q

التلفزيون، هذه الجهاز الصغير، بشاشته الضوئية، إنما اخترعه وطوره البريطانيون والألمان والاميركيون، ليكون وسيلة تسلية للمجتمع من جهة، ولنقل بعض الوقائع الرسمية، مثل الاحداث السياسية والعسكرية، بالصوت والصورة، وربما لم يفكر القائمون على هذه الوسيلة الاعلامية الجديدة، أنها قد تحل يوماً محل الصحف والمجلات، وحتى الكتاب في صناعة الفكر وصياغة الثقافة للشعوب، لما للصورة المصحوبة بالصوت وعديد المؤثرات المرئية، من ألوان ومقاطع وأصوات مثيرة، من تأثير سريع في النفوس، ويمهد الطريق لعبور الافكار الى الاذهان.

صحيح؛ أن الغرب، لم يكن يشعر بالحاجة الى التوجيه الثقافي والفكري من خلال شاشة التلفاز، كما هو الحال لدى المسلمين، بيد أنه تنبه في الآونة الاخيرة الى أنه مفيد لمواجهة أي نوع من اليقظة والصحوة في الساحة الاسلامية، من خلال اتجاهين متوازيين؛ الاول: باتجاه الميوعة والتحلل الاخلاقي، وتغليب العواطف والغرائز على العقل، والاتجاه الثاني: تصدير الانماط الغربية المثيرة لمشاعر الحرمان والتخلف التي تعيشها شعوبنا، حيث ان كل شيء في الغرب، يمثل النجاح والسعادة والرفاهية.

هذا النمط من الخطاب الاعلامي، تواصل مع خروج التلفاز من دائرة البث الارضي الضيق الى رحاب الاقمار الصناعية والبث العالمي، فالقنوات الفضائية العربية التي انطلقت في اواسط التسعينات، لم تحمل رسالة الوعي والتطور والنمو الى الشعوب العربية والاسلامية، فمن جهة كرست الواقع المرير في الامة، حيث الضعف أمام الكيان الصهيوني، وامام القوى الكبرى، ومن جهة اخرى عكفت على تلميع وجوه الحكام، -وما تزال– رغم كل الفضائح المريعة والدماء والجرائم التي ارتكبوها، وما يزالون.

لذا يمكن القول إن إطلاق سماحة المرجع الديني آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي –دام ظله- مبادراته بتشجيع تأسيس القنوات الفضائية، جاءت في وقت تشهد الساحة أوج المواجهة بين الحالة الاسلامية وبين ما يسمى بـ "الغزو الثقافي" او حالة التغرّب والاستلاب الفكري والثقافي. فالثورة والنهضة التي اطلقها سماحته لم تأت من فراغ، بل العكس تماماً، حيث ان خوض هذا المجال الاحترافي التخصصي في الاعلام المرئي، جاء انطلاقاً من قاعدة عريضة ورصينة من التراث الشيعي، متمثلاً بتراث أهل البيت، عليهم السلام، لذا فانه – دام ظله- يؤكد خلال كلماته للإعلاميين والقائمين على القنوات الفضائية، بان هذه الوسيلة الاعلامية (التلفاز) يمثل خير وسيلة لنقل الحقائق ونشر مدرسة أهل البيت، عليهم السلام، في العالم.

ثورة الحقائق

"أفضل وسيلة للدفاع هو الهجوم". انها القاعدة القديمة – الجديدة، والحكيمة، وهو ما يتضمنه مشروع المرجع الشيرازي في تأسيس العديد من الفضائيات وبلغات عديدة، ابرزها؛ اللغات الثلاث في الوقت الحاضر؛ العربية والفارسية والانجليزية. فلا مجال حالياً للحديث عن سلبيات الحضارة الغربية ومساوئها، بقدر ما أن المهم في عصر الفضائيات والقرية العالمية، وايضاً زمن الشبكة المعلوماتية العنكبوتية، إطلاق ثورة الحقائق بموازاة ثورة تقنية الاتصالات.

التجارب التي خاضها الاخوة في القنوات الفضائية، أكدت ان الانسان الغربي محروم من الحقائق بشأن الاسلام ونظامه وقيمه. كما هو محروم من "الثقافة النظيفة"، كما يعبر عنها سماحته، التي لا تتناقض مع العقل والفطرة السليمة. طبعاً؛ هذا التعتيم، لا يقتصر على الانسان الغربي، إنما يشمل المسلم في طول وعرض البلاد الاسلامية، اضافة الى الجاليات الاسلامية المنتشرة في العالم. ولعل أبرز دليل على الجهل المطبق لدى هذه الجاليات، تصديرها الارهابيين الى سوريا والعراق واماكن أخرى، على أنها خير مكان يقاتل فيه الانسان المسلم، في سبيل شعار "دولة الخلافة الاسلامية"، فيفعل كل شيء في هذا السبيل، من الاغتصاب والقتل والذبح والحرق وكل الفجائع، وهو مرتاح البال!

لكن كيف تصل هذه الحقائق الى المخاطب؟ هذا هو السؤال الكبير.

وهذا تحديداً ما يجيب عليه سماحة المرجع الشيرازي، خلال كلماته العديدة الى القائمين والعاملين في القنوات الفضائية، بان اتباع الاسلوب المنطقي والهادئ والرصين، فقضية حضارية كبيرة مثل قضية الامام الحسين، عليه السلام، "بالامكان ايصالها الى العالم من خلال التفسير المناسب للاحداث، فالعالم بحاجة الى ثقافة أهل البيت".

وثمة حقيقة نفسية وانسانية غاية في الاهمية، يشير اليها سماحته، وهي أن "البشر في كل مكان، يمتلك العقل والضمير والوجدان...". بمعنى أن فكر وثقافة أهل البيت، عليهم السلام، محبب للنفوس البشرية من حيث المبدأ، تبقى المسألة الفنية لا غير، وهذا تحديده يتجسد في دور القائمين على القنوات الفضائية الشيعية، من اداريين وفنيين ومحررين.

أحد القائمين على احد القنوات الناطقة بالانجليزية في بريطانيا، يذكر قصص وحالات عديدة، لمشاهدي القناة من البريطانيين وهم يظهرون أسفهم من عدم معرفتهم الاسلام على حقيقته طيلة الفترة التي سبقت متابعتهم برامج هذه القناة التي بينت أن الاسلام الحقيقي، ليس اسلام "داعش"، واسلام الكراهية والحقد والقسوة التي روجت له حكومات وجماعات في البلاد الاسلامية.

مسؤولية استثمار الحرية

سماحة المرجع الشيرازي، يشير الى مسألة هامة في أمر النشر والتوعية الاسلامية، وهي أن التطور السريع في عالم الاتصالات والاعلام، يفرض مسؤولية جديدة على النخبة المثقفة من المؤمنين، تتلخص في إطلاق الافكار بقوة المنطق والبرهان، بكل قوة وثقة، لان هذه المسؤولية حملها غيرنا كثير، خلال القرون الماضية، وتحديداً في العهود الاولى، عندما كان الأئمة واصحابهم في العهد العباسي يتعرضون لأقسى اشكال التعذيب والتشريد والقتل الجماعي، الامر الذي أعطى مبدأ التقيّة مكانة خاصة في مسيرة العمل الرسالي للأئمة المعصومين في ذلك العهد.

واليوم تتأكد علينا المسؤولية العظيمة، بان نستثمر الحرية الواسعة المتاحة في بعض البلاد للعمل على نشر ثقافة اهل البيت ، عليهم السلام. فالقضية اكبر من كون بعض الاعمال الثقافية والاعلامية، بنظر البعض نوعاً من الترف الفكري، إنما هي مسيرة ممتدة مع الزمن طواها أناس مضحون ومجاهدون، بذلوا كل شيء في حياتهم من اجل إبلاغ رسالة الحق والحقيقة، كما فعل الأئمة والنبي الأكرم، صلى الله عليه وآله.

لذا نلاحظ سماحته يوصي "شباب العراق أولاً؛ وشباب الشيعة في كل العالم ثانياً، وشباب المسلمين في كل العالم، ثالثاً؛ ثم جميع الشباب في العالم كلّه، بقراءة ومطالعة تاريخ أهل البيت صلوات الله عليهم، في العراق، وتاريخ علماء الإسلام في هذا البلد، حتى يستشعروا بالنعمة التي هم عليه...". ومما يذكره سماحته من صورة النضال الذي خاضه كبار علماؤنا في سالف الأيام، ما يروى عن السيد مهدي بحر العلوم، وهو أحد أبرز علماء الدين الشيعة في زمانه، حيث كان ذات مرة في طريقه من النجف الاشرف الى كربلاء المقدسة، عبر طريق نهر الفرات، فوصل الى ناحية "الكفل" وهناك التقى بعدد كبير من اليهود، والتقى بعدد من الاحبار هناك، ودخل معهم في نقاشات طويلة حول الاسلام واليهودية، وكانت تلك المناقشة سبباً في تحوّل العديد من أولئك الاحبار الى الاسلام.

فهذا السيد العالم، التقى بأولئك الاحبار اليهود صدفةً ، وكان وحده، مع وجود مئات من علماء الدين والخطباء والشعراء في ذلك الزمان، فأين هي اعمالهم الثقافية والفكرية، بما يشابه ما قام به السيد بحر العلوم؟

هذا تحديداً ما يؤكد عليه سماحة المرجع الشيرازي وبقوة عندما يدعو الى الإكثار من القنوات الفضائية، فهو لا يدعو الى اطلاق قناة او قناتين، إنما العشرات من القنوات الفضائية، لإدراكه حجم الحضور الهائل للقنوات الفضائية في العالم، والنجاح في هذا المشروع الحضاري العظيم، يتطلب اضافة الى الجانب الفني والتقني، التحقق من الجانب الاخلاقي الذي يمثل العقل المدبّر للاعلام الرسالي الملتزم – إن صحّ التعبير- لذا يدعو سماحته العاملين في هذا القطاع، الى التحلّي بالاخلاص في العمل و"أن تسعوا الى إعارة قلوبكم الى لله تعالى، وأن يكون أملكم وهدفكم الوحيدين هو الله والأئمة المعصومين، عليهم السلام فقط"، كما يوصي سماحته بضرورة التفكّر والتأمل في الاعمال من اجل ان يضمن الانسان ثمار أعماله.

إنها ثورة ونهضة حقيقية في ساحة الاعلام المرئي، يقودها المرجع الشيرازي إدراكاً منه بأن المهيمن عبر القنوات الفضائية على العقول والاذهان، هو من يحظى بالتأثير والنفوذ، ويكون قادراً على تحريك المشاعر ثم صنع المواقف انتهاءاً بتغيير الاحداث.

اضف تعليق