أحدُ الحكماء الذين يُشار لهم بالبنان في العلم والحكمة، سُئِل ذات يوم: بعد هذه الرحلة الطويلة والعمر المديد، ودوركم الكبير في توعية الناس وهدايتهم وتطوير وعيهم وحلّ مشاكلهم، هل بلغتم الرجاحةَ والعقلية التامة المكتملة؟، فأنصت وأطرق طويلا متأملا متفحّصاً مستعيداً رحلته الطويلة، وأجاب جوابا...
أحدُ الحكماء الذين يُشار لهم بالبنان في العلم والحكمة، سُئِل ذات يوم: بعد هذه الرحلة الطويلة والعمر المديد، ودوركم الكبير في توعية الناس وهدايتهم وتطوير وعيهم وحلّ مشاكلهم، هل بلغتم الرجاحةَ والعقلية التامة المكتملة؟
فأنصت وأطرق طويلا متأملا متفحّصاً مستعيداً رحلته الطويلة، وأجاب جوابا مقتضبا: لا زلت أبحثُ عمّن أتعلّمُ منه وأبحثُ عن العِبرة في تجاربه!!.
كم من الناس يمكن أن يجيب بهذه الطريقة؟، ونتوجّه بهذا الكلام إلى أولئك المسؤولين الذين تؤثر أعمالهم وقراراتهم على حياة الناس إيجابا أو سلباً، هل اعتبروا حقاً من تجارب الآخرين، وهل أدّوا الأمانة التي في أعناقهم تجاه مسؤولياتهم الإدارية أو سواها؟، مع أننا ندرك تمام الإدراك أن جميع الناس ومن جميع المستويات يحملون مسؤولية بمستوى وحجم معين، سواءً تجاه عائلته أو معيّته في العمل أو طلابه إذا كان معلّماً، وإن لم يكن مسؤولا عن أحدٍ ما وهو أمر نادر الحدوث، فإنه مسؤولٌ عن نفسه وشخصه وجسده، كما جاء في رسالة الحقوق للإمام السجاد عليه السلام.
إذاً لا يوجد إنسان مُستثنى من المسؤولية، والتركيز هنا على المسؤولين الكبار في الدولة أو الحكومة تفرضه حجم التأثيرات الكبيرة لهذه المسؤولية على حياة الناس، فمع أن الجميع عليهم أن يتعلّموا ويتّعظوا ويعتبِروا، إلا أن المسؤولين الكبار هم الأكثر احتياجاً للاعتبار من غيرهم، لاسيما أن طبيعة الإنسان تدفع وتجنح به إلى حسن الظن بنفسه، وهذا هو السبب الذي قد يمنع المسؤول من الاتّعاظ أو الاستفادة من الآخرين لمعرفة عيوبه الشخصية ومعالجتها، لأنّ الإنسان بطبعه يرى عيوب غيره أكثر مما يرى عيوبه الخاصة رغم وضوحها !.
يقول سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، في إحدى كلماته التوجيهية القيّمة:
(الإنسان بطبعه حسن الظن بنفسه؛ ففي الحديث عن الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه أنه قال: (يبصر أحدكم القذى في عين أخيه ولا يبصر الجذع في عينه)، أي أن أحدنا يرى عيوب الناس جيّداً، لكنه لا يرى عيوب نفسه مهما كانت كبيرة).
ولعلّ فرص العِبرة لن تكون متاحة بعد فوات الأوان، فهناك لحظة تأتي على الإنسان لا يستطيع فيها فعل أي شيء غير الاستسلام لمصيره المحتوم، لذا عليه أن يستثمر الزمن بالوقت المناسب لتصحيح أخطائه التي تتعلق بالمسؤوليات الإدارية أو سواها، من تلك التي قد تلحق أشد الأذى بالناس عندما تكون خاطئة، وذلك عبر الاستفادة من قصص الآخرين وتجاربهم التي يمكن أن تمنحه عِبرة تقوده إلى سواء السبيل.
يوجّه سماحة المرجع الشيرازي هذا النوع من الناس بالقول: (ليعتبر قبل فوات الأوان، وقبل أن يكتشف أنه لات حين عبرة، وليأخذ الدروس من قصص الآخرين).
تأثير السيّئات قد يكون بأثر رجعي
إن الأعمال الخاطئة قد لا تظهر لأصحابها إلا بعد حينٍ قد يطول كثيرا، فما يقع فيه المسؤول من قرارات خاطئة قد لا تظهر له في حينها، لكن الخطأ لا يندثر لأنه سوف يظهر لمن يرتكبه في لحظة ما من عمره، قد تطول هذه اللحظة في ظهورها، وربما لا تظهر إلا في لحظة الموت، لكنها بالنتيجة لا تندثر إلى الأبد، وسوف تظهر لمن يقترفها وحين ذاك لن ينفع الأسف، وبماذا يفيد الندم إن لم يبادر المسؤول أياً كانت صفته إلى معالجة ما يرتكبه من قرارات خاطئة، حتى تسهم على الأقل في إيقاف التأثرات المجحفة التي تُلحق بالآخرين.
وهناك كثير من الظالمين، خصوصا الحكام أو المسؤولين من الذين يحبون أنفسهم، ويخطئون بحق الناس، فيما البطانة التي تحيط بهم تمدحهم وتدفع بهم إلى الإيغال في أفعالهم، فلا تظهر لهم سيئاتهم إلا بعد سنوات طويلة أو بعد فوات الأوان، وهذه هي الثمار السيئة التي قد لا تظهر إلا بعد سنوات طويلة.
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(قد يعمل أحدكم شيئاً سيّئاً ولا يظهر أثره السيئ إلاّ بعد مرور عشر سنين أو عشرين سنة أو أكثر أو أقل، وربما تظهر الثمرة السيّئة لبعض الأعمال عند الموت!).
ولها السبب لا يحق للإنسان أن يعجب أو يستغرب أو ظهور السوء في حياته بعد عشرات السنين ويتساءل لماذا ظهر هذا البلاء في حياتي، لأنها بالأصل هي مساوئ قديمة ارتكبها ولم يرها او يعيها في وقتها، لأنه كان ساهيا لاهيا بمنافعه ورضاه وحسن ظنه بنفسه منعه من رؤية أو معرفة عمله السيئ.
يؤكد ذلك سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) في قوله:
(لا ينبغي للإنسان الذي تصيبه السيّئة أن يعجب ويقول: لماذا أصبت بهذا البلاء السيّئ؟ فلعل جذوره تعود إلى ما قبل خمسين سنة وهو لا يدري).
لماذا يصنع المسؤول الهيبة والوجاهة؟
من أكبر ما يُخشى على المسؤول من نفسه، فيما لو كان ينظر إلى المسؤولية على أنها صناعة هيبة ووجاهة وأموال ومكاسب، هنا سوف يقع مثل هذا المسؤول في معصية كبيرة وخطأ بالغ الفداحة، لأن مسؤولية المركز الوظيفي لم تكن في يوم ما لهذا الغرض، بل لخدمة الناس وتقديم وإكمال ما يحتاجونه لتطوير وتحسين حياتهم، فالوظيفة والمركز ومسؤولياته وصلاحياته لم يُخلَق لتجميع الامتيازات كما يفعل اليوم بعض المسؤولين ممن يستغل منصبه كي يسيء لنفسه وتاريخه وعائلته في مقابل المنافع المادية الزائلة.
مثل هؤلاء المسؤولين ينبغي أن يطلعوا على قصص الآخرين وتجاربهم مع ركوب السوء، كي يصححوا منهجهم في الحياة والعمل ويكفوا عن انتهاج السبل الخاطئة في انجاز مسؤولياتهم، لأن الأخطاء التي يرتكبونها اليوم والتي قد لا يرونها بسبب الانشغال بالمكاسب، سوف لا تُمحى ولا تندثر بتقادم الزمن وإنما ستظهر لهم حتى لو مرات عشرات السنين عليها، وربما تفاجئهم في لحظات الموت، لذلك غليهم أن يستثمروا الفرص المتاحة لهم الآن لأنها لن تتكرر وقد يفهموا ذلك بعد قوات الأوان، وهذا ينطبق على جميع الناس بالطبع.
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(ما يخشى منه حقّاً على الإنسان المسؤول، إذا كان نظره إلى اللوازم التي تأتي نتيجة موقع المسؤولية، كالهيبة والتقدير والوجاهة أو الأموال والمكاسب المادية الأخرى، وكانت هذه الأمور هي التي تدفع الإنسان للعمل).
ولذلك فإن المسؤول حين يعمل لنفسه وليس للناس، والباحث عن الشهرة والمال والمكاسب المادية، فإنه سوف يخسر مركزه وموقعه لأن الناس سوف تلاحظ أفعاله وما يقوم به من منافع ومصالح لنفسه وذويه والمقربين منه، وقد يجد من يقول له، إنك كمسؤول لم تصن أمانة المسؤولية، وإنما عملت من أجل نفسك وامتيازاتك كونك تبحث من خلال المنصب والمسؤولية عما يحقق لك ما تصبو إليه من مكاسب ومنافع، وليس ما تفرضه عليك المسؤولية في تحسين حياة الناس وتطويرها وجعلها أكثر يسرا، وهكذا فإن هذا النوع من الناس أو المسؤولين سوف يفقدون مكانتهم لأنهم لم يتخذوا العِبرة والدروس من غيرهم.
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله): (قد يقال للإنسان الذي هو بموقع المسؤولية، بعد تعب مرير وعناء كثير: لقد فعلت ما فعلت من أجل أمور تخصّك كالوجاهة أو الأموال والمكاسب المادية الأخرى، وقد حصلت عليها فلا شيء لك عندنا، لقد عملت للشهرة والسمعة وحسن الصيت).
وبهذا نفهم أن هناك فرص كثيرة متاحة للمسؤولين وللناس جميعا كي يتعظوا ويغيروا من طرق التعامل مع صلاحياتهم، بما يحقق لهم المكانة الصحيحة والكبيرة في قلوب الناس، وهذه هي المكانة الحقيقية التي يكسبها الإنسان المسؤول وغيره، لأنه استفاد واتعظ من الآخرين قبل فوات الأوان.
اضف تعليق