q
إسلاميات - الإمام الشيرازي

صوت خالد ورائد للأجيال

مقتطفات من السيرة الذاتية للمرجع الراحل الإمام السيد محمد الشيرازي

والتاريخ الشيعي حافل بعلماء وفقهاء تباينوا في قدراتهم العلمية ورؤيتهم الاجتماعية والسياسية وتفاعلهم مع الأحداث والمواقف، ومن بين الفقهاء والعلماء الذين تركوا علامات مميزة وشكلوا نقاط تحوّل في مجرى التاريخ الأسرة الشيرازية التي احتوت بفكرها جميع الأبعاد الإنسانية وتركت لمسات من خلال تناولها المميز للقضايا...

يأتي دور الفقهاء والعلماء في قيادتهم للمجتمع الإسلامي وفق الأسس التي سنها الله تعالى في قيادة الإنسان للمجتمع، ومنها المؤهلات اللازمة لتصدي القيادة الشرعية النائبة عن الإمام الغائب الثاني عشر من أئمة أهل البيت (ع) ولاتّباع سنة الرسول (ص) وآل البيت (ع) لما ورد في الحديث: (فأما من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً على هواه، مطيعاً لأمر مولاه، فللعوام أن يقلدوه)، وفي الحديث: (العلماء ورثة الأنبياء).

فبعد أن كانت الأحكام الشرعية تؤخذ من الرسول (ص) ومن بعده من الأئمة الاثني عشر (ع) وتلاميذهم من بعدهم، أصبح المناط في تلقيها العلماء المجتهدين القادرين على استنباطها بعد تخطيهم لمراحل علمية متقدمة تؤهلهم إلى الاجتهاد.

والتاريخ الشيعي حافل بعلماء وفقهاء تباينوا في قدراتهم العلمية ورؤيتهم الاجتماعية والسياسية وتفاعلهم مع الأحداث والمواقف، ومن بين الفقهاء والعلماء الذين تركوا علامات مميزة وشكلوا نقاط تحوّل في مجرى التاريخ الأسرة الشيرازية التي احتوت بفكرها جميع الأبعاد الإنسانية وتركت لمسات من خلال تناولها المميز للقضايا في مختلف الجوانب السياسية والاجتماعية والاقتصادية، والتي أغنت التاريخ المعاصر علماً وثقافة وجهاداً وأخلاقاً.

تمتد جذور هذه الأسرة تاريخياً إلى زيد الثائر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (ع)، ومن أبرز أعلامها:

- المجدد الكبير الإمام السيد محمد حسن الشيرازي (1230 -1312 هـ):

تصدى رحمه الله للمرجعية العليا بعد الشيخ الانصاري، وعرف عنه الكثير من المواقف المتنوعة، السياسية، والفقهية، والعلمية، والاجتماعية، وأبرزها سياسياً قيادته لثورة التبغ (التنباك) في إيران آنذاك، حيث استطاع أن يدحر الإمبراطورية البريطانية مع عظمتها في ذلك الوقت.

- آية الله العظمى الميرزا محمد علي الشيرازي:

الشقيق الأكبر للميرزا محمد تقي الشيرازي، عرف عنه مرجعاً للتقليد آنذاك لكثير من أفراد المجتمع الاسلامي، وفي العراق خصوصاً.

- آية الله العظمى الميرزا محمد تقي الشيرازي:

اشتهر الميرزا محمد تقي الشيرازي بقيادة الثورة العراقية الكبرى في القرن العشرين ضد الاستعمار الإنكليزي والتي شملت جميع أنحاء العراق في العام 1920 حيث كان مرجعاً دينياً لامعاً، وقائداً سياسياً بارزاً، استطاع أن يحرض الآلاف من المسلمين في العراق والدول المجاورة ضد الاستعمار البريطاني، ونجح من خلال مكانته الدينية والاجتماعية في الأمة الإسلامية أن يحقق الانتصار على المستعمر..

استشهد على إثر دس السم له في 3 ذي الحجة من العام 1338هـ.

- آية الله العظمى الميرزا إسماعيل الشيرازي.

- آية الله العظمى الميرزا محمد الشيرازي الابن الأكبر للمجدد السيد محمد حسن الشيرازي.

- آية الله العظمى الميرزا عبد الهادي الشيرازي:

نشأ وترعرع في أجواء سامراء، ونهل من حوزاتها ومن حوزات كربلاء المقدسة والنجف الأشرف، وكان مرجع الأمة الأعلى بعد الإمام أبي الحسن الأصفهاني والإمام السيد البرجردي، وله شرف المشاركة مع المجدد الشيرازي في ثورة العشرين.

- آية الله العظمى السيد محمد ميرزا مهدي الحسيني الشيرازي:

تقلد المرجعية حيث اتسعت وانتشرت بشكل كبير، وله شرف المساهمة في ثورة العشرين الكبرى مع الإمام محمد تقي الشيرازي.

- آية الله الحاج السيد رضي الدين الشيرازي:

كان من مشاهير علماء طهران، وله من المؤلفات العديدة والقيمة.

- آية الله الشهيد السيد حسن الحسيني الشيرازي:

ولد في النجف الأشرف في العراق، ودرس فيها وتعلم وعلم الكثيرين، حتى أصبح مفكراً إسلامياً بارزاً، ومؤسساً للعديد من المدارس الدينية منها الحوزة الزينبية في دمشق، وكتب العديد من المؤلفات أبرزها:

موسوعة الكلمة (19 مجلداً)، خواطري عن القرآن (4 مجلدات)، مسند الإمام موسى بن جعفر (ع)، إله الكون، ودواوين شعر متعددة.

اعتقل في العراق عدة مرات، حتى اضطر لترك بلاده والهجرة إلى لبنان، تابعه نظام البعث في العراق واغتاله في بيروت في العام 1400هـ.

- آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي:

وهو الشقيق الأصغر للإمام محمد الحسيني الشيرازي، تتلمذ في مدرسته، ومنه تعلم الاتساع العلمي المعرفي، والسير في ركاب الأسرة بمفاهيمها وعلومها وخطها الجهادي في الدين والعلم والمعارف.

ولد السيد صادق الشيرازي في كربلاء عام 1360هـ، وقام بتدريس العديد من العلوم الدينية في الفقه والاصول، أبرزها (الخارج) منذ العام 1398هـ في دولة الكويت ثم مدينة قم المقدسة، ومن أبرز مؤلفاته التي بلغت السبعين:

كتاب القيم، شرح العروة الوثقى، وبيان الأصول (عدة أجزاء)، وعلي (ع) في القرآن (مجلدين)، وفاطمة الزهراء (ع) في القرآن، والمهدي (ع) في القرآن، والشيعة في القرآن، وأهل البيت (ع) في القرآن، وشرح السيوطي (مجلدين)، وشرح شرائع الإسلام (أربعة مجلدات)، وشرح التبصرة (مجلدين)، وشرح الروضة البهية في شرح اللمعة (أكثر من عشر مجلدات)، وحقائق عن الشيعة، والسياسة من واقع الإسلام، والقياس في الشريعة الإسلامية، والمهدي (ع) في السنة، والإصلاح الزراعي في الإسلام، والطريق إلى بنك إسلامي.. إلخ.

ولادة الإمام الشيرازي ونشأته:

ولد السيد محمد الحسيني الشيرازي في العام 1347هـ في مدينة النجف الأشرف، إحدى المدن العراقية الكبيرة، وفيها مرقد الإمام علي بن أبي طالب (ع)، ويعد السيد محمد الحسيني الشيرازي الابن الأكبر للسيد الميرزا مهدي الحسيني الشيرازي ابن الميرزا حبيب الله الحسيني الشيرازي ابن آغا بزرك الشيرازي، أخ المجدد الشيرازي الكبير، له ستة أشقاء توفي منهم اثنان مطلع حياتهم (علي وحسين)، وله من الشقيقات سبع، توفي منهن ثلاث في مدينة كربلاء في العراق.

هاجر الإمام محمد الحسيني الشيرازي من مدينة النجف الأشرف بصحبة والده وهو في التاسعة من عمره، وكان تعليمه على أيدي كبار العلماء والأساتذة والفقهاء منهم:

- آية الله العظمى الميرزا مهدي الحسيني الشيرازي.

- آية الله العظمى السيد هادي الميلاني.

- آية الله العظمى الشيخ محمد رضا الأصفهاني.

- آية الله العظمى الشيخ محمد الخطيب.

- آية الله السيد زين العابدين الكاشاني. وغيرهم..

تاريخه العلمي ومكانته الدينية والاجتماعية:

عُرفت التقاليد الدينية في المدارس الفقهية بتحقيق المتخصص بعلوم الدين مستويات علمية -معرفية لكي ينال مرتبة الاجتهاد، وكلما كان الفقيه أجود استنباطاً للأحكام الشرعية من الأدلة الاجتهادية (الكتاب، السنة، الإجماع، العقل) وقادراً على تطبيق القواعد الإسلامية بمختلف أبعاد الحياة وتنوعها، يكون قد حقق أعلميته وفقاهته بمستوى أعلى، لذا فإن الاعلمية عدت مجموعة القدرات المكتسبة التي يظهرها المرجع الديني من خلال سعيه واجتهاده بحيث يكون مواكباً لتلك المقدرة التي تؤهله لأن تجعله رمزاً للدين وممثلاً للإمام المعصوم (ع).

كان الإمام الشيرازي شديد التعلق بالمعرفة والعلوم بأنواعها، يميل إلى اغتراف كافة المعارف في الدين خصوصاً والآداب والعلوم البحتة عموماً، فضلاً عن قدرته الفائقة في وصف التاريخ القديم والمعاصر وصفاً قل مثيله، ومقدرته العالية بالحس النوعي للكتابة في السياسة والإعلام وتقييم الأحداث المعاصرة تبرز من خلال ما قام به من زيارات ولقاءات مع شخصيات سياسية مهمة تولت السلطة خلال حكم العراق المعاصر من أهمها: اللقاء بوزير الشؤون الاجتماعية، واللقاء بسعيد القزاز وزير الداخلية، واللقاء مع الشيخ محمد رضا الشبيبي، واللقاء مع خليل كنه وزير المعارف، واللقاء بعبد الهادي الجلبي وزير الأشغال العامة، واللقاء مع السيد محمد الصدر رئيس الوزراء، واللقاء مع عبد الكريم قاسم، رئيس الوزراء، واللقاء مع الفريق الركن محمد نجيب الربيعي رئيس مجلس السيادة، واللقاء مع محمد محسن الرفيعي مدير الاستخبارات العسكرية، واللقاء بفؤاد عارف، متصرف لواء كربلاء أيام حكومة عبد السلام عارف من العام (1963-1966)، واللقاء بالدكتور عبد الرحمن البزاز رئيس وزراء العراق، واللقاء بالرئيس العراقي بعد انقلاب العام 1968م أحمد حسن البكر، ومن الشخصيات السياسية التي التقها السيد إدريس البرزاني، أحد زعماء الأكراد.

أما ما تمتع به السيد الشيرازي من قدرة متنوعة في الكتابة والتأليف أفصح عنها الإنتاج الغزير له وما يتمتع به، فتلك الإحاطة المعرفية عبر عنها الإمام من خلال اهتمامه الشديد بالعقائد الدينية المختلفة والحضارات الإنسانية والآثار والتاريخ والفلسفة والقانون والدراسات الاجتماعية والاقتصادية والإدارة، مع ميل واضح للتأمل والتفكير، مما انطبع على تاريخه الفكري خلال حياته.

فموسوعة الفقه المبتكرة في كثير من أبوابها وعناوينها تقع في أكثر من مائة وخمسين مجلداً، تجاوزت عدد صفحاتها السبعين ألف صفحة من القطع الكبيرة.

وقد تميزت هذه الموسوعة بالمسائل المستحدثة مع استنباطات جديدة مبتكرة عبر استيعاب دقيق للأدلة من كل الجوانب المعرفية والدينية والجهاد والمجتمع والبيئة.

لقد شكل الإمام الشيرازي مدرسة في كثير من العلوم المتخصصة بشكل عام، والعامة بشكل أوسع، علاوة على ذلك، فقد امتاز بنزعة واضحة نحو التكوين الفكري والقدرة العلمية والكفاءة القيادية والإدارية وهو في السنين الأولى من حياته، ونتيجة لهذه القدرة والكفاءة، فإن آية الله العظمى السيد محمد الحكيم، وآية الله العظمى السيد عبد الهادي الشيرازي وآية الله العظمى السيد أحمد الخوانساري، قد وكلوه إدارة الحوزة العلمية في كربلاء عام 1380-1382هـ بعد وفاة والده آية الله العظمى السيد ميرزا مهدي الشيرازي، وعمره لم يتجاوز الـ (33) عاماً.

كما أن آية الله العظمى السيد محمد هادي الميلاني صرح باجتهاده لبعض الأفاضل، كما أن آية الله العظمى ميرزا مهدي الشيرازي، وآية الله العظمى السيد علي البهيهاني الرامهرمزي شهدوا للسيد الشيرازي بلوغه مرتبة سامية من الاجتهاد بين الأعوام 1379- 1392هـ.

الجوانب التربوية في حياة الإمام الشيرازي:

ونظراً لبروز قدراته العلمية والإدارية والبحثية والتدريسية خلال مراحل حياته فإنه تميز بهوية خاصة عكست موسوعيته المعرفية على معظم سلوكه ومنه الجانب التربوي، فكان دائم التشجيع لطلبته، وطلاب العلم، من خلال إرشاد وإفساح المجال أمامهم ورعاية مصالحهم والاهتمام بها، فهو يشجع طلبته على التحصيل دائماً، وكان بابه مفتوحاً دائماً لكل مستويات طلاب العلم سواء في السنوات الأولى من حياته أوفي السنوات الأخيرة.. فهو واسع الصدر في مناقشتهم ومتابعتهم وإفهامهم ما قد عسر عليهم، وارشادهم إلى ما خفي عنهم دونما تبرم أو ملل، ويكفي أن نذكر أن المراكز والمدارس والحوزات العلمية انتشرت في حياته كانت بدعم وتوجيه خاص منه، فهو عموماً كان نموذجاً رائعاً لمفهوم التوجيه والإرشاد التربوي، حيث انعكست ملامح تربيته على مجموعة كبيرة من الأجيال المختلفة، حملت المسؤولية الشرعية والإسلامية في الكثير من بلاد العالم في أقصى مشارق الارض، وأبعد بلدان الغرب.

لقد حمل تلامذته الذين نهلوا من علومه الكثير من السمات، حتى انعكس ذلك على شخصياتهم في عملهم الفقهي والشرعي والدراسي سواء في العراق أو الكويت أو إيران، وأصقاع أخرى من العالم مثل سورية ولبنان والولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، والبلدان الأفريقية.

لقد نمّى الإمام الشيرازي الشعور والوعي بكينونة الفرد الإنسان، حيث دعم هذا الجانب إلى ما لا نهاية لدى اتباعه ومريديه وتلامذته ومن تحوط حوله ونهل من فكره قريباً منه أو عبر مؤلفاته.. فهو استطاع أن يخلق التفاعل بين الإنسان والكتاب، وانتج قيماً جديدة لم تكن معروفة عبر سياق الحوزة ودراساتها، فكان اعظم تفاعل حققه من خلال بناء تصورات قائمة على النضج والتعلم ثم الإبداع لدى معظم طلبته.. حتى غدا لدى الجميع رائداً نوعياً في بناء الذات من خلال البعد التربوي، وهو ما نجح به الإمام إلى حد كبير في اختيار المثل الأعلى الذي يتم التعلم منه وتقليده في الأسلوب والطريقة والتحدث والإحساس بمشاعر الآخرين سواء المحيطين به أو من هم بعيدين عنه، وعلى ذلك فإنه جمع حب الجميع كأسلوب تربوي متعلم -مكتسب، وعطف الأبوين كاتجاه محدث نحوه ونحو الآخرين، فجمع هذه الصفات وهو العالم الموسوعي المعرفي الجليل.

لقد استطاع الإمام الشيرازي أن يحول الطاقات الناشئة لدى تلامذته ومريديه ومن قرأ فكره من موضوعها الخام الأصلي إلى موضوع بديل ذي قيمة ثقافية وتربوية واجتماعية، وزرع في النفوس لدى الأجيال مبدأ المسالمة، وهذه الأفكار والممارسات انتصبت شامخة في ذات من آمن به أولاً، وفي عموم الناس ثانياً.. لقد جعل المنبهات الثقافية الفكرية سمة في دروسه التربوية والدينية، والميول نحو القراءة والكتاب والتأليف خطوة لا بد منها لكل دارس للعلم والدين مع التحريض الفعال لتفجير الطاقات وبزيادة ملحوظة.

إن السيد الشيرازي في اتجاهاته المتفردة في التدريس والتعليم وبذر روح التواصل الفكري، خلق المعيار المعروف أو النموذج المطلوب في الاتفاق الديني -العلمي- الموسوعي لدى من تتلمذ على يده أو من سايره خلال سني حياته، أو من قرأ له مؤلفاته.. فهو صنع لدى هؤلاء (تلامذته، مريديه، مقلديه، القراء) مبدأ قل مثيله، وهو إنكار الذات، فجعل الجميع لا يهتم بإشباع حاجاته الدنيوية -المادية، أو تحقيق النفع له أو لهم، بل يركز اهتمامه على إشباع الحاجات الخالدة، مثل الكتاب، والأفكار والدعوات نحو المسالمة واللاعنف، واعتبرها الإمام قدرة تنم عن الصحة النفسية العالية، وهي قدرة على التكيف مع نفسه أولاً، ومع المحيطين به، ومع الجميع وتحت ظل أي ظرف في أي مجتمع، ومع المجتمع الذي يعيش فيه، وهذا ما يسميه علماء النفس، القدرة على التمتع بحياة خالية نسبياً من الاضطرابات، والمليئة بالتحمس، وهنا يتسم الفرد بالرضا عن الذات، فلا يبدو منه ما يدل على عدم التكيف سواء الاجتماعي أو الفكري أو التربوي، كما لا يسلك سلوكاً في العلاقات يبتعد عن المجتمع، بل سلوكاً معقولاً يدل على الاتزان الانفعالي والعاطفي والعقلي والاجتماعي في معظم المجالات وتحت تأثير أغلب الظروف، فهو التكيف النفسي الذي يهدف إلى تماسك الشخصية ووحدتها، وتقبل الفرد لذاته، وتقبل الآخرين له، بحيث يترتب على هذا كله شعوره بالاطمئنان والراحة النفسية، هذا ما كان يعيشه الإمام، وعلّمه لطلبته ومقلديه ومن حوله.

الجوانب الفكرية في حياة الإمام الشيرازي:

إن من أهم الملامح التي تميز شخصية الإمام محمد الحسيني الشيرازي هو نبوغ الجانب الفكري، فهو في كل ما كتب أو حاضر (ألقى محاضرات) أو تحدث، كان مثالاً للنزعة الدينية العقلانية، فهو نموذجاً لالتزام العالم المسالم بقضايا الإنسان عامة والمجتمع الإنساني خاصة، فهو استطاع بمزج فريد بين عقلانية العالم المفكر الجليل، والعالم الباحث الموضوعي، وحياديته، فقد نجح في المزج بين علوم الدين مثل الفقه والأصول والعقائد والعلوم الأخرى مثل القانون والاقتصاد والسياسة والإدارة والاجتماع والبيئة، ذلك المزج الذي لا يقدر عليه إلا من امتلك قدرات الإمام الشيرازي، وتحلى بطباعه وسلوكياته وأخلاقياته..

لقد طرح الإمام الراحل نهجاً جديداً للإنسانية في كتاباته المتخصصة عن مبدأ اللاعنف والمسالمة، وأسس نظريته ذات أبعاد ومقومات النظرية الحديثة، وطرح أفكاراً جديدة في عالم اليوم المتصارع، وكتب في التاريخ، والتاريخ الاجتماعي- الحضاري، واستطاع أن يربط هذا الجهد بمنهج السياسة وأفكارها وتطبيقاتها، فألف الكثير عن السياسة وعلومها والقانون والحقوق وناقش دقائق ما حواه هذا العلم عبر التاريخ حتى يومنا، مع مدخلاً إسلامياً للقانون الإسلامي، وكذلك التقييم الميداني للمجتمع من خلال مؤلفه القيّم فقه الاجتماع بجزئيه، حيث عرض فيه البنى الاجتماعية والتكوينات والجماعة ومشاكل المجتمعات الانسانية، فضلاً عن الحلول المقترحة.

أما المشروع الحضاري - النهضوي الذي كتب عنه الإمام فكان يتناول فيه الأمة الإسلامية الواحدة، والحريات والاخوة الإسلامية، والشورى والمراجع، وشورى المراجع، والأحزاب والتعددية الحزبية، والحكومة الإسلامية الواحدة، والتوعية الثقافية كذلك تناول وكتب في الكثير من مؤلفاته عن التنظيم في الحياة المعاصرة، حيث تناوله من عدة جوانب، منها تنظيم الوقت الإداري في المصنع والمعمل والإدارة، وتنظيم الحياة العامة في المجتمع، كذلك التنظيم السياسي، وتشكيل الحركات والأحزاب وكتب عن حقوق الإنسان، وحقوق المرأة، ودورها في الحياة الأسرية والاجتماعية والعملية، حتى بلغت إسهاماته في تأليف الكتب ما يزيد على الألف ومئة كتاب، قدمها للمكتبة الإنسانية مطبوعة، وغدت أغلبها مراجع شديدة الأهمية لطلاب العلم والمتخصصين على حد سواء.

لقد تم عرض بعض هذه المؤلفات في هذا الكتاب ولو بشكل مقتضب ولكن بتنوع فكري.

الإسلام وعالمية الرسالة:

الإسلام رسالة عالمية، وشريعته التي يستمد منها الناس منهج حياتهم هي شريعة كونية، والنصوص في ذلك واضحة وحاسمة، لذا فإن هذه الرسالة هي مصدر للمدلول العملي لحياة الناس والشعوب والمجتمعات، وعليه فإن الإمام الشيرازي تصدى باهتمام بالغ لأمور المسلمين في العالم، وهو بذلك يقوم بالدور المسؤول عن بعض مهمات المرجع الديني ويعبر عن تلك الوظيفة القيادية والمسؤولية الكبيرة التي يجب أن يؤديها المراجع والفقهاء، وبذلك فإن الداعين إلى الإسلام يحتاجون إلى نوع من القوة والمنعة، لأنه لا بد للمرجعية من قوة تكفل احترامها، وتحقق المساواة للنظام الاجتماعي، فليست الأمة الإسلامية مقصورة على مجرد الدعوة لدين الله، لكنها بالإضافة إلى ذلك لا بد أن تقوم بحماية المسلمين وشؤونهم، فكانت من سمات الإمام الشيرازي البارزة هي الاهتمام بأمور المسلمين في العالم ومن أهمها:

-دعم القضية الفلسطينية والمجاهدين الفلسطينيين.

- دعم قضية الأكراد في شمال العراق.

- دعم الثورة الإسلامية في إيران، وهو في كربلاء، قبل قيامها.

- مساندة قضية المسلمين المضطهدين في روسيا مساندة إعلامية كبيرة.

- ساند قضية المسلمين في إندونيسيا التي ثارت ضد الماركسية.

- آراءه حول حل المشكلة في قضية الجنوب اللبناني.

- وقوفه إلى جانب قضايا المسلمين في أفريقيا، وكان من المحرضين الأوائل لتأسيس مؤسسة (بلال مسلم مش) التي أصبح لها اليوم أكثر من سبعين فرعاً في أنحاء العالم.

- مساندة قضية المسلمين في تركيا.

- الدعم اللامتناهي للقضية الإسلامية في أفغانستان، حيث ألف عنها الكراسات والكتب والرؤى الكثيرة، وطرح المعالجات العديدة عنها.

- أما القضية العراقية ومعاناة الشعب العراقي، فقد استحوذت على جل اهتمامه، عبر الأخيرة.

- لقد أرسى الإمام الشيرازي منذ نزوله إلى ساحة العمل الجهادي -الإسلامي بكل أشكاله (الفكري، الثقافي، الديني، الإنساني، الاجتماعي، الإعلامي) قيماً جديدة لم تكن مألوفة في العمل الحوزوي والمؤسسة الدينية الإسلامية عموماً، فقد طرح تنوعاً من التباين الثقافي الفكري الديني الذي ينطوي على أنواع من الدرجات المتفاوتة في التعامل والقبول والسلوك، انطلق في ذلك من طبيعة الإسلام الشاملة، ومنطقه العقلاني الذي أسس حضارة امتدت عبر أربعة عشر قرناً حتى أيقن الجميع في هذه الانطلاقة التي قادها الإمام الشيرازي، إن الإسلام كدين وحضارة، دين كتشريع إلهي وكتاب منزل من الخالق، وسنة حسنة جاء بها رسول الله (ص) وتبعها آل بيته (ع) في منهجهم، واستطاع أن يصنع عمقاً في قضية أممية عبر ثقافته إلى العالم، ونشره لمذهب أهل بيت النبي (ص)، فكان مدافعاً حقيقياً عن الشيعة وحقوقهم الفكرية والإنسانية المشروعة، وعليه فإن إحدى الأصوات التي ستبقى خالدة في عالم اليوم، هو صوت الإمام الشيرازي الذي بدأ من كربلاء مروراً بأرض الكويت ليستقر في مدينة قم المقدسة.

هذا الصوت الدافئ الذي يحمل الثقافة والعلم والفنون والشريعة والسنة النبوية ودراسة المجتمع والاقتصاد والإدارة وعلم السياسة وعلوم الفقه والأصول والعقيدة والمسائل المنتخبة والتاريخ والجغرافية البشرية، وأعظمها قاطبة نظريته في اللاعنف، بعد أن فاق (ثورو) في الصعيد المدني و(غاندي) في اللاعنف و(مارتن لوثر كنج) في العصيان المسالم في رؤاهم النظرية والتطبيقية، حيث خط أسساً متكاملة الأبعاد لنظرية عصرية تضع العلاجات الدنيوية محطاً، والأجر والإثابة الإلهية معياراً، فكان (رحمه الله) الموسوعي - المعرفي في الدين والعلم والبحث...

* فصل من كتاب: (الإمام الشيرازي التنوع الإنساني المبدع) من إصدارات مركز الإمام الشيرازي للدراسات والبحوث/2002–2018 Ⓒ
http://shrsc.com

اضف تعليق