إن تراكم الفساد واعتماد الحكومات على المنهج النفعي لن يكون مانعا للشعب والجماهير في مواصلة المطالبة بحقوقها، وإذا أراد الحكام أن يضمنوا حاضرا ومستقبلا نافعا لهم، عليهم أن يكفّوا عن كل أنواه الفساد والاستخفاف بمصالح الناس، هذا هو الحل الأنسب للجميع حكومة وشعباً...
الفساد وباء يصيب الحكومات النفعية، ويزداد مع الوقت إذا لم تتخذ الإجراءات الفعالة لاستئصاله، فالسلطة المستخفَّة بحقوق الشعب ستجدها محاطة بل متلبسة بالفساد والاستبداد، بمعنى لا يمكن للحكومة النفعية أن تُبنى على العدل، كما أنها غالبا ما تكون قابلة للزوال أسرع من سواها بكثير، ولكن ما يثير الاستغراب حقا، أن الحكام المستبدين يغمضون عيونهم عن ظلمهم للشعب، ويظهرون في الإعلام والمناسبات على أنهم حريصون على الناس، وتبدو عليهم علامات المسؤول المخلص الذي لا يعبأ بالانتفاع ولا يفكر به، بيد أن الحقيقة غير ذلك.
هذا النوع من الحكام والمسؤولين لا يمتلكون رؤية ثاقبة أو بعيدة النظر، إنهم يعيشون يومهم فقط، ولا يشغلهم سوى السلب والاختلاس وابتكار أساليب جديدة للفساد لكنهم بالنتيجة سينتهون إلى نتائج مدمرة بالمستقبل القريب، مع أنهم لن يصدقوا بهذه النتيجة الحتمية، وعندما يتنعمون بامتيازات السلطة هم ومعاونوهم وذووهم فلا يخطر في بالهم أن هذا النعيم هو نتاج قهرهم للشعب وتجاوزهم على حقوقه، مع أن الدلائل كلها تؤكد للحاكم بما لا يقبل الشك بأنه يستخدم السلطة بصورة خاطئة تسيء للناس وتقمعهم وتدمر حياتهم، فيما يعيش هو وذووه وحاشيته كالملوك، لكن إلى متى يدوم لهم هذا النعيم؟
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، يوضّح الإجابة في إحدى كلماته القيمة حين سماحته: (الحكومة التي تبتني أساسها على الاستبداد وهضم حقوق الناس المشروعة هي حكومة زائلة وفانية لا محالة).
إن حكام اليوم مثل النعام يدسّون رؤوسهم في الرمال ويغضون أبصارهم عمّا يحدث من قمع وفساد واستبداد، فإن هذا الحال يثير الاستغراب والألم والاستهجان، فكثير من الحكام الظالمين سحقتهم عجلة التاريخ وألقت بهم في مزابل السوء العفنة، ولعل صفحات ومدونات التاريخ تقدم دروسا هائلة لحكام الحاضر، لكنهم لا يستعيدون تلك التجارب ولا يمرون عليها بعمق، وحتى لو اطلعوا عليها فإنها لا تعنيهم بشيء، ولو أنهم تمثلوا ما حدث للحكام المستبدين، وما جرى لهم في نهاية المطاف، فربما أعادوا حساباتهم وأنصفوا الناس من الظلم والفساد وما يلحقه بالشعب من أذى لا حدود له، خصوصا تلك التجاوزات التي تقوم بها الوزارات والأجهزة الحكومية على مرأى من السلطات أو الجهات المسؤولة.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يقول عن ذلك: (لو أن الحكّام اليوم يتأمّلون في تأريخ من مضى من الحكّام أمثالهم، لأعادوا النظر في تصرّفاتهم وأفعالهم مع شعوبهم، ولما أقدموا على حرق تاريخهم بأيديهم).
العراقيون عانوا الأمرّين من حكّامهم
لم يذق العراقيون طعم الهناء، وافترسهم الحرمان، وعندما زال حكم الطاغية في نيسان 2003 تنفس العراقيون الصعداء، وملأت الفرحة نفوسهم ووجوههم وتصورا أن العقود العجاف التي تعرضوا فيها للعذاب والقهر والحرمان والإقصاء قد ولّت الى الأبد، وأن لا عودة للاستبداد والفساد، وأن أبواب النعيم قد فتحت على مصراعيها للعراقيين كي يعيشوا بأمن وسعادة وسلام، لكن هذه الأحلام بقيت على حالها، ولم تتحول الى حقائق حتى هذه اللحظة، فالعراقيون يعانون اليوم من الفساد الحكومي المنتشر في مفاصل من الدوائر والأجهزة الحكومية، وقد حدث هذا بسبب عودة البيروقراطية بأبشع صورها، وانتشر الفساد الإداري وتم الاستئثار بأموال الشعب بطرائق شتى، كلها تصب في هدر المال العام، مع الاستحواذ على ثروات الشعب ونقلها الى بنوك في مختلف دول العالم، ما أدى ذلك الى زيادة الحرمان والبطالة وارتفاع نسبة الفقر وانتشار الأمراض والجهل بين الناس، وقد أدى الوعي الهابط لكثير من العراقيين الى عدم التفريق بين المسؤول الجيد والمسيء، حتى بات الخلاص من الجوع والحرمان يدفع بالناس الى اختيار من لا يستحقون ذلك، لاسيما أن بعض الأحزاب والكتل والشخصيات استخدمت أساليب الزيف والخداع لحث الناس على إعادتهم لمواقعهم في المسؤولية.
يؤكد سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) على: (إن الفساد الإداري والاستئثار بأموال الناس وإيداعها في حسابات خاصة في البنوك الأجنبية أدى إلى المزيد من الحرمان والبطالة والتخلف والمرض والجهل وسوء الخدمات).
ولهذا تضاعفت نسبة الفقر، وازداد الجهل، وكثرت الأمراض، وبات الشعب يعاني من الفساد والمفسدين، في حين تتقاعس الأجهزة المعنية عن معالجة هذه الأوضاع المتردية، فتبقى الأمور كما هي عليه، وتزداد جراح المسحوقين ويتضاعف الحرمان، في حين تعيش الطبقة السياسية في بحبوحة وعيش رغيد بسبب الرواتب العالية والمخصصات المالية عبر تبويب متعدد الجوانب، مثل مخصصات السكن، والصحة، والحماية، وما الى ذلك من أمور تزيد المسؤول رفاهية وتزيد الشعب حرمانا وفقرا، لهذا لم تندمل جراح المظلومين وهم يواجهون العديد من المشكلات والمحن.
كما يؤكد على ذلك سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) في قوله: لقد عمّق الفساد (جراح المظلومين والمسحوقين من أبناء هذه الشعوب وجر عليها أنواع المآسي والمحن).
الفساد وإساءة استخدام السلطة
وها قد أصبح الفساد وحالات الانتفاع الحكومي من السلطة ظاهرة تشكل خطرا على العراقيين، وهناك ضغط من بعض القوى كي يسود الحكم الأحادي ومقارعة المنهج الاستشاري في الحكم، ولكن مع كل ما يحدث لا يزال هنالك جيل عراقي يحلم بالسعادة ويخطط لها، ويحث الخطى نحوها، وهذا الجيل على استعداد تام للتضحية من أجل الحرية التي ذاق طعمها، وكان لها أن تدوم لو لا تسلل بعض المفسدين الذين توغلوا في الميدان السياسي، فألحقوا الأذى بالشعب، واستحوذوا على السلطة وصار المال والامتيازات جل ما يهدفون ويسعون إليه، مع أنهم يعرفون تمام المعرفة أن الذي يتضرر من هذا السلوك هو الشعب، والطبقة الفقيرة منه على وجه الخصوص، ولكن يبقى حلم الحرية قائما بين الناس، لن يترددوا عن السعي إليها، بحثا عن السلام والسعادة، تحت مظلة العدالة الحكومية في السياسة والاقتصاد وإدارة أموال الشعب وتوزيع الفرص والثروات بطريقة تنصف الجميع من دون ظلم أو تجاوز على الحقوق المدنية أو سواها.
إذ يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله): (إن عالم اليوم وجيل اليوم يبحث عن الحقيقة والسعادة، وهذا لا يتأتى إلاّ في ظل الحرية بما في الكلمة من معنى، وفي إطار العدل بما للكلمة من شمول).
ولابد أن الجميع قد وصل الى قناعة قاطعة بأن الفساد وسوء استخدام السلطة، وإدارة المال العام بطريقة سيئة، كل هذه الأمور تمثل تدميرا لطموح الشعب، وتقف حجر عثرة أمام تحقيقه للحرية التي ظل يحلم بها لعقود متتالية إن لم نقل قرون متوالية، فكان العراقيون ولا زالوا بهم عطش للحرية والسعادة كبير ولا حدود له، نتيجة معاناتهم من الظلم والظالمين، ولابد لمن يعمل اليوم في الحقل السياسي أن يعي دوره ومسؤوليته جيدا حيال الشعب، فالمهم لدى العراقيين أن ينتهي الفساد، وأن يحل العدل والحرية محل الاستبداد والظلم، وأن يسعى السياسيون والأحزاب بصورة جادة الى وضع آليات عمل وبرامج سياسية فكرية تراعي حقوق الناس وتحفظ ثرواتهم وتشيع أجواء الحرية والعدالة والمساواة فيما بينهم، بعيدا عن سياسة الظلم لأنها تعرقل طموح الشعب في الوصول الى حلمه في الحرية والعدل والمساواة.
وينتهي سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) الى القول: بأن (الممارسات الظالمة للحكّام ليست إلاّ سدّاً أمام طموح الشعوب في نيل الحرية المشروعة التي تنتهي إلى انتصار المظلوم على الظالم).
وبهذا فإن تراكم الفساد واعتماد الحكومات على المنهج النفعي لن يكون مانعا للشعب والجماهير في مواصلة المطالبة بحقوقها، وإذا أراد الحكام أن يضمنوا حاضرا ومستقبلا نافعا لهم، عليهم أن يكفّوا عن كل أنواه الفساد والاستخفاف بمصالح الناس، هذا هو الحل الأنسب للجميع حكومة وشعباً.
اضف تعليق