مسؤولية التطابق بين الظاهر والباطن، تُلقى أولا على الشخص نفسه، إذ عليه أن يتمسك بأواصر الصدق، ويحذر التصنّع في علاقاته، ويحذر كل الحذر من إظهار سلوك جيد للناس وإضمار نقيضه لهم، ففي هذه الحالة سوف يكون سببا في خلخلة النسيج المجتمعي، ويساعد بقصد أو من دونه على تدهور القيم والأخلاق...
(يحاول الإنسان أن يُحسِّنَ ظاهرَهُ ويخفي عيوبَهُ ونواقصَهُ)
سماحة المرجع الشيرازي
سعت الأديان والفلسفة والعلوم الأخلاقية بمجملها، إلى تشذيب الفكر والقيم والعادات التي ينشط في ضوئها الناس، حيث تقوم العلاقات التبادلية المختلفة، على منظومة من القيم والعادات والأخلاقيات، كي تحدّ من حالات التجاوز على حدود الآخر، وتراعي حقوقه ومشاعره وأفكاره وآراءه وعقائده، وكلَّما تمكن الإنسان من الاستفادة من حالات الدعم الفكري وحسَّن أخلاقه وقيمه، كان أكثر احتراما من قبل الآخرين وأكثر كسباً لمودَّتهم ومحبّتهم وتأييدهم له.
كسب الاحترام والتأييد لن يأتي من فراغ، إنه أقرب إلى معادلة العطاء والأخذ، فالذي يطمح بكسب احترام الآخرين، عليه أن يحترمهم ويحفظ حدودهم وحقوقهم، فكما تريد عليك أن تعطي، لذلك يلجأ الإنسان إلى الظهور أمام الآخرين بالمظهر الحسن، أو كما يرغبون حتى ينال احترامهم ومن ثم تأييدهم.
هناك من لا يتشابه ظاهرهُ مع باطنهِ، أي أنه يُظهر للناس شيئا ويضمر لهم النقيض، بمعنى ي مارس معهم الخداع، حتى يكسب ما يريد وما يرغب، وهناك اختلاف كبير بين الظاهر والباطن، فالأول مرئي من الجميع، يعرفونه لأنهم يرونه بأبصارهم، لكن المخفي أو ما يسمي بـ (النيّة)، فالأمر هنا لا يمكن معرفته لأنه مضمَر، لهذا يُقال أن أفضل الناس هو من تطابق ظاهره مع باطنه.
الهدف من الظهور أمام الناس بمظهر حسن واضح ومعروف، لكن المشكلة عندما تحصل حالة التناقض بين الظاهر والباطن عند الإنسان، هنا يحصل ما يُسمّى بالخديعة أو خداع الآخرين، وهو أمر ممكن ولطالما حدث أن خدع شخص ما صديقه، أو زملاءه، أو أهالي منطقته، أو ربّ العمل، وربما حتى أهله، والسبب معروف، فهو يخدعهم بمظهر مخالف لجوهره، حتى يكسب ودّهم وتأييدهم، لكنه لا يستطيع أن يمرّر الخديعة على الله.
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظلّه)، يقول في كتابه القيّم (تأمّلات):
(إذا كان الإنسان قادراً على خداع أخيه الإنسان بظاهره، فإنه لا يقدر على ذلك مع الله لأن الله سبحانه وتعالى يعلم ما في الضمائر وما تُخفي الصدور).
لماذا يسعى الإنسان إلى تحسين مظهره؟ السبب واضح، لكن هل هناك عيب في مثل هذا السعيّ؟، بالطبع لا يوجد أي عيب في ذلك، على العكس، فحين يظهر الإنسان جميلا أمام الناس، هذا أمرٌ محبّب ومطلوب، بل من الضرورة بمكان أن يظهر الإنسان جميلا أمام الناس، سواءً بشكله، أو كلامه وحتى سلوكه، فكما جاء في الحديث الشريف (الكلمة الطيبة صدقة)، واللين هو السلوك النبوي المحمّدي، وهو سلوك أئمة أهل البيت عليهم السلام.
عيوبٌ ازدواجية وتداعيات مجتمعيّة
لكنّ المشكلة تبدأ وتتعقّد حين يختلف ظاهر الإنسان مع باطنه ونواياه، هنا يبدأ فعل أو ظاهرة أخرى هي الخداع، ولذلك يبذل الإنسان الذي يسعى لخديعة الآخر، أقصى ما يمكنه كي يحقق التطابق بين مظهره وما يخفيه في باطنه وسريرته، ولن يحدث هذا الاختلاف لدى الإنسان النقي الذي لا يخطط لخداع الآخرين، لكنه حين يضمر في داخله ما يناقض ظاهره، فإنه يلجأ إلى إخفاء المضمَر كي لا يكشفه الآخرون فيخسر تأييدهم واحترامهم له.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يقول حول هذه النقطة:
(يحاول الإنسان غالباً أن يحسن ظاهره، بل هو مجبول على ذلك وعلى إخفاء عيوبه ونواقصه، ولذلك فهو يسعى أن يخفي حقيقته وباطنه لئلا يكتشف الآخرون اختلافه عن ظاهره وما يتظاهر به).
من الأهمية بمكان أن يبحث العلماء المختصون (النفسيون والاجتماعيون)، أسباب هذه الظاهرة، وما تؤدي إليه من مشكلات اجتماعية تخلل النسيج المجتمعي، وتصنع تداعيات خطيرة تمنع تطوّر الأمة، وتضاعف من ظواهر الخلاف والخداع والاضطراب في البنية المجتمعية، ومما يزيد الطين بلّة، بروز ظاهرة التشبّه بالقادة حتى حين تكون أفكارهم وسلوكياتهم ليست سليمة.
هناك من الناس العاديين ينظر إلى القائد أو العالم، على أنه النموذج الذي لا يُخطئ، أي أن هؤلاء نماذج لا يدنو منها الزلل أو الانحراف، لكن في حقيقة الأمر الإنسان ليس معصوما من الخطأ، فإذا زلَّ أو انحرف، فإن الناس العاديين سوف يبررون أخطاءهم بالقول: (إذا كان نموذجنا هكذا، فماذا تتوقعون منّا؟؟)، وهذا تبرر غير سليم ولا يستند إلى العقل، فليس كل قائد أو عالم محصّن من الانحراف.
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(هناك ظاهرة خاطئة في المجتمع، وهي أن الكثير من الناس يقولون إذا كان فلاناً مع ما له من المقام الاجتماعي أو العلمي أو الديني يعمل المنكرات أو في حياته زلاّت، فماذا تتوقعون منّا نحن الناس العاديين؟).
الله ينظر إلى قلوبنا ولا ينظر إلى صورنا
بالطبع لا يمكن الإقرار بمثل هذه التبريرات، فإذا أخطأ النموذج أو القائد (السياسي، أو الديني، أو الاجتماعي)، لا يعني ذلك أن الناس مسموح لها بمجاراته أو التشبّه به، التشابه هنا يجب أن ينحصر بما هو سليم ومفيد حصرا، أما من يسعى للانحراف لأن قائده أو مديره أو حتى أستاذه مخطئ، فهذا لا يمكن أن يكون سببا مقبولا لخلخلة البنية المجتمعية، عبر تكريس التقليد الخاطئ للنموذج القائد.
الإنسان غير معني بالنموذج حين يزلّ، ولا بمن يقوده إلا إذا كان قائداً صالحا، صحيحا في أفكاره وأقواله وسلوكه، وفي حال تمّ التشبّه بالنموذج المخطئ، فهذا يعني قلّة في الإيمان، وضعفاً في ارتباط قلب الإنسان بربّهِ.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يؤكد ذلك في قوله:
(لا شك أن هذا الكلام ليس صحيحاً، بل هو يمثّل ظاهرة خاطئة، ويدلّ على أن قلب المتفوّه به غير مرتبط بالله، بل بغيره، وكأنه قد نسي أن الله سبحانه وتعالى ينظر إلى قلوبنا ولا ينظر إلى صورنا!).
طالما أن الإنسان معرَّض للخطأ، فإن العالِم والقائد والمدير والرئيس والمعلم، يدخل ضمن هذا الاحتمال، كوننا جميعا لسنا بمعصومين، مما يضعنا أمام مسؤولية عدم الانسياق وراء الخاطئ والمنحرف، ويأتي هذا في إطار الدور الذي يتصدى له الإنسان إسهاماً منه في زيادة تماسك اللًحمة الاجتماعية، والعمل على بناء أمة حية ومجتمع ناهض، استلهاما للقيم والأخلاق الفاضلة من قادتنا وعلمائنا الصالحين، ولكن شريطة أن يتوافر فيهم الصلاح وعدم الانحراف.
من الأهمية بمكان أن يبني الإنسان شخصيته القويمة، بعيدا عن ازدواجية المواقف والسلوك، وعدم الانسياق وراء أساليب الظهور المختلف عن المضمَر في سريرة الإنسان، ولابد من الحرص الشديد على تطابق ظاهر الإنسان وداخله، وإن كان هذا الهدف فيه مصاعب كبيرة، لكنه يضمن شخصية متوازنة معتدلة وصادقة في فعاليتها الحياتية المختلفة، لاسيما حين نلتزم بالسير في هدي العلماء الأجلاء والقادة المخلصين المحصَّنين من الزلل.
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(إننا نتبع علماءنا وقادتنا ونتعلّم منهم، ولكن لو انحرف أيّ منهم بمقدار أنملة فلا ينبغي لنا أن ننحرف معه وإن كان هو السبب في هدايتنا).
إذاً مسؤولية التطابق بين الظاهر والباطن، تُلقى أولا على الشخص نفسه، إذ عليه أن يتمسك بأواصر الصدق، ويحذر التصنّع في علاقاته، ويحذر كل الحذر من إظهار سلوك جيد للناس وإضمار نقيضه لهم، ففي هذه الحالة سوف يكون سببا في خلخلة النسيج المجتمعي، ويساعد بقصد أو من دونه على تدهور القيم والأخلاق، في حين أن دوره يجب أن يكون إيجابيا من خلال المطابَقة بين الظاهر والباطن في شخصهِ.
اضف تعليق