من المعادلات السياسية التي لا تقبل الخطأ، أن السلطة الظالمة إذا كانت تشكل أحد طرفيّ المعادلة فإن الطرف الآخر لها هو الفساد والاستبداد، بمعنى لا يمكن للحكومة الظالمة أن تُبنى على العدل، كما أنها غالبا ما تكون قابلة للزوال أسرع من سواها بكثير، ولكن ما يثير الاستغراب حقا، أن الحكام المستبدين يغمضون عيونهم عن ظلمهم للشعب، ويظهرون في الإعلام والمناسبات على أنهم حريصون على الناس، لكنهم في واقع الحال يهملون الشعب ويشجعون الحكومة على ظلمه.
ولكن هؤلاء الحكام سينتهون الى الزوال السريع، مع أنهم لن يصدقوا بهذه النتيجة الحتمية، وعندما يتنعمون بامتيازات السلطة هم ومعاونوهم وذووهم فلا يخطر في بالهم أن هذا النعيم هو نتاج قهرهم للشعب وتجاوزهم على حقوقه، مع أن الدلائل كلها تؤكد للحاكم بما لا يقبل الشك بأنه يستخدم السلطة بصورة خاطئة تسيء للناس وتقمعهم وتدمر حياتهم، فيما يعيش هو وذووه وحاشيته كالملوك، لكن الى متى يدوم لهم هذا النعيم؟ وهل سيبقى الى الأبد؟.
الجواب سوف نعثر عليه في إحدى الكلمات القيمة لسماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، عندما يؤكد سماحته:
على أن (الحكومة التي تبتني أساسها على الاستبداد وهضم حقوق الناس المشروعة هي حكومة زائلة وفانية لا محالة). إذاً في كل الأحوال سيكون الزوال مصير الحكام الظالمين هم ومن يساندهم على الشر.
لذلك عندما يغض حكام اليوم أبصارهم عمّا يحدث من قمع وفساد واستبداد، فإن هذا الحال يثير الاستغراب والألم والاستهجان، فكثير من الحكام الظالمين سحقتهم عجلة التاريخ وألقت بهم في مزابل السوء العفنة، ولعل صفحات ومدونات التاريخ تقدم دروسا هائلة لحكام الحاضر، لكنهم لا يستعيدون تلك التجارب ولا يمرون عليها بعمق، وحتى لو اطلعوا عليها فإنها لا تعنيهم بشيء، ولو أنهم تمثلوا ما حدث للحكام المستبدين، وما جرى لهم في نهاية المطاف، فربما أعادوا حساباتهم وأنصفوا الناس من الظلم والفساد وما يلحقه بالشعب من أذى لا حدود له، خصوصا تلك التجاوزات التي تقوم بها الوزارات والأجهزة الحكومية على مرأى من الحاكم المستبد، بل بتوجيه مباشر منه في الكثير من الأحيان.
وقد نبّه سماحة المرجع الشيرازي هذا النوع من الحكام عندما خاطبهم قائلا: (لو أن الحكّام اليوم يتأمّلون في تأريخ من مضى من الحكّام أمثالهم، لأعادوا النظر في تصرّفاتهم وأفعالهم مع شعوبهم، ولما أقدموا على حرق تاريخهم بأيديهم).
جراح المظلومين لم تندمل
عندما زال حكم الطاغية في نيسان 2003 تنفس العراقيون الصعداء، وملأت الفرحة نفوسهم ووجوههم وتصورا أن العقود العجاف التي تعرضوا فيها للعذاب والقهر والحرمان والإقصاء قد ولّت الى الأبد، وأن لا عودة للاستبداد والفساد، وأن أبواب النعيم قد فتحت على مصراعيها للعراقيين كي يعيشوا بأمن وسعادة وسلام، لكن هذه الأحلام بقيت على حالها، ولم تتحول الى حقائق حتى هذه اللحظة.
فالعراقيون يعانون اليوم من الفساد الحكومي المنتشر في مفاصل من الدوائر والأجهزة الحكومية، وقد حدث هذا بسبب عودة البيروقراطية بأبشع صورها، وانتشر الفساد الإداري وتم الاستئثار بأموال الشعب بطرائق شتى، كلها تصب في هدر المال العام، مع الاستحواذ على ثروات الشعب ونقلها الى بنوك في مختلف دول العالم، ما أدى ذلك الى زيادة الحرمان والبطالة وارتفاع نسبة الفقر وانتشار الأمراض والجهل بين الناس، وقد أدى الوعي الهابط لكثير من العراقيين الى عدم التفريق بين المسؤول الجيد والمسيء، حتى بات الخلاص من الجوع والحرمان يدفع بالناس الى اختيار من لا يستحقون ذلك، ولكن حالة العوز قد تدفع الناس الى الاختيار الخاطئ، والسبب دائما هو الظلم والفساد والاستبداد.
وقد أشار سماحة المرجع الشيرازي الى هذه الأوضاع، حين قال سماحته: (إن الفساد الإداري والاستئثار بأموال الناس وإيداعها في حسابات خاصة في البنوك الأجنبية أدى إلى المزيد من الحرمان والبطالة والتخلف والمرض والجهل وسوء الخدمات).
ولهذا تضاعفت نسبة الفقر، وازداد الجهل، وكثرت الأمراض، وبات الشعب يعاني من الفساد والمفسدين، في حين تتقاعس الأجهزة المعنية عن معالجة هذه الأوضاع المتردية، فتبقى الأمور كما هي عليه، وتزداد جراح المسحوقين ويتضاعف الحرمان، في حين تعيش الطبقة السياسية في بحبوحة وعيش رغيد بسبب الرواتب العالية والمخصصات المالية عبر تبويب متعدد الجوانب، مثل مخصصات السكن، والصحة، والحماية، وما الى ذلك من أمور تزيد المسؤول رفاهية وتزيد الشعب حرمانا وفقرا، لهذا لم تندمل جراح المظلومين وهم يواجهون العديد من المشكلات والمحن.
كما يؤكد على ذلك سماحة المرجع الشيرازي في قوله: لقد عمّق الفساد (جراح المظلومين والمسحوقين من أبناء هذه الشعوب وجر عليها أنواع المآسي والمحن).
الفساد يقف سدا أمام طموح الشعب
وهكذا بات ثنائية الفساد والاستبداد تشكل خطرا على العراقيين، وهناك ضغط من بعض القوى كي يسود الحكم الأحادي ومقارعة المنهج الاستشاري في الحكم، ولكن مع كل ما يحدث لا يزال هنالك جيل عراقي يحلم بالسعادة ويخطط لها، ويحث الخطى نحوها، وهذا الجيل على استعداد تام للتضحية من أجل الحرية التي ذاق طعمها، وكان لها أن تدوم لو لا تسلل بعض المفسدين الذين توغلوا في الميدان السياسي، فألحقوا الأذى بالشعب، واستحوذوا على السلطة وصار المال والامتيازات جل ما يهدفون ويسعون إليه، مع أنهم يعرفون تمام المعرفة أن الذي يتضرر من هذا السلوك هو الشعب، والطبقة الفقيرة منه على وجه الخصوص.
ولكن يبقى حلم الحرية قائما بين الناس، لن يترددوا عن السعي إليها، بحثا عن السلام والسعادة، تحت مظلة العدالة الحكومية في السياسة والاقتصاد وإدارة أموال الشعب وتوزيع الفرص والثروات بطريقة تنصف الجميع من دون ظلم أو تجاوز على الحقوق المدنية أو سواها.
حيث يؤكد سماحة المرجع الشيرازي على: (أن عالم اليوم وجيل اليوم يبحث عن الحقيقة والسعادة، وهذا لا يتأتى إلاّ في ظل الحرية بما في الكلمة من معنى، وفي إطار العدل بما للكلمة من شمول).
ولابد أن الجميع قد وصل الى قناعة قاطعة بأن الفساد وسوء استخدام السلطة، وإدارة المال العام بطريقة سيئة، كل هذه الأمور تمثل تدميرا لطموح الشعب، وتقف حجر عثرة أمام تحقيقه للحرية التي ظل يحلم بها لعقود متتالية إن لم نقل قرون متوالية، فكان العراقيون ولا زالوا بهم عطش للحرية والسعادة كبير ولا حدود له، نتيجة معاناتهم من الظلم والظالمين، ولابد لمن يعمل اليوم في الحقل السياسي أن يعي دوره ومسؤوليته جيدا حيال الشعب، فالمهم لدى العراقيين أن ينتهي الفساد، وأن يحل العدل والحرية محل الاستبداد والظلم، وأن يسعى السياسيون والأحزاب بصورة جادة الى وضع آليات عمل وبرامج سياسية فكرية تراعي حقوق الناس وتحفظ ثرواتهم وتشيع أجواء الحرية والعدالة والمساواة فيما بينهم، بعيدا عن سياسة الظلم لأنها تعرقل طموح الشعب في الوصول الى حلمه في الحرية والعدل والمساواة.
لذا يقول سماحة المرجع الشيرازي في كلمته القيمة نفسها: إن (الممارسات الظالمة للحكّام ليست إلاّ سدّاً أمام طموح الشعوب في نيل الحرية المشروعة التي تنتهي إلى انتصار المظلوم على الظالم).
اضف تعليق