قد يبدو سعي الإنسان نحو الجنة، قضية دينية بحتة، ذلك أن هذا الهدف حتى يفوز به الإنسان عليه أن يكون ملتزما بما يطلبه الدين منه، وعليه أن يكون دقيقا في أعماله وحتى أقواله لكيلا يتسبب بأذى لأحد، أو تجاوزا على أحد، وهذا في الحقيقة يسهم في بناء أمة تؤمن بحقوق الآخر وتحترم الرأي، بالنتيجة عندما يسعى الإنسان لشراء الجنة، فإنه من حيث يعلم أو لا يعلم يشارك في بناء مجتمع متحضر ودولة مستقرة.
فالقضية وإن بدت للمتابع أو المراقب ذات أسس وقواعد دينية، لكنها في الحقيقة تقود الى أهداف ونتائج تحسّن من حياة الإنسان، أو ما تسمى بـ (الدنيا)، لذلك قد يبدو أمرا مقصودا ذلك الذي سعى إليه قائد المسلمين الأول والأعلى، الرسول الكريم محمد (ص)، عندما سعى بكل ما يمتلك من وسائل وسبل، أن يقرّب الناس من الجنة وهم لا يزالون في لجة الحياة.
فقد قال سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، في كلمة قيّمة وجهها سماحته للمسلمين:
(لقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله، يستفيد من كل فرصة لتقريب الجنّة إلى الناس، وتقريب الناس إلى الجنّة). إن هذا التقريب المتبادَل والمقصود، كانت نتائجه كبيرة لتحقيق الأهداف المنشودة، وهي في الحقيقة أهداف ذات أبعاد متعددة، منها ما تحتاجه الأمة والفرد الآن وهو في الحياة الدنيا، وما يحتاجه هناك في الآخرة، فهذا النتائج المزدوجة، ما كان لها أن تتحقق في تلك الصورة الرائعة، لو لا أن قائد المسلمين تمكن أن يزرع في نفوسهم وعقولهم وقلوبهم، تلك الرغبة العارمة في الإقبال على شراء الجنة بالقول والعمل.
ومن الأمور التي تثير الدهشة حقا أن الإنسان يمكنه شراء الجنة حتى لو لم يكن أموالا طائلة، وهذا جرّد قضية شراء الجنة من عنصر المال، فهناك من يتمكن من شراء الجنة بمليارات الدولارات حينما يسعى الى الأعمال الخيرية، وهناك من يتمكن من شراء الجنة على الرغم من ضيق ذات اليد، وهذه هي العدالة الإلهية التي تمنح الجميع فرصا متساوية، لتبقى إرادة الإنسان وتصميمه وإيمانه فيصلا حاسما للحصول على أعظم ما يطمح له الإنسان ونعني بذلك (الجنة).
وربما لهذا السبب صرّ؛ سماحة المرجع الشيرازي في كلمته هذه، بهذا المعنى الذي يمكن أن نرصده في قول سماحته: (من الممكن للإنسان أن يشتري الجنّة بالمليارات، وآخر بمال معدود قليل).
الدنيا هي ما نقوم به من أعمال
ربما يجهل بعضهم المعنى أو التعريف الدقيق للدنيا، وقد يسأل ما هو المقصود بهذه المفردة أو التسمية بالتحديد، ونظن أن المعنى يكاد يسلم نفسه للقارئ أو السائل، فالدنيا تأتي من التدني أو الشيء ذو المستوى الواطئ أو الدوني، وهذا المعنى يحيل الى رداءة واقع (الدنيا) وهي بالفعل كذلك، وعلى الرغم من أن الإنسان يقضي فيها فترة تعد قصيرة جدا إذا ما تم قياسها بعمر الزمن، إلا أن مصير الإنسان الأخروي يتعلق بوجوده في هذا العالم السريع الدوني المسمى بـ الدنيا، لذلك فإن كل ما يقوم به الفرد من أعمال يمكن أن يُطلق على مجموعه مفردة دنيا.
إن المفارقة العجيبة التي تلازم الإنسان في رحلته داخل إطار الدنيا، تكمن في محاسبته على كل ما يفعله ويقوم به، فإن كان خيرا يحسب له، والعكس يصح، ولكن المشكلة أن هنالك إغراءات كبيرة توضع في طريق الإنسان، فتسحبه نحو الخطيئة وارتكاب الذنب، لهذا كل ما يقوم به الفرد محسوب عليه، مع أن المغريات تزين للإنسان السقوط في الخطأ، لذلك ينبغي أن يكون في قمة الحذر.
يجيب سماحة المرجع الشيرازي على السائل عن مفهوم أو تعريف الدنيا بقوله: (ربّ سائل يسأل: ما هي الدنيا؟ الجواب: الدنيا هي كل ما يمارسه الإنسان في الدنيا، ويعيش فيها، ويستفاد فيها من عمره ووقته، ومن ماله، ومن شخصيته، ومن حكومته، وغيرها، فهذا كلّه اسمه الدنيا).
وقد يحسب أصحاب المناصب والمراكز الحساسة في الدولة أنهم أفضل من غيرهم، وقد يكونوا كذلك فعلا مع اشتراط مهم هو أن يكون التعامل مع المنصب بما يخدم الناس وليس التجاوز عليهم، لأن الأخير يتحول الى نوع من البلوى تطول الموظف الحكومي أو الأمني أو السياسي في دنياه، فتسلب منه مكانته ومركزه الأهم فيما بعد الدنيا، لذلك على هؤلاء أن يستفيدوا من مناصبهم لخدمة الناس وليس العكس.
يقول سماحة المرجع الشيرازي حول هذا الجانب: (مما لا يحسب من الدنيا مثلاً، أن يحكم المرء ويكون في قمّة الحكم أو في مراتب نازلة، ويستفيد من حكمه للخير والهداية ولمعونة الناس والفقراء والمحتاجين، ويستفيد من مقامه لبناء المساجد والحسينيات، وبناء دور الأيتام، والمؤسسات النافعة والمفيدة للمجتمع، ولإصلاح المجتمع. فهذا ليس من الدنيا).
الفرص المتاحة للفوز كثيرة
إذاً فإن نشاط الإنسان في دنياه محسوب له، أو عليه، وفي هذه الرحلة (القصيرة الطويلة)، يمكنه أن يشتري الجنة بأموال قليلة جدا، وربما بأقوال لا يخسر فيها شيئا، أو أفعال لا تأخذ منه سوى بعض الوقت المتاح له، أما الأقوال فتتمثل بالجانب المعنوي الذي يبذله الإنسان لكي يدفع الناس نحو عمل الخير، وهذا يسهم بصورة فعالة في بناء أمة ناجحة، لذلك يمكن لكل رجل أو امرأة أن يخرجا من هذه الدنيا بشهادة النجاح التي تؤهله الى مكانة يستحقها في الدار الأبدية.
ولدينا أمثلة عظيمة من هذا النوع، أولئك هم العظماء الذين أسهموا في تطوير البشرية بأقوالهم وتشجيعهم، من دون أن يقدموا الأموال ولم تواجههم صعوبات كبيرة، بل تمكنوا من تجنيد إراداتهم وعقولهم ومؤهلاتهم ووضعوها في خدمة الآخرين لتقريبهم الى الجنة، وإبعاد شبح جهنم عنهم، فأنقذوا الآخرين، وأنقذوا أنفسهم بهذا الجهد العظيم بنتائجه الكبرى.
لذا يوصي سماحة المرجع الشيرازي المسلمين والناس جميعا بهذا القول البالغ الوضوح: (أيّها المؤمنون كل واحد منكم، وكل واحدة منكنّ أيّتها المؤمنات، في كل مكان، يمكنه مع عدم الإمكانات أن يخرج من الدنيا، يوم يخرج، وقد خلّف وراءه الكثير من الخيرات بلسانه، وبتشجيعه، وبحضوره).
إذاً يمكننا الوصول الى الجنة بما هو متاح لنا، وليس فقط أصحاب الأموال الكبيرة، بل حتى من لا يمتلك الأموال يمكنه تحقيق الهدف نفسه، عبر السلوك القويم، وحسن الكلام، وجودة التعامل، والتمسك بالقيم، وهذه كلها تبني أمة حرة مثقفة واعية قوية، وتجعل أفراده بفعل الخير من أصحاب العواقب الحسنة، فيتحقق لهم ذلك الهدف العظيم المزدوج الذي يجمع بين النجاح في الدار الأولى وفي الأخرى وهذا هو الأهم.
وأجمل ما في الأمر أن الفرص نحو هذا الشيء متاحة للجميع، ولا يبقى سوى فهم الإنسان لكيفية التصرف من خلال اعتماد الأخلاق الراسخة أينما يتواجد الإنسان في البيت او المدرسة او العمل او السفر، بل حتى عندما يتعامل مع ذاته أو أصدقائه، عليه أن يلتزم السلوك القويم، حصولا ووصولا الى المستقَر الأعظم، مع هدفية تحسين الحياة وتطويرها عبر الفرص التي تبقى قائمة طالما بقي الإنسان على قيد الوجود.
يقول سماحة المرجع الشيرازي حول هذا الأمر: (الفرص الآن بأيدينا، ومن الفرص الأخلاق الحسنة مع الكل، وداخل البيت، وخارج البيت، وداخل العائلة والعشيرة وخارجهما، وفي السفر والحضر، ومع الأصدقاء، ومع الأعداء. ومن الفرص المال الذي بيد الإنسان).
اضف تعليق