q
النَّاس لا تمْلِك أنْ تَزْجُر عالِمَ الدِّين غَيْر الكُفْء وغَيْر المُقْتَدِر، وأن تمنعه مِنْ دُونِ التَّصَدِّي لِحِوار سِياسِيّ بِذِهْنيَّة سَاذِجِةٍ فِي مُقابِل الاستبداد ذِي الذِّهْن المُخادِع الماكِر الفاجِر. كَما لا يَسْتَطيْع النَّاس لَوْم المُقَصِّر على ما فَرَّط فِي جَنْبِ الحُقوق عِند الخَسارَةِ والفَشَل...

يُذْكَر فِي التَّداوُلاتِ السِّياسِيّة التَّحلِيليّة أَنَّ هُناك فَرقاً واضِحاً بَيْنَ نَمَطِ التَّفْكِير السِّياسِي عِنْد ُكُلٍ مِنْ عُلَماء الدِّينِ وَرُؤوسِ العلمانِيَّة بِصِفَتِهما سِياسِيَّينِ مُعارِضَيْن.

وُتَظْهرُ مَلامِحُ هَذا الفَرْق حِيْنَ يُقَرِّران فِي دَائِرة الصِّراع اسْتِئْناف أَو اسْتِدْراك حِوارٍ سِياسيٍ مَعَ نِظامٍ مُسْتَبِدٍّ يشْتَرِكان فِي مُواجَهَتِه وَيَسْعَيانِ نَحْو انْتِزاع حُقوقِ شَعْبَهُما مِنْه بِأَقَلِ الخَسائِر.

وَأنَّ والمُمَيِّزَ الفارِقَ بَيْن عالِم الدِّين والعلْمانِي السِّياسِيين أنَّ الأَولَ مُتَشَرِّعٌ مَقْبُولٌ شَعْبيّا بِحُكم تَقالِيد الثَّقافَةِ السَّائِدة، وأنَّ والآخَرَ مُتَعَلْمِنٌ يُسْتَظِل الفِئَةَ الإجْتِماعِيَّة الوُسْطى عَمِيقَةَ النُّفوذ فِي الدَّولةِ وَقطّاعِها الخاصِّ وَيَقُود بِهما الثَّقافَةَ الجَدِيدَة.. فَتَكُون مُحَصِّلةُ نَتائِجِ الحِوارِ السِّياسِي مُختَلِفةً لِصالِح الأَوَّل "المُؤمِن" الثِّقة الأَصِيل بِحَسْب رُؤيَةِ الإِتِّجاه الإِجْتِماعي التَّقليدي العام؟!

تِلكَ مُحصِّلةٌ مَبْنيَّةٌ على سَرابِ آمالٍ وأَحْلامِ يَقِظة وَرْدِيَّةٍ يَنْقُصها العِلمُ والخِبْرة وَضُرُورات الواقِع.

إِنَّ مُجْتمعاتِنا تَكُنُّ كُلَّ إِجْلالٍ واحْتِرام لِعالِم الدِّينِ المُتَشرِّع الأَصِيل لِتَقواه؛ لكِنَّنا لا نَقْطَع بِالقَول أَنَّ نَتائِج الحِوار السِّياسِي مَع الإسْتِبداد بِقِيادَة عَالِم الدِّيْن السِّياسِي سَتُفضي إلى ما هَو أَفْضَلُ وأعلى شَأنا وَمَقاما، أَوْ أَنَّها سَتَأتِي بِخَيْر كَثِير، ولا سِيَّما أنَّ واقِعَ الصِّراع قَبْل الوُلُوجِ فِي الحِوار يَشْتَرط الكَفاءَةَ لا الأبُوة الرُّوحِيّة!ِ

‏مُعطِياتُ الواقِع تُشِيرُ إلى انَّ الحِوارَ مَع الاستبداد مَعْلومُ النَّتائِج فِي الدِّقَة السِّياسِية، وأنَّ التَّفوقَ يَتَحَقَّق بِعَددِ المَساراتِ الحَيَوِيَّةِ المُتاحَةِ لِما بَعْدَ صُدُورِ نَتائِجِ الحِوار إذْ أنَّ َأدَواتِ الصِّراع والرِّهان على النَّتائِج ثابِتَة، والحُدودَ مَعْلومَةٌ، والخُدْعَةَ والمَكْرَ والفُجوَر لا بُدَّ مِنْ حُضُورِها عِنْدَ طَرَفِ الحِوار المُفوَّض شَعْبِيا أَوْ بِالوَلايَةِ وَالوِصايَة، بَِصرْفِ النَّظَرِ عَنْ كَونِ طَرف الحِوارِ مُتَشَرِّعا أَوْ مُتَعَلْمِنا.

الدهاة وَحْدَهُم مَنْ يَصُوغ الخُدْعَةَ والفُجورَ صِياغَةً مُنْتِجةً فِي الحِوارِ السِّياسِي وَيُوفِر المَساراتِ اللَّازِمَة.. الدَّهاءُ يَتَحصَّلُ فِي الطَّرفِ المُحاوِر "المُتَشرِّع" وَ "المَتَعَلْمِن" علىٰ حَدٍّ سَواء، وَقَدْ يُعْدَم فِيْهما، والشَّرِيعَةُ أَو العلمانِيَّة اتِّجاهَان فِكْريان ولَيْسَتا صِفَتَين يُشْتَرط تَوافُرَهما فِي المُحاوِر!

الدَّهاء السِّياسِي بِما اشْتَمَل عَليْه مِنْ خُدْعةٍ وَفُجورٍ وَمَكْرٍ شَرْطٌ لا بُدَّ مِنْ تَوافِره.. فَأَيٌ مِنَ المُتَصَدِّيين لِلحِوار "المُتَشرِّع" و"المُتَعلْمِن" يَرضى بِرُكوب صَهْوةِ الخُدْعَةِ والمَكْرِ والفُجُور؟!

فِي التَأرِيخِ الشِّيعِي نَماذِجُ لِعُلماءِ دِيْن سِياسِيين جَرُّوا الشِّيعةَ مِنْ رِقابِهِم إلى الهَزائِم وَالأزَمات والنَّكبات المَصِيريَّة، وعَامِلُ ذلك أنَّ كَفاءَتَهم المُتَوفِّرة عِنْد التَّمهِيدِ لِلحِوار السِّياسِي أَوْ قِيادَتِهِ مَع الاستعمار أَوْ دَوْلَةِ الاستبداد تَمَثَّلت فِي ثِقَة النَّاس فِيْ إِيمانِهم بِصِفَتِهم أُمَناء الشَّرِيعَة لا سياسيين.. وَكَيْف لِـ"الأَمِيْن" أَنْ يَلِجَ مَنافِذَ الحِوار السِّياسي مِنْ غَيْر أَنْ يَتَسلَّح بالدّهاء وبِالخُدْعَةِ والمُراوَغَةِ والمَكْرِ والفُجُور إلى جانِب حِفاظِهِ على تَقْواه والمُثل والقِيَم والخُلُق العَظِيم.

‏المُصِيْبة التَّي وَقَعَت على رُؤوسِ النَّاس فِي الحِوار مَعَ الاستعمار تَأرِيخِيَّا، وَمَع الاستبداد على مَسْرحِ الواقِع: أَنَّ النَّاس لا تمْلِك أنْ تَزْجُر عالِمَ الدِّين غَيْر الكُفْء وغَيْر المُقْتَدِر، وأن تمنعه مِنْ دُونِ التَّصَدِّي لِحِوار سِياسِيّ بِذِهْنيَّة سَاذِجِةٍ فِي مُقابِل الاستبداد ذِي الذِّهْن المُخادِع الماكِر الفاجِر. كَما لا يَسْتَطيْع النَّاس لَوْم المُقَصِّر على ما فَرَّط فِي جَنْبِ الحُقوق عِند الخَسارَةِ والفَشَل. وَلا مِنْ أَحَدٍ يَسْتَطِيع الإشْتِراط على عالِم الدِّين امْتِطاءَ الدّهاء والخَدِيعة وَالمَكْر والفُجُور لِكَي يَضْمَنَ لَهُم الفَوزَ والتَّفَوقَ.

‏فِي العُصُورِ الأُورُوبيَّة الوُسْطى أَجازَت الكَنِيْسَةُ ضِمْنِيا وَبارَكَت لِلمَلِك وَلِأفْراد عائِلَتِه ولِعَناصِرِ بِطانَتِهِ ارْتِكابَ الدّهاء والخُدْعِةِ والفُجُورِ والفُسُوق، لأَنَّها مِنْ لَوازِم السِّياسَة. فَما كانَ لِقَيْصر لِقَيْصَر، وما كانَ لِلربّ لِلرَّبّ، حَتّى يَسُود الرَّبُّ وجُنْدُه الكَهَنَة، حَيْثُ كانَتِ الكَنِيْسَةُ تُدْرِك بِأنَّ السِّياسَة لا تَصْلُح لِلكَهَنَةِ فِي الأَدْيِرَة وَبَيْنَ النَّاس وفِي غُرَف التَّفاوُض السِّياسِي والحِوار، وَتَجُوز لِفِئَةِ المُلوك الفُجَّار الفُسّاق فِي مِواجَهَةِ نُظَرائِهم المُلُوك الأَعْداء الفُجّار الفُسّاق، كما تجوز لهم لِبَسطِ الأَمْن والإِسْتِقرار الإِجْتِماعِيين.

يَبْدو أَنَّ عَالِمَ الدِّيْن الشِّيْعِي باتَ َيَقْتَرب مِنْ إِرْثِ كَنِيسَةِ القُرونِ الوُسْطى رُويْدا رُوَيْدا إذْ احْتَكَرَ التَّقْوى لِنَفْسِه وَنَزَّهَها عَنْ رُكُوبِ الفُجُور والمَكْرِ والخَدِيعَةِ السِّياسِيَّة، وَأَطْلَق الدَّهاءَ لِبِطانَتِه تَمْهِيدا لاقْتِحام "الحِوار" مَع الاستبداد مِنْ بَوابَة حَدِيقَتِه الخَلْفِية. فإنْ كَسِبَت بِطانَتُه نَتائِجَ الحِوار؛ نَسَبَهُ إلى نفسه َوَتَقوْاها، وإنْ كانَتْ مِنَ الخاسِرين المَدْحُورِين؛ ضَمِنَ لَهَا تَقْواها ولِلنّاس الحَجَر!

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق