تنبئونا صفحات وسجلات التاريخ العراقي وخصوصا السياسي منه، أن هذا البلد الجريح يمر اليوم بأكثر المراحل خطرا في سجله الحافل بالمراحل الحرجة، لدرجة أن شعب العراق لم يعد يبالي من كثرة المصاعب التي تحيط به على مر التاريخ، ولكن يخبرنا التاريخ نفسه، أن هذا البلد الذي سمّيَ باسم الأنبياء وأئمة أهل البيت (ع)، يبقى كالعنقاء التي تنهض من تحت الرماد دائما وأبدا، فمع كل ما تعرّض له من ويلات ودسائس ومخططات مريبة، يبقى ذلك البلد الذي لا ينحني ولا ينكسر أمام أعاصير الكراهية والحقد والطمع.
ومع كل هذه الثقة في أن العراق سوف يتجاوز محنته الحالية، وهي على درجة خطيرة حقا، إلا أن الأمر يستدعي التخطيط والاستعداد لذلك، فلا يمكن مغادرة هذه المرحلة المصيرية ما لم يكن قادة ونخب ووجهاء وشخصيات العراق، على دراية تامة بطبيعة المرحلة ومخاطرها، وحتما أن مغادرة هذه المرحلة بسلام يتطلب فهما عميقا لها وتعاملا ذكيا وسليما معها.
يقول سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، في كتابه الموسوم (إضاءات) حول خطورة المرحلة الحالية التي يسعى العراق والعراقيون لتجاوزها:
(إن العراق الجريح يمرّ في مرحلة صعبة، وفي نفس الوقت مصيريّة، قد يتحدد على ضوئها مستقبله لفترة طويلة).
ومثلما ذكرنا أن معالجة الظروف الحساسة التي تخترق حياة العراقيين السياسة، ليست سهلة ولا يمكن التعامل معها من منطلق ترك الأمور على الغارب، وهي تضع رحالها عند النهايات المطلوبة، كلا إن الأمور أصعب وأكثر تعقيدا بكثير من هذا التفكير الساذج، ما يمر به العراق في هذه المرحلة أطلق عليه سماحة المرجع الشيرازي (بالوضع المصيري)، وهذا التوصيف يشي بخطورة وحساسية الظروف الداخلية والإقليمية المعقدة التي تحيط بهذا البلد.
وكما نلاحظ فإنه ما أن ينتهي من أزمة خانقة، يجد نفسه مكبلا بأكثر من أزمة أشدّ وأخطر، كالإرهاب والتطرف والطمع الإقليمي والدولي بأراضيه وخيراته، كل هذا يتطلب تعاملا ذكيا وقويا مع الظروف الراهنة خصوصا ما يتعلق بالحقوق، إذ لا يجوز التفريط بها أياً كانت الأسباب، فمن يغض الطرف عن حقوقه ويتساهل مع من يسعى الى التجاوز عليها، لا يؤذي نفسه فقط، ولا يقدم خسائر وتضحيات ذاتية نتيجة لسماحه بالتجاوز على حقوقه، وانما سوف يمتد الأذى الى الأجيال اللاحقة حتما.
سماحة المرجع الشيرازي ينبّه على ذلك عندما يقول بوضوح: (إنّ أي تفريط في الحقوق في هذه المرحلة سيكون له نتائج مؤلمة على الأجيال القادمة).
إجراء الانتخابات بإشراف دولي
أولى الخطوات التي تساعد على تجاوز هذه المرحلة الحرجة بسلام، التخطيط الدقيق للوصول الى حكومة ذات مواصفات مهمة، منها أن تكون قوية عادلة قادرة على مكافحة الفساد، تمتلك القدرة على التخطيط العلمي والتنفيذ الناجح، باختصار يحتاج العراقيون الى حكومة نموذجية لكي يتمكنوا من عبور بحار التطرف والفتن التي تحيط بهم، كذلك هناك حاجة ملحة لحكومة بأعضاء من الكفاءات والخبرات قادرين على فهم طبيعة هذه اللحظة المصيرية وكيفية التعامل معها.
مثل هذه الحكومة وبهذه المواصفات المهمة، لا يمكن أن تتحقق إلا وفق خطوات دقيقة واشتراطات رئيسة، منها وأهمها أن تكون حكومة منتخَبة وفق آليات بالغة الدقة من حيث النزاهة وحصانة الأصوات الانتخابية من التلاعب والتزوير، وتوجيه صناديق الاقتراع نحو الشخصيات السياسية التي يختارها الناخبون فعلا وليس التلاعب بها وفق صفقات قد تجعل منها فاشلة أو ذات نتائج غير واقعية ولا تتسق مع ما إرادة الشعب.
كيف يمكن أن تتحقق حكومة من هذا النوع وبهذه المواصفات، لابد أن يكون هناك اشراف دولي عليها مع مشاركة مؤسسات وشخصيات دينية وسياسية وسواها تكون قادرة وفعالة ومؤثرة في مجال مراقبة الانتخابات كي تجري بانسيابية وبلا تجاوزات.
يرى سماحة المرجع الشيرازي في هذا الجانب أنه لابد: (أن تكون الانتخابات بإشراف ومراقبة دوليّة نزيهة، إضافة إلى القوى الدينية والسياسية والعشائرية العراقية، لضمان نزاهة الانتخابات، وحريتها، واشتراك الجميع فيها).
هنا قد تنهض بعض الأسئلة بل تُثار عدة آراء وقضايا وتساؤلات، تتمحور حول السبل التي تقود العراقيين الى تكوين حكومة بالمواصفات التي تم ذكرها، ولعل الشرط الأول الذي ينبغي الالتزام بهذه للوصول الى هذا النوع من الحكومات القوية المتميزة والمؤهلة لقيادة العراق والانتقال به من مرحلة الخطر الى الأمان والتقدم، هو منع تزوير الانتخابات القادمة، وعدم السماح لبعض الجهات المشبوهة بأن تمتد أياديها لكي تشوّه العملية الانتخابية وتتلاعب بالنتائج عبر التزوير وما شابه من أفعال شائنة تتطلب حزما وحسما ورقابة باستخدام التقنيات الحديثة التي لا تسمح قط بالتلاعب والتزوير.
كما أكد على ذلك سماحة المرجع الشيرازي بقوله: (يجب توفير المناخ السليم كي لا تتمكن الجهات المشبوهة من التلاعب والتزوير في الانتخابات، وينبغي الاستفادة من أحدث التقنيات والأساليب التي تمنع من التزوير).
الوصول الى حكومة نموذجية
وهكذا يمكن الوصول الى حكومة عراقية نموذجية وفق آليات وشروط يتم مراعاتها والالتزام بها، منها ما ذكرناه فيما سبق ذكره في حول هذا الأمر، كذلك هنالك دور على المواطن العراقي، وخصوصا من يحق له التصويت، فالناخب العراقي الذي يحق له باختيار من يمثله تحت قبة البرلمان، لا يصح أن يفرط بهذا الصوت الثمين من خلال رفضه للتصويت، أو مقاطعة الانتخاب، بل عليه أن يتأكد من النائب الذي يمكن أن يمثله خير تمثيل ويمنحه صوته بثقة ومعرفة وتدقيق مسبق، فمشاركة الصادقين المراعين لمصلحة العراق، هم الأجدر بالتصويت من غيرهم.
كما أن تصويت المخلصين من أبناء العراق يفوت الفرصة على المتلاعبين والمنتفعين والمزورين، أولئك الذين لا يرون في الانتخابات سوى المناصب والمكاسب الفردية والحزبية الآنية، ولكي نقطع الطريق أمام هؤلاء ونصل الى الحكومة ذات المواصفات المطلوبة علينا المشاركة في الانتخابات بقوة وحماسة.
إذ يرى سماحة المرجع الشيرازي بخصوص دور المواطن في الانتخاب: (ينبغي على جميع العراقيين الكرام، المشاركة في تسجيل أسمائهم للانتخابات، ومن ثَمّ المشاركة العامة فيها). وبهذه الطريقة يتم غلق الأبواب على جميع المتصيدين بالماء العكر، أولئك الذين لا تهمهم سوى مصالحهم، لذا ليس أمام المخلصين من أبناء العراق سوى أداء دورهم الصحيح في الانتخابات تحقيقا للهدف الأسمى والأهم.
وستبقى عيون العراقيين شاخصة باتجاه القادة الشرفاء المؤهلين لقيادة البلد بشرف، كونه يستحق الإخلاص مثلما يستحق شعبه ذلك، ولكن لا يمكن أن نحلم كعراقيين مجرد حلم بمثل هذا المنجز، ما لم نبادر بأنفسنا بالعمل الجاد والمبرمج والمدروس بعلمية، لإنتاج حكومة ذات مقومات نموذجية، تجعلها قادرة على أداء مهامها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بما يحقق ذلك الهدف الأسمى بالنسبة لجميع العراقيين وهو الخلاص من خطر المرحلة الراهنة بإرادة حكومة نموذجية يختارها الشعب بنفسه دون ضغوط إقليمية أو دولية مغرضة.
كما يرى سماحة المرجع الشيرازي ذلك، فيقول: (إن الحكومة يجب أن تتوفر فيها عدة مقومات حتى تكون مرضية منها: أن يختارها الشعب عبر انتخابات حرة ونزيهة وبعيدة عن الضغوط الأجنبية).
اضف تعليق