه وقناعاته، {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}[يونس:99]. وغاية ما يمكننا قوله لمن لا يتفق معنا: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}[الكافرون:6].

فالنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) بشير ونذير للعالمين، وليس من وظائفه أبدًا، إجبار الناس على الإيمان بنبوته، وربما لا يتجاوز دوره تذكير البشرية بخالقها ورازقها، فهو بتعبير الآية الكريمة «مُذَكِّرٌ»، ولا يمتلك سلطة تُخَوِّلُهُ السيطرة على الناس وعلى عقائدهم: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ}[الغاشية:21-22].

ونؤكد هنا أن الحديث عن تحقيق مبدأ التعايش في الأمة، هو في الضمن حديثٌ لتأكيد المطالبة بتحقيق: العدل، والمساواة، وإعطاء كل ذي حقٍّ حقهُ.

البغضاء أم الكراهية؟

ارتأى مُعِّدُّ هذه الورقة أن يستخدم مفردة «البغضاء»؛ لأنها اصطلاح قرآني، نقرؤه في عدد من الآيات الكريمة؛ قد يفوق من حيث الاستخدام العددي مفردة «الكراهية»، التي استخدمها القرآن -على سبيل المثال- عند الحديث عن كراهية الرجال إلى النساء، فنقرأ، قول الحق -سبحانه وتعالى-: {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا}[النساء:19]. كما أن القرآن الكريم، استخدم مصطلح «البغضاء»، حرفيًّا، فقد جاء في سورة المائدة: {وَمِنْ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمْ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}[المائدة:14].

وكما سَيَتَّضِحُ بعد قليل أن مفردة «البغضاء»، بها من السعة والشمول الكثير، خلافًا لمفردتي: «العداوة» أو «الكراهية»، ولهذا قد يأنس الكاتب هنا، باستخدامه لمفردة «البغضاء».

يقول محمد الطاهر بن عاشور في تفسيره التحرير والتنوير، إنّ: «العداوَة والبغضاء اسمان لمعنيين من جنس الكراهية الشديدة، فهما ضدّان للمحبّة. وظاهر عطف أحدِ الاسمين على الآخر في مواضع من القرآن... أنَهما ليسا من الأسماء المترادفة... والذي أرى أنّ بين معنيي العداوة والبغضاء التضادّ والتباين؛ فالعداوة كراهية تصدر عن صاحبها: معاملة بجفاء، أو قطيعة، أو إضرار، لأنّ العداوة مشتقّة من العدو وهو التجاوز والتباعد، فإن مشتقات مادة ( ع د و) كلّها تحوم حول التفرّق وعدم الوئام. وأمّا البغضاء فهي شدة البغض، وليس في مادة (ب غ ض) إلّا معنَى جنس الكراهية... فالبغضاء شدّة الكراهية غير مصحوبة بِعَدوٍّ، فهي مضمرة في النفس. فإذا كان كذلك لم يصحّ اجتماع معنيي العداوة والبغضاء في موصوف واحد في وقتٍ واحد فيتعيّن أن يكون إلقاؤهما بينهما على معنى التّوزيع، أي أغرينا العداوة بين بعض منهم والبغضاءَ بين بعضٍ آخر».

ويقول صاحب الأمثل: «ويحتمل أن يكون الفرق بين الكلمتين المذكورتين هو أنّ لكلمة «بغض» طابع وجداني أكثر ممّا هو عملي، كما في كلمة «العداوة» التي لها طابع عملي، وقد يكون لكلمة «بغض» أو «بغضاء» مفهوم أشمل يستوعب العملي منه والقلبي الوجداني».

أما مصطلح التعايش فنعني به اختصارًا: أن يقبل كل طرف منّا الآخر، بما هو عليه، ليتعايش أبناء المذاهب الإسلامية -أو الثقافات المختلفة- مع بعضهم بعضًا اتكاءً على حالة من السِّلم الأهلي، محتفظين بذلك على اختلافاتهم، مع إيمانهم بمبدأ التعدد، الذي لا يُقْصِي إرادة أحدٍ من أبناء الأمة.

التقارب أم التعايش؟

للإنصاف؛ فإن المبدئيين من دعاة التعايش -إن صح التعبير- يؤمنون بأن ما يُقرِّب بين أبناء الأمة الإسلامية أكثر مما يفرقهم، إذ إنهم يتفقون على الأصول الكبرى في الإسلام؛ فهم يؤمنون بإله واحد، ورسول واحد، وقرآن واحد، وقبلة واحدة، و...إلخ. ولا أدري لماذا نعمد مع كل هذا لزعزعة مقولة التقارب بين الطائفتين؟

أجل، قد لا يميل البعض لفكرة نحت مصطلح «التقارب بين المذاهب»، بدعوى أن التقارب يعني ذوبانها مع بعضها؛ ليتلاشى -فيما بعد- الاختلاف، وهذا غير ممكن على الإطلاق! {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ، إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}[هود:118-119]، ودعاة التقارب أصبحوا يعون أن دعوتهم، هي دعوة إلى التقارب بين أبناء المذاهب، لا المذاهب بعينها؛ ليكون مثلهم، كمثل الجسد الواحد.

ولا ضير أن يدعو عقلاء الفريقين للمسألتين معًا -أي للتقارب والتعايش-، فما يهمنا هو العمل على تجسير الفجوة بين المسلمين، وليس مهمًّا العنوان الذي يجمع شملنا الممزق، لدرجة أصبحنا نعيش فيها بطريقة: «اليَدُ اليُمنى -بما تنوي- على اليُسرى تَكَتَّم»! كما يقول الشاعر العراقي السيد مصطفى جمال الدين.

فدعاة التقارب -إذًا- لا يدعون لصهر الطائفتين في قالب واحد، بل دعوتهم تتمحور في لَمِّ شمل الأمة، مع الاحتفاظ بخصوصية كل مذهب. فلا مسوّغ لتقارب لا تتضح فيه هويّة واضحة لأيٍّ منّا. والجميل في الأمر أن دعاة التقارب تجاوزوا الفكرة، وراحوا يطالبون بترسيخ مبدأ (الإخاء) بين المسلمين، منطلقين في ذلك من هدي القرآن الكريم الذي يجهر بمقولة: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}[الحجرات:10]. فأبناء المذاهب الإسلامية -إن كانوا يُصِرَّون على تمسكهم بتعاليم القرآن- فيفترض، والحال هذه، أن يتعايشوا كإخوة، وهذه دعوة القرآن التي ينبغي أن نرقى إليها جميعًا؛ وإلاَّ فإن إيماننا يعتريه الخلل والنقص!

ومن يتأمل الآيات القرآنية يلحظ -كما يقول السيد محمد الشيرازي- أنها سمَّت الكفار إخوة الأنبياء، والأنبياء إخوة الكفار، كما سمى الله سبحانه النبي هوداً أخا قومه عاد: ﴿وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ﴾[الأحقاف:21]، و﴿وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا﴾[الأعراف:65]. وهذا الإخاء الوارد في هذا الصنف معناه لزوم العمل بمصاديق الأخوة العامة، فالإنسان أخٌ لبني نوعه، مهما كان الفرق بينهما في الدين واللغة والعرق واللون والوطن.

إذًا، ينبغي للإنسان المسلم أن يتعامل مع الناس كافة، على أساس أنهم إخوة، وهو الذي عبر عنه الإمام علي في وصيته لمالك الأشتر، لمّا ولاه على مصر: «فإنهم صنفان: إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق». وتعليقًا على هذا المقطع يقول الشيخ محمد جواد مغنية: «على الإنسان ألَّا يعتدي ويسيء إلى أخيه الإنسان بشيء، وأن ينصفه من نفسه، ويكون عونًا له على ظالمه سواء أكان على دينه أم على دين الشيطان».

وجميل أن ننطلق ونحن نؤسس لأطروحة التعايش من المقولة المبدئية التي عمل بها الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، فهو رغم نبوته وصدق دعوته، قد انطلق في حواراته مع المخالفين وفق قاعدة: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ}[سبأ:24]. ولو عملنا بمنهجيتها هذه؛ لأمكننا أن نتعايش بطريقة حضارية مع الجميع.

فإذا كان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في حواراته مع المشركين، ينطلق وفق هذا المبدأ! فما بالنا، ونحن أبناء دين واحد، لا نعذر بعضنا فيما اختلفنا فيه؟

فعليه «يجب على الإنسان المتحاور أن يخرج من ذهنه المسبقات فلا يزعم أنّ كلّ الحق معه، وعدّوه على باطل تمامًا».

وأشاطر هنا «كارل بوبر»، رأيه إذ يقول: «يتعين علينا الإصغاء إلى الآخرين، والتعلم من الآخرين، وخاصة من خصومنا، إذا ما كنا راغبين بشكل جدي، في الدنو من الحقيقة أكثر، أو في اكتشاف أسلوب للعمل يكون في مكنتنا اتِّباعه».

فالحوار فن يجب علينا إتقانه، و«من هنا دأب الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) والعلماء على فتح باب الحوار مع كل الأطراف، وفي بحار الأنوار -باب الاحتجاجات- يجد الإنسان الشيء الكثير من هذه الحوارات البنّاءَة التي كان يديرها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) مع أعدائهم».

وبداهة إن دعاة التقارب، هم دعاة تعايش؛ فلا تقارب؛ إلا بمبدأ التعايش، ولا تعايش، إلا بمبدأ التقارب. فهما -حسبما أفهم- وجهان لعملة واحدة.

فالإسلام دعا لفكرة التعايش نظريًّا، بل طبقها عمليًّا بجدارة، ويكفي أن نستمع لمقولة الإمام محمد الباقر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام) إذ يقول: «صلاح شأن الناس التعايش»؛ فنجد هنا تأصيلاً مبكرًا للفكرة، من داخل المدرسة الإسلامية.

بل إننا نجد في السيرة النبوية نهجًا عمليًّا بينًا، يشرعن للتعايش بين المسلمين واليهود والمسيحيين، ومن يقرأ السيرة النبوية يجد الكثير من العهود والمواثيق المُفَصَّلَة التي أمر بِسَنِّها رسولنا محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لترسيخ مبدأ التعايش بين الأديان المختلفة داخل المجتمع الإسلامي، وكان من جملة اشتراطاته عليهم أن يمتنعوا عن حربه ومعاونة أعدائه؛ ليعيشوا بعد ذلك في رغدٍ من العيش، كغيرهم من المسلمين، إلَّا أن بعضهم نقضوا العهد وتحالفوا مع أعداء الرسالة، فتم طردهم من المدينة.

ومما يبعث على الأسف أن نجد في السيرة النبوية، والنصوص الدينية، مواقف إنسانية رائدة، ومقولات عظيمة تحوي خير الدنيا والآخرة، وفي المقابل نجد واقعًا إسلاميًّا يكتوي بنار التناحر والقطيعة والفرقة!

وبالرغم من تغنِّينا بالحديث المعروف القائل بأن «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم، كمثل الجسد، إذا اشتكى بعضه تداعى سائره بالسهر والحمى». إلاّ أننا استجبنا لمكائد أعداء الإسلام، حينما تعاملوا معنا بدهاء، وفق مبدأ «فرق تسد»! وهذه مفارقة عصيّة على الفهم، فنحن نقرُّ بالهدي النبوي، على المستوى النظري. ولكنّا، عمليًّا، نستجيب لنداء الشيطان، بل نتفوّق عليه في تأجيج نار البغضاء تجاه بعضنا بعضاً! لذا قد يحقّ له أن يصرخ فينا قائلاً: {وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ}[إبراهيم:22]، {وَلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ}[ص:3].

كيف عالج القرآن ثقافة البغضاء؟

ومن اللافت أن القرآن الكريم يضع لنا قواعد مهمة يشير فيها للطرق المطلوبة في التعامل مع غير المسلمين، ومنها هذه القاعدة، إذ يقول -سبحانه وتعالى-: {لاَ يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ}[الممتحنة:8]. فإذا كانت دعوة القرآن بهذه المنهجية، والأسلوب الحسن الحكيم مع العدو، فهل يعقل أن تتحول إلى شرٍّ مستطيرٍّ مع أبناء الدين الواحد؟ فما بالنا لا نرعوي؟!

ففي سورة آل عمران نقرأ قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ، وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ المُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ المُفْلِحُونَ، وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[آل عمران:103-105].

ونستلهم من وحي هذه الآيات أهمية:

1- الاعتصام بحبل الله أولاً، وعدم الانجرار لدهاليز التفرقة، بعد أن أكرمنا الله -سبحانه وتعالى- بأن جعلنا إخوانًا، بناءً على قاعدة الدين، وهي الرابطة الأقوى والأهم.

2- أن تنبثق في أمتنا جماعات تعمل بشكلٍ جاد للدعوة إلى الخير، بتأصيلها لثقافة القبول بالآخر، وجعل هذا الأمر خيارًا استراتيجيًا. فالخطر قد يهدد أي مجتمع أو أمّة لا ترسخ على المستوى الاستراتيجي، بين مكوناتها المختلفة، ثقافة قبول الآخر، وإمكانية التعايش معه، بناءً على قاعدتي: العدل والمساواة.

ولا يخفى أننا سنجد «في المقابل، هناك ثقافة سلبية تقوم بنشر ثقافة الكراهية والحقد بين الناس، وتضخيم نقاط الاختلاف المحدودة، والتعتيم على مساحات الاتفاق الواسعة، وتشتغل بالتعبئة والتحريض، تحت عناوين مختلفة: عِرقية أو مذهبية أو قَبَلية».

والمطلوب في مجابهة هذه الثقافة أن نبشِّر بمنهجية: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا}[الإسراء:53].

وأيضًا: {وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[الأنعام:108].

ومن المهم أن نسترشد بالثقلين -بعد أن هدينا بالبينات- في اجتراح الأساليب المثلى لمعالجة هذا الداء العضال، «فالاختلاف مهما كان حجمه، لا يشرع للحقد والبغضاء وممارسة العدوان الرمزي والمادي، بل يؤسس لضرورة الوعي والمعرفة بالآخر. وعيًا يزيل من نفوسنا الأدران والأحقاد والهواجس التي تسوغ لنا بشكل أو بآخر معاداة المختلفين معنا».

أفكار قرآنية لمجابهة البغضاء وتأكيد خيار التعايش

ربما تنتاب البعض منّا لحظات غضبٍ وانفعال، تجعله يكفر بمشروع التعايش والتقارب مع الآخر، نظرًا لمواقف حادة تصدر من بعض الرموز المحسوبة على خط الاعتدال أو تياره! وهذا الخيار لا ينجرّ إليه العقلاء والواعون أبدًا.

وبطبيعة الحال فإن دعاة التعايش ليسوا سواء؛ فبعضهم لا يقدرون على التأقلم حتى مع أنفسهم، وهذه الفئة (المزيفة) دخيلة على الطرح والمصطلح؛ لذا نحن لا نعوِّل على من لا يبصر أبعد من أرنبة أنفه.

وكما أسلفنا القول عن أصالة وتقعيد مفهوم التعايش، نظريًّا وعمليًّا، في الدين الإسلامي الحنيف، من خلال الاهتمام البارز في نصوصه المقدّسة، من آيات قرآنية ومتون روائية وأقوال وحكم شريفة، فإنه يمكننا الوقوف على عدد غير قليل من الأفكار القرآنية التي تدعو، ضمنًا أو صراحة، إلى تبنِّي خيار التعايش ونبذ نقيضه، نذكر من تلكم الأفكار:

1- الميثاق في وجه البغضاء

ثقافة البغضاء قد تنشأ من الغرور بالنفس، فقد قال الشيطان ذات يومٍ معلِّلاً رفضه السجود لآدم: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ}[الأعراف:12]، وقد نكرر السلوك نفسه بقول أحدنا: أنا خير منه، أنا شيعي المذهب، ليرد الآخر: أنا خير منه، أنا سني المذهب! ونقضي حياتنا في صراعٍ يُديره الشيطان؛ بخيوطه، وكأننا أحجار على رقعة الشطرنج!!

ولأن البغضاء داءٌ مكتسبٌ، يرتبط بالأنفس، لذا قد يجد المصلحون صعوبة جمّة وهم يعملون من أجل إزالة مسبباتها من أنفسٍ بشرية تركن إلى الأرض والشهوات! فهي حرب مستمرة بين الإنسان وأخيه الإنسان إلى يوم القيامة، ونقرأ ِإشارة لهذا المعنى في القرآن الكريم، في قوله تعالى: {وَمِنْ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمْ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}[المائدة:14]. ومع تأكيد هذه الحقيقة القرآنية، إلّا أننا لا ينبغي أن نركن لليأس والقنوط، فإن غيّرنا ما بأنفسنا، فبمقدورنا أن نتخلص من هذه الأمراض المستعصية! وهذا وعد الله لنا، بشرط ألَّا ننسى العمل بما أمر به، وإلَّا فمصيرنا الخسران المبين.

والذي نفهمه من خلال تأملنا في الآية الكريمة أنها تؤكد أهمية وجود الميثاق في الأمة، لكي يتحقق التعايش السلمي بين أبنائها، بعد أن يتفقوا على مجمل النقاط المشتركة التي تجمعهم، وهي لا تُعَدُّ ولا تحصى. وقد يتفق العقلاء في كل مكان على أنه لا توجد مشكلة في اختلاف الرؤى والتصورات، ولكن المشكلة تكمن في عدم وضع قواعد وأسس سليمة يُتفق عليها؛ ليسير الجميع بأمان في مركبة واحدة تجمع المؤتلف والمختلف!

وحول الآية السالفة يشير السيد محمد تقي المدرسي في تفسيره «من هدى القرآن»، قائلاً: «ولأن البشر حين يتبعون أوهامهم وشهواتهم ومصالحهم فإنهم يختلفون فيما بينهم بسبب اختلاف الأوهام والشهوات والمصالح من طائفة لأخرى بل من شخص لآخر، لذلك فقد اختلف النصارى وانتهت حياتهم إلى جحيم».

ويقول في مورد آخر: «إن التزام الأمة كلها بالميثاق يوحدها، ويصبح الميثاق بوتقة تصهر خلافتها ومصالحها، فإذا تركوا الميثاق عادوا إلى الخلاف الأبدي، وليس هناك ما يوحد الناس مثل الالتزام بميثاق واحد. {وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمْ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}، لأن الله مهيمن عليهم، يحصي أعمالهم، ويسجلها ليحاسبهم بها في يوم القيامة».

ويطرح صاحب «تقريب القرآن إلى الأذهان» سؤالاً لطيفًا يقول: كيف يكون الإغراء إلى يوم القيامة، وفي زمان المهدي (عليه السلام) الكلُّ يُسلم وجهه إلى الله؟ ثم إن يوم القيامة إنما يكون بعد موت الناس؟ والجواب إن هذا معناه: بقاء العداوة ما بقوا، يُعبّر ذلك عن استمرار الشيء إلى الآخر.

وحول مفردة «فأغرينا» في الآية يسترسل السيد محمد حسين فضل الله قائلاً: «وذلك من خلال المنازعات العقيديّة التّي تحولت -في التاريخ- إلى أنهار من الدماء من خلال الحروب المذهبيّة، التّي كانت أشدّ قساوة من حروبهم مع غيرهم من أتباع الأديان الأخرى... بحيث لم تعد النصرانية موقع وحدة بل تحركت لتكون موقع خلاف يوحي بالتعقيدات النفسيّة والشعوريّة والثقافيّة التّي تثير العداوة والبغضاء، لتمتد بهم امتداد الزمان... ولعلّ هذا ما يتمثَّل في واقع المسلمين اليوم الَّذين التصقت بهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة، لأنَّ المذهبيّة الطائفيّة تحولت إلى حالةٍ في الواقع لا يفكر أي فريقٍ في داخلها بالتحوّل عنها إلى الجانب الآخر».

«ومن أبعاد التكلف في الدين، التشدد في مظاهره على حساب روحه وقيمه، فقد جاء في حديث عن روح الله عيسى بن مريم (عليه السلام)، مخاطبًا علماء اليهود المهتمين جدًّا بالمظاهر على حساب القيم، قائلاً: «يا عبيد الدنيا تحلقون رؤوسكم، وتقصرون قمصكم وتنكسون رؤوسكم، ولا تنزعون الغل من قلوبكم».

وقبل أن نغادر هذه المحطة أودُّ الإشارة إلى مقطع لافت، في الآية الكريمة: {وَمِنْ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى}.. فهي مقولة -كما يشير المفسرون- لا تتجاوز ألسنتهم! فمن يدعي أنه نصراني يلزمه أن يمازج بين إيمانه وسلوكه. وفي واقعنا الإسلامي أيضًا، قد نشهد الادّعاء نفسه، فنجد من يدّعي أنه حريص على مصالح الأمة وهو في الحقيقة حريص على مصالحه الشخصية.

ولسوء الحظِّ فإنّ «لبعض النفوس طبيعة تختزن ماء الكراهية، وتستدعيه من ماضٍ. بعيد، وهذا المخزون قريب من السطح يتفجر ويتدفق عند أول ضربة معول، أو إزاحة طبقة رقيقة من تراب، لذلك صار اختلاف المذهب، بل واختلاف المدارس في فهم نص أو الوثوق بصحته بين أتباع المذهب الواحد سببًا كافيًا لبذر الكراهية والنزاع، وكما يتفرع الدم في شرايين الجسم وأوردته إلى أدق الشعيرات الدموية فيه، تعددت وتشعبت عوامل الكراهية ودواعيها فلم تقتصر على المفارق في الدين بل فرقت بين أصحابه وتشعبت فشملت طوائفه ثم دقت حتى فرقت بين أبناء الطائفة الواحدة، وكان لهذه الفرقة جذور قديمة انتشرت في بلاد المسلمين فأورقت ذلك النبات الشرير».

2- إرادة وجه الله والدفع بالحسنى

فمن يُرِدْ وجه الله -سبحانه وتعالى- فإنه يُصَبِّر نفسه، متجرعًا الغصص والآلام، والكثير من الكلام السيئ الذي قد يصوَّب نحوه، ممن تنتابهم حالة الحماسة في الأمة، خاصة ونحن على علم، أن مَنْ شأنه هكذا فقد لا يكتفي ببثِّ الكلام الفاحش في الأوساط الاجتماعية، بل تجده يسدد طعناته للرموز الحريصة على مصلحة الأمة، كما فعل رمز من رموز الجهل مع سيِّد شباب أهل الجنة الحسن بين علي (عليهما السلام)، حين طعنه في فخذه بخنجره، المليء جهلاً وحقدًا، وهو يحسب أنه يُحسن صنعًا بعمله الدنيء هذا!

وحين نقرأ قول الحقّ -سبحانه وتعالى-: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ}[الكهف:28]، فربما استلهمنا درسًا عميقًا في هذا المعنى، لرجال لم تُسيِّرهُم الأهواء والعواطف. وقد يكون هؤلاء ممن قيل في شأنهم: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}[فصلت:35]. فهم على درجة عالية من الوعي والإيمان، لذا فهم محصنون من الغرق في وحل الأهواء الآنية، والتصفيقات الوهمية، الصادرة من رجالٍ تُسَيِّرُهُم عواطفهم الخادعة.

لهذا يقول أحد الباحثين: إن «ما هو في متناول عموم البشر فهو المعاملة بالمثل حيث يُردُّ على الاحترام باحترام مماثل، إلا أن العيب في أخلاق المعاملة بالمثل أن الكراهية، في المقابل، سيردُّ عليها بكراهية مضادة. فالكراهية إذن، حركة دورية لا تستطيع أخلاق المعاملة بالمثل كسرها. ولكسر دورة الكراهية المتبادلة فإننا بحاجة إلى أخلاق المعاملة بالتي هي أحسن، وإلى روح المبادرة بالإحسان واحترام الآخرين ومراعاتهم بحيث يكون الواحد منا قادرًا على المبادرة بالرد على الكراهية التي تستهدفه باحترام قد يكون صعبًا وشاقًا على النفس، إلَّا أنه ضروري لتبدأ دورة الاحترام المتبادل. وعندئذٍ يمكن للاحترام أن يقاوم الكراهية ويقهرها».

ولن تجد أبلغ من القرآن وهو يتحدث عن هذه القيمة، إذ يقول عزّ من قائلٍ: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}[فصلت:34].

وفي حديث للرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم): «صل من قطعك، وأحسن إلى من أساء إليك».

3- لنبتعد عن لغة الشتائم

ومن الأمور الجديرة بالتأمل أن الإسلام ينهى عن جرح مشاعر أتباع الديانات الأخرى؛ لأن ردة الفعل الطبيعية ستكون سب مقدسات المسلمين: {وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ}[الأنعام:108].

وهذه رؤية قرآنية دقيقة، تُشَخِّصُّ حالة أصحاب أي دين أو معتقدٍ، عندما يتعرضون لسبٍّ أو تجريحٍ، لما يؤمنون به. فإذا كان القرآن ينهانا عن سبِّ من يدعون من دون الله، فهل يقبل منا نحن أبناء الإسلام أن نشتم أو نسبَّ بعضنا بعضًا؛ نتيجة قصورٍ أو جهلٍ أو عدم اطِّلاعٍ على أفكار الآخر الذي قد نختلف معه في الساحة الإسلامية؟

كلا، القرآن لا يأمر بذلك، بل يوجه الإنسان إلى أن يستمع إلى الرسالة الموجهة إليه، ومن ثمَّ، يقوم بنقدها، فإن وجد ما استمع إليه صحيحًا أخذ به وتبناه، وإن رآه خاطئًا رفضه وما ابتغاه. وهناك دعوات قرآنية كثيرة بهذا الخصوص تدعم هذه الفكرة، منها قوله تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِ، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمْ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ}[الزمر:17-18]. فالقرآن يوجه لنا دعوة مفتوحة للاستماع والقراءة؛ والذي أفهمه من هذه الآية الكريمة أنها توجهنا إلى الاستماع للجميع، بمعنى أن نكون منفتحين على الثقافات، وعالم الأفكار من حولنا، ولكن بقيدٍ ضروري حتى نحافظ على توازننا فلا نقع في حفرٍ عميقة! والقيد الذي أقصده هو تحليل الفكرة ومحاولة نقدها لا أخذها على عواهنها، كما يحلو ذلك للبعض! خصوصًا عندما يفتقدون للبوصلة؛ أو يتناسون كفَّتي الميزان.

4- لا لحسد المؤمنين والمنافسين

سلوك البغضاء قد ينشأ بسبب حسدنا للآخر الذي يُحسِنُ صُنْعًا، فيما نحن لا نُقَدِّم شيئًا ذا قيمة في هذه الحياة. «وفي أحيان كثيرة، لا نستعدي الآخر، لأنه شرير أو ظالم أو معتدٍ، بل لأنه ناجح أو متفوق، أو لأننا نعجز عن مضاهاته واللحاق به، أي لقصورنا أو لعلة في النفس الأمارة».

والقرآن يحكي لنا هذا المعنى في قصة {ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنْ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ المُتَّقِينَ}[المائدة:27].

فما كان من قابيل إلَّا أن قتل أخاه، ليصبح بعمله هذا مرتكباً لأول جريمة قتل في التاريخ. وأثناء قراءتنا لهذه الآية الكريمة نشيد بموقف هابيل المتسامح ونشجب موقف قابيل الدموي العنيف. ولكن، ماذا لو كنا نحن في موقفٍ كهذا؟ هل سنُجيب كما أجاب هابيل أم سنُشمر عن أيدينا للقتال كما فعل قابيل؟

أعتقد بأننا سنُشمر عن أيدينا للقتال، خاصة إذا كنا في موقف قوة، بالرغم من أن القرآن أنزل للتطبيق وحكى لنا القصة لنتمثل دور هابيل لا دور قابيل!

نعم، قد يحفظ الكثير منا عن ظهر قلب مواقف رسولنا الكريم محمد بن عبدالله (صلى الله عليه وآله وسلم) مع أعدائه والتي تجلّت فيها أسمى صور التسامح، فمن منّا ينسى موقفه المتسامح مع (وحشي) قاتل عمه حمزة؟

ومن منا ينسى موقفه مع مشركي مكة عندما فتحها؟

لكن السؤال هنا: هل نتمثل نحن مواقفه الشريفة ونحاول الاقتداء به؟

فحين تغيب التقوى ومخافة الله، تتأجج في أنفسنا البغضاء التي قد تتفاقم من حالة قلبية معنوية إلى حالة فعلية مادية، تتمظهر في أقسى صورها، حين نجنح لتصفية الخصم، بدلاً من محاورته بالتي هي أحسن، أو اقتفاء أسباب نجاحه.

5- لا تظلم كما لا تُحِبُّ أن تُظلم

البغضاء المتأججة في نفوس قومٍ تجاهك، لا تسوغ لك ظلمهم وبخسهم حقوقهم، ففي سورة المائدة نقرأ قوله تعالى: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}[المائدة:8]. بل نقرأ في آية سابقة من السورة نفسها قوله تعالى: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنْ المَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}[المائدة:2]، فحتى من سبق له أن منعكم عن المسجد الحرام فترة من الزمن، لا تعتدوا عليه، بالاقتصاص منه!

«فالأمة يجب أن تكون عادلة حتى مع أعدائها، ولا تنمو فيها الحساسيات العدائية ضد هذا أو ذاك، ولا تنجر وراء هذه الحساسيات في سلب حرية الأمم الأخرى ونهب خيراتها... فالعدل هو أقرب وسيلة لتحقيق مرضاة الله، واتقاء عذابه، أما الظلم فهو أقرب طريق إلى النار».

ويرى البعض «أنَّ إقامة المجتمع الإسلامي على مبدأ العدالة يصون الحرية ويحميها من العدوان. فالعدالة تصلح ضمانة للحرية، والحرية لا تصلح ضمانة للعدالة».

6- لا تبخس الآخرين حقوقهم

يقول سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ}[المائدة:91]. ويمكن أن نستفيد من هذه الآية فيما يرتبط بحديثنا ومن خلال مفردة (الميسر)، كيف أن الإنسان الخاسر تتأجج في نفسه البغضاء تجاه من يظلمه ويبخسه حقه، وإن كانت الإشارة هنا للميسر، إلَّا أننا سنجد تشابهًا، في الأسلوب الذي يتوسَّل طريقة اللعب على الآخرين والانتفاع بما هو حق لهم، وإن كانت الحيلة في أمر الميسر تتم برضا الطرف الخاسر، إلَّا أنها فيما يرتبط بحرمان الآخرين من حقوقهم وحرياتهم تتم بالإكراه!

فالبخس والحرمان يوجدان حالة من البغضاء والضغينة في النفوس، وهي بمثابة النار المشتعلة تحت الرماد، فربما لا نبصرها، ولكنها، تنتظر اليوم الذي تشتعل فيه؛ لتثأر ممن حرمها مما تستحق!

7- لا لتزكية النفس

عندما نبحثُ عن مصاديق لواقع الحال المرضيّة التي نعيشها في مجتمعاتنا الإسلامية، قد لا نجد عناءً كبيراً ونحن نتحدّث عن ابتعادنا عن روح القرآن الكريم وتعاليمه، ولعلّ مسألة (تزكية النفس)، هي خير مصداق لمخالفتنا للهدي الإلهي، فمع أن القرآن الحكيم ينهانا عن ممارسة هذا العمل الذي يعكس حالة سلبية يعيشها الإنسان المسلم؛ إلَّا أننا نجد أنفسنا في معظم الحالات؛ نمارس فعل التزكية في كل صغيرةٍ أو كبيرةٍ، سواءً كان ذلك في قولٍ ننطقهُ أو فعلٍ نصنعهُ! والمشكلة «أننا نعشق ذواتنا، فكل واحد منا يعتقد أن الحل الصحيح والوحيد هو ما وجده، وأن الآخرين جميعًا على الضلال».

وتبعًا لذلك، نحسب أن مشاريعنا هي: الأفضل، والأجود، والأرقى، والأزكى، بينما جهود الآخرين هي خلاف ذلك تمامًا. وهذه فكرة شيطانية تستحوذ علينا لنصبح ممن ﴿يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾[النور:21]، بسقوطنا في فخّ العُجب الذي نصبه لنا بإحكام.

يقول سبحانه وتعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلْ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً﴾[النساء:49]. هذه الآية تبدأ باستفهام تعجبي للرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، كما يذهب المفسرون، وهي تتحدث عن: اليهود والنصارى، إذ كانوا يمتدحون أنفسهم بالنزاهة والتطهير، متوهمين أنهم أبناء الله وأحباؤه؛ وأنهم وحدهم من يدخل الجنة! {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى﴾[البقرة:111]. والصورة خلاف ما يزعمون تماماً، فالله -سبحانه وتعالى- هو الذي يغفر لمن يشاء، أو يُعذِّب من يشاء، ولا يظلمون فتيلًا.

8- البشرية من نفس واحدة

وهذه لفتة قرآنية حسمت جدلاً مستمرًا ينفي المقولات العنصرية التي تتشدق بها بعض الثقافات الوضعية، إذ يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً}[النساء:1].

وحول هذه الآية يقول طه جابر العلواني: «القرآن الكريم لم يعلمنا أننا منشطرون إلى ذات وآخر، بل إننا جميعًا خلقنا من نفس واحدة، وخلق الله سبحانه وتعالى الشعوب والقبائل من هذين الأبوين، وبالتالي فما ينبغي أن يكون، هناك ما يشي بثنائية يمكن أن تمهد للانقسام، بل لا بد للبشرية أن يذكِّر بعضها البعض على الدوام بوحدة الأصل، وبوحدة المصير، وبالتكافؤ التام... ولا بد لنا من التحفظ على فكرة الآخر، فليس هناك آخر لا على المستوى الداخل، ولا على المستوى الخارجي، بل البشرية كلها إنما هي أسرة واحدة ممتدة».

ومن الطريف أن العالم الفرنسي جورج لويس بوفون (1707-1788) قد قال: إن الجنس البشري كان «وحدة» واحدة، ومع أن بعض البشر كانت لهم أشكال مختلفة عن الآخرين إلّا أن هذا حدث بسبب العوامل المحيطة مثل المناخ. وتعلّق دوريندا أوترام قائلة: «كان من الصعب أن يكون جهد بوفون موضوعًا مستساغًا من قِبل أي شخص كان يتمنى أن يُقال إن السود الأفريقيين أو الهنود الأمريكيين كانوا مختلفين بصفة أساسية عن الأوروبيين أو أنهم في درجة أدنى منهم». ويعتبر البعض هذا الرأي فتحًا عظيمًا لعصر التنوير لاعتماده الصفة الإنسانية عند البشر!

فالبشرية سواء، وكرامة الإنسان بعمله وتقواه، لا بشيءٍ آخر، يقول سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}[الحجرات:13].

وهذه «المعرفة تحمّل الإنسان مسؤولية الاعتراف، فمن عرف شيئًا ثم لم يعترف به فقد أنكره. والاعتراف بالشيء أو بالشخص يعني الاعتراف بوجوده وحقوقه، وتنظيم حياة العارف حسب ذلك الوجود وتلك الحقوق... وهكذا فإن المعرفة تحمّل صاحبها المسؤولية. والتعارف معرفة متبادلة، واعتراف متبادل، واحترام متبادل».

«ووحدة الإسلام هي التي بدأت بها مسيرة جعل الآخر جزءاً من الذات الدينية، فقرر للآخرين ذات الحقوق، وذات الواجبات، في الدولة، والأمة... وبنص عبارة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، في عهده لنصارى نجران، وكل من ينتحل دعوة النصرانية: «فإن لهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين، وعلى المسلمين ما عليهم، حتى يكونوا للمسلمين شركاء فيما لهم وفيما عليهم».

ونتيجة لذلك نقول: إن المطلوب من الدولة أن تُعطي المواطن حقوقه كاملةً غير منقوصة، ولتطلب منه بعد ذلك القيام بواجباته.

فالمشتغلون على مشروع التعايش في الأمة:

1- يؤسسون تأسيسًا سليمًا لمبدأ «تعارف المذاهب»، فمن لا ينفتح على فكر الآخر أو يتواصل معه، فلن يقبض على المفاتيح التي تعينه على فهمه بطريقة صحيحة.

2- يرسخون في واقع الأمة تحقيق مبدأي: «العدل والمساواة»، وهما مطلبان قرآنيان، ويمكن لدعاة التعايش التأكيد على تحقيقهما في واقع الأمة، ببث ثقافة التعايش المبنية عليهما.

3- يربون جيلاً قرآنيًّا يتمسك بتعاليم القرآن الكريم وهدي الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، ويتخذان منهما سلوكًا لترشيد الحياة.

4- يلتقون مع الآخرين على «كلمة سواء»، تجمع بينهم، مع تمسُّك كل طرف بقناعاته، بدلاً من عيشهم في جزرٍ منعزلة. وربما تكون أهم قاعدة وضعها القرآن لترسيخ مبدأ التعايش مع الأديان الأخرى هي دعوتهم إلى كلمة سواء: {تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا}[آل عمران:64]، والمسلمون فيما بينهم أولى بسلوك هذا النهج.

فمبدأ التعايش لا يعني، بحال من الأحوال، ضياع الهوية المذهبية أو الثقافية للإنسان، مما يعني ذوبانه في الآخر، بل هو طريقة لتنظيم عملية الاختلاف والمُغايرة، ليحتفظ كل طرف بما يؤمن به، مع احترامه لخيارات الآخرين وقناعاتهم. لهذا فحين تجد صيحات التهريج ضد من يتبنون مشروع التعايش في الأمة، فاعلم أنها صيحاتٌ حماسية، تحكي الجهل بالفكرة من أساسها.

التعددية الثقافية ونقد الفكر الأحادي

ونقصد «بالتعددية الثقافية» هنا، المعنى الذي أشارت إليه الموسوعة العربية العالمية، إذ اعتبرتها: «فلسفة سياسية أو اجتماعية تعمل على تطوير التنوع الثقافي. تحظى هذه الفلسفة بدعم العديد من المربين في الدول التي يتكون فيها السكان من مجموعات اجتماعية تنتمي إلى خلفيات عرقية أو ثقافية متباينة. ومن أهم أهداف التعددية الثقافية تطوير التفاهم بين المجموعات الثقافية، ولهذا السبب يطلق على التعددية الثقافية أحيانًا اسم البينية الثقافية. ويفضل مؤيدو فلسفة التعددية الثقافية أن تشتمل المناهج التعليمية تدريس التعددية الثقافية لتمكين الطلاب من فهم هذه الثقافات والتعامل معها. ويسمى هذا النوع من التربية: التربية المتعددة الثقافات أو التربية البين-ثقافية».

فالمجتمع البشري يعيش تعددية دينية وثقافية لا يمكن لأي جهة أن تستأصلها وتزرع ما تبتغيه مكانها، وإن توسلت في ذلك بقوة السلاح، فـ«الاعتقاد الديني شيء لا يجب أن يُفرض على الإنسان كما تُفْرض عليه القوى الأجنبية. ولكنه ينبع بحرية من ملكات داخلية مثل الضمير والعقل. ولهذا فإن محاولات فرض وحدة الدين بالقوة كانت عملاً أخرق».

واللافت أن الدين لا يستقر في النفوس بالإكراه، إذ: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}[البقرة:256]، وفي إدارتنا لحالة الاختلاف الديني والمذهبي مطلوب منّا أن نعمل بمنهجية: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً}[الإسراء:84]. وبجانب هذه الرؤية القرآنية، نجد -أيضًا- من يظن أن بيده مفاتيح الحقيقة المطلقة، وأنه يمثل الصواب في التصورات والمواقف الدينية -بشكل خاص- لذا نجد هذا الصنف يمارس عملية الإقصاء في أبعد حدودها، وينظر للآخر نظرة دونية، لا يقبلها الشرع الحنيف، ولا العقل الرشيد، ولا العاطفة السليمة!

وخلافه الفرد المنفتح الذي «لا يضيره أن يكون الرأي تعدديًّا ونسبيًّا بطبيعته. لذلك لا يستبعد المناقشة. بل إنه، بالعكس، قد يطلبها ويسعى إليها. بالمناقشة يطل على أفكار الغير، ويطل الغير على أفكاره. وقد تتحول هذه الإطلالة المزدوجة إلى عملية أخذ وعطاء. المناقشة لا تستلزم التخلي عن القناعة الأولى أو الأصلية، وقد تؤدي بالعكس، إلى تقويتها وترسيخها. غير أنها تستلزم الاعتراف بحق الآخر في إبداء رأيه وفي مناقشة ما يطيب له من الآراء بمسؤولية تامة».

ولعل أسوأ ما ينتج عن سياسة الإقصاء أنها «تمنع غيرها من ممارسة حقه في التفكير؛ ولا أظلم ممن يسلب سواه حق التفكير، لأنه ليس في الحقوق أعلق منه بضمير الإنسان، مع العلم بأن الضمير يكاد أن يطابق ذات الإنسان؛ فإذا لَحِقه الانتهاك، لم يبقَ حق من الحقوق لم يلحقه الانتهاك».

ونحن كشعوب، بحاجة للقدوة في هذا الشأن. ولن يكتب للعملية الإصلاحية النجاح، إن هي سُطِّرتْ كمواعظ وقصص على الأوراق، ولم تجد لها في الواقع العملي مجالاً للتطبيق، والقدوة التي أعني: تتمثل في الساسة والعلماء والنخب، ولنا في الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) خير قدوة وأسوة، فهو وبالرغم من كونه الحاكم المُهاب، إلَّا أنه ومع ذلك سمح لمعارضيه (الخوارج) أن يدخلوا المساجد، ليقولوا ما يشاؤون، كما أنه لم يمنع عنهم العطاء، ولم يبدأهم بقتال قط.. أليس في هذا المثال العملي درس بليغ لمن ينشد الإصلاح في هذا الزمان؟

لذا فنحن بحاجة لماكينة إعلامية، ومناهج تعليم، ورجال فكر، ومؤسسات أهلية، تعمل جميعها، وبشكلٍ جاد من أجل، ضخّ ثقافة: التعددية، والحرية، وتقبُّل الرأي الآخر، لنستظل فيما بعد تحت أوراق شجرة التعايش الفارعة، التي هي مطلب العقلاء في الأمة.

فإن عملنا بجد على ترسيخ التعددية الثقافية في مجتمعاتنا، فسيغدو بمقدورنا بعدئذٍ تخفيف حدّة الصراعات الاجتماعية والمذهبية، وسنتمكن أيضًا من تحقيق قدرٍ عالٍ من التعايش الذي يجمع بين الطيف المذهبي والثقافي بقدر تنوعه الفسيفسائي.

ولا يخفى أن «مظاهر العنف والفوضى التي تشهدها بعض البلدان، هي ليست من جراء وتداعيات حقيقة التنوع والتعددية الموجودة في هذه البلدان، وإنما لغياب صيغة حضارية تجمع بين حقيقة الاختلاف الذي لا يمكن نبذه وإنهاؤه من الوجود الإنساني وضرورات العيش المشترك».

ومن نافلة القول: إننا نعيش عصر المعلوماتية، حيث تتأتى المعلومة في طرفة عين لكل من يبحث عنها، بل إننا نعيش -غالبًا- في وطنٍ واحد، تحت راية واحدة، ومع ذلك فإننا لا نزال نعيش القطيعة مع الآخر، الذي قد نختلف معه في جزئيات صغيرة، بل لا نفهمه أحيانًا، وكأننا نعيش في جزرٍ منعزلة! وهذه غفلة نعيشها، وربما تقصير نتعمدهُ، في حين أننا نتغنى بأهمية الحوار وأهدافه، ولا ننسى أن نتطرق لآلياته وآدابه؛ في كتبنا الصفراء، ووسائل إعلامنا المنسية!

«فطوال التاريخ كان الناس يكرهون، وكان الدم يغلي في عروقهم وقلوبهم، كراهية لشيء أو لشخص أو لجماعة، كما كانوا على استعداد كامل لأن يدفعوا حياتهم ثمنًا لهذه الكراهية».

«لقد تحولت الكراهية -لدى بعض الناس- إلى نوع من القُرُبات التي يُتقرب بها إلى الله، وصارت كراهية المسلم للمسلم ومعاداته، بل ومقاتلته مدرسة لها بُناتُها ودُعاتُها والحارسون لأسوارها وأسرارها، لقد استحكمت في النفوس وسيطرت عليها وأثمرت ثمرتها القاتلة، أزهرت في بعض البلاد العربية والإسلامية تكفيرًا وتضليلاً واقتتالاً ومنابذة، وقد عُرف البدء ولم يُعرف ماذا سينتهي إليه من مصير وبيل».

وفيما يخص استسهال أمر اتهام الآخرين بالكفر والردة، يؤكد طه جابر العلواني أنه أحصى «عددًا لا بأس به من كبار العلماء المسلمين المعروفين، ممن حكم عليهم بالردة، لأسباب تافهة، لا تعدو أن تكون مخالفة في الرأي، أو في المذهب، أو في بعض الأمور للسلطان، ولفقهاء السلطة، وقد استغربت كثيرًا، حينما وجدت أن بعض أولئك الذين ذهبوا إلى التكفير، ببعض ما لا يكفر من أمور خلافية، والحكم بالردة على من يجتهد في بعض الأمور، ويصل إلى بعض التصورات، التي يُدّعى أنها مخالفة للإجماع. كما وجدت بعض العلماء يدعي نسخ قوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}، للتخلص من أي إلزام في هذا المجال».

ولا غرابة أن نشهد هذا المصير مع تفشِّي داء البغضاء بيننا، ففي رواية لافتة يُحَذِّر الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) المسلمين قائلاً: «دَبَّ إليكم داء الأمم قبلكم: البغضاء والحسد».

بل إنه يعتبر البغضاء حالقة للدين، إذ قال (صلى الله عليه وآله وسلم): «وهي الحالقة حالقة الدين لا حالقة الشعر»! ويشرح الشريف الرضي ذلك في مجازاته، قائلاً: «لأنها سبب التفاني والتهالك، والإيقاع في المعاطب والمهالك، والداعي إلى سفك الدم الحرام، واحتمال أعباء الآثام».

وفي مقابل تراثنا المليء بصفحات البغض والتكفير، تُغيَّب عنّا أحاديث جميلة ولافتة، من شأنها إذابة الجليد بيننا، كمثل هذا الحديث الذي يروى «عن أبي عبدالله، عن آبائه، عن علي (عليهم السلام)، قال: إن للجنة ثمانية أبواب، باب يدخل منه النبيون والصديقون، وباب يدخل منه الشهداء والصالحون، وخمسة أبواب يدخل منها شيعتنا ومحبونا، وباب يدخل منه سائر المسلمين ممن يشهد أن لا إله إلَّا الله ولم يكن في قلبه مقدار ذرة من بغضنا أهل البيت».

خيارنا التعايش

إننا مع هذه الأجواء المُلَبَّدة بالبغضاء في أمتنا، نظل بحاجة ماسة للتبشير بثقافة المحبة، «وهل الدين إلَّا الحب»؟ كما نتوق لتعميم ثقافة الحوار.. ونحن بحاجة أيضًا للجهر، بأن للآخر الحق في إبداء وجهات نظره، وإلَّا فأمامنا الطوفان! ونحن بحاجة «للقدوة العملية» في هذا الشأن مع استدعائنا للصفحات المشرقة من النص الديني والهدي النبوي، فبين أيدينا نصٌّ مقدَّسٌ، وتراثٌ دينيٌّ، وتجربة تاريخية للمسلمين. ولا يصحُّ أن نحتكم؛ إلّا إلى الأول منها! فالتراث الديني الذي دُوِّن في عصورٍ حكمها الاستبداد ينبغي محاكمته! أما التجربة التاريخية للمسلمين ففيها الكثير من الإساءة للقرآن الكريم وسيرة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم).

وكان المؤمل والمفترض منّا؛ أن نجعل من مادة الحوار لغة نمارسها، وهواء نتنفسه، ولكن، عندما تُسيِّرنا السياسة، أو تقولبنا الأيديولوجية، ونستجيب مع ذلك للمخططات الشيطانية؛ فإننا نغدو حينها كالقنابل الموقوتة التي تنفجر لتحصد الجميع مع أقل رائحة لبارود الفتنة! لذا نحن ننتظر بفارغ الصبر أن نشهد تغييرًا في مناهج التعليم النظامي تحديدًا؛ يجمع بين ثناياها مختلف الآراء الفقهية للمذاهب المتعددة؛ هذا إن كنّا نطمح في رؤية جيل من المتحاورين الجُدد -إن صح التعبير-، وإلَّا فسيبقى الحوار لغة تكتيكية، نمارسها حين تعصف بنا المتغيرات، وضغوط الخارج، والصحيح أن يتحول الحوار إلى استراتيجية دائمة نسعى لتحقيقها جميعًا.

فخيارنا الصحيح شئنا أم أبينا، هو خيار الحوار الجاد الذي يؤسس قاعدة صلبة للعيش المشترك، وإلَّا سنخسر الكثير، ولنا عبرة فيما يجري حولنا من أحداث وفتن مذهبية!!

فالخيار المطلوب إذًا «هو التعايش بأن يعترف كل طرف للآخر بحقه في التمسك بقناعاته ومعتقداته وممارسة شعائره الدينية والعمل وفق اجتهاداته المذهبية، ويتعامل الجميع كمواطنين متساوين في الحقوق والواجبات، متعاونين لتحقيق المصلح العامة ومواجهة الأخطار المشتركة».

ونظرًا، لعقود من القطيعة التي عاشتها الطائفتان على المستوى العام؛ فلا يزال صوت الاعتدال لا يلقى الصدى المطلوب، ولعلّ المتابع للمشهد يلحظ أن بعض دعاة الاعتدال والوسطية يتحركون وفق حالة الرضا الشعبية؛ فإن صفق الجمهور، قالوا إننا مع خطاب الوسطية وقبول الآخر، وإن غضبت الساحة، تملّص بعضهم مما كتب أو قال متناسياً قول الحق سبحانه وتعالى: ﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاَّ اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا﴾[الأحزاب:39].

«ولذا فصورة الآخر في الذات ليست ثابتة. قد تتغير وتنقلب بتغير الموقف منه أو العلاقة معه. وبالطبع فهي تتغذى من مخزون الذاكرة الموتورة أو الجريحة، عندما يُراد للفتن النائمة أن تستيقظ وتشتغل، خاصةً إذا كان تاريخ العلاقة بين الطرفين هو تاريخ مظلم وحافل بالتحديّات والصراعات والهجمات المتبادلة، عندها يعود الواحد إلى خطابه الداخلي وإلى معجمه الضدي، لاستخدام المفردات التي تصف الآخر على النحو الأبشع والأشنع».

ويبدو أن رجال الإصلاح الواعين في الأمة يتحركون من إيمان عميق بضرورة التواصل والتلاقي والإخاء والتعايش، باعتبار أن المؤمنين إخوة، وإن اختلفوا في التفاصيل التي تزيد المشهد الديني جمالاً، وإن لم يبصره من لديه قصر في النظر. فمن الجميل أن نعرف من «نحن»، لنعرف من هو «الآخر»، فمن نظنه الآخر، قد نكتشف أنه يدخل في قائمة الـ«نحن» إن تحاورنا معه بالتي هي أحسن!

ويكفي أن نجلس مع الآخر ونتحاور معه، ليتعرّف كل منا التصورات الصحيحة تجاه بعضنا بعضًا، فالله -عزّ وجل- خلقنا شعوبًا وقبائل لنتعارف، لا لنتقاطع، ولا لكي يحمل كل منا الضغينة والحقد تجاه إخوته في الإنسانية. وأتصور أننا لن نعرف أنفسنا جيدًا إن لم نتحاور مع الآخر، أيًّا يكن هذا الآخر.

* نشر في مجلة الكلمة، العدد (73) خريف 2011/ 1432
http://kalema.net/home/article/view/1025

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق