وبعدما انتصف الليل.. خرجَت مواكب الهم من أوكارها تطوف حولي، وكأني بؤرة للأحزان!. أوجاعي تستغيث وتسكب دموعها الحائرة على وسادة الليل، وخيال اليأس ينتصب على مشارف أحلامي.. ولكن، على الرغم من ضيق صدري وقلة حيلتي ومقدار الذنب الذي يكسوني، إلا أنني واثق بأن لحظة الإنكسار هذه لا يعالجها إلا الله، إذ أن المؤمن في شهر رمضان قريب الى خالقه، حتى وإن كانت الذنوب أسقطته من مرضاة الله في غير هذا الشهر، فإن رمضان شهر التقرب والتصالح والتودد.. وحاشى لله أن يدعوا الناس الى ضيافته ثم يعاملهم بغير ذلك.
فالعالم في هذا الشهر يعتريهم الضعف، فتأخذهم المناجاة إلى واحة المعبود ليفتحوا خيوط الجراح ويرتلوا شكواهم في رحاب الله، لتنزل النفس من علياء كبريائها إلى الارتماء على أعتاب المولى، فكما يقول رسول الإنسانية محمد (ص): (إن أبواب السماء تنفتح في أول ليلة من شهر رمضان، ولا تغلق إلى آخر ليلة منه).
ففي ظلمة الليل الساكن.. أرصف أحزاني جانبا، وأهرول نحو قبلة العشق الإلهي بعين خجلى، فسبحان من لا تأنس الأرواح إلاّ به، ولا تركن النفوس إلاّ اليه، ولا تطمئن القلوب إلاّ بذكره (ألا بذكر الله تطمئن القلوب). أفرش سجادة حزني صوب قبلة الخلود، وأمسك مسبحة روحي وأناجيه بلغة الهيام، بينما أُرتل دعاء البهاء: (اللهم إنِّي أسألك مِن رَحْمَتِكَ بأوسَعِها، وكل رَحمَتِكَ واسِعَة، اللهُم إني أسألكَ برَحْمَتِكَ كلها..). وتنساب على وجنتي دموع الخطيئة، ويغمرني الخجل من كبر ذنبي وقبحه، ومن وسع رحمته وجميل لطفه.
فأغوص في تفاصيل هذا الشهر العظيم وحرمته، وكرم الله في مضاعفة الحسنات، وما يؤلم ويغيظ قلبي غفلة الناس عن ذلك، وتبديل العبادة والتهجد بأمور الدنيا الزائلة لاسيما في شهر رمضان وهو شهر العبادة، فلربما احد أسباب هذا الجفاء الإلهي هي سياسة القنوات الشيطانية التي تُمارس برامجها المغرية خلال الشهر الكريم، فقط من أجل إبعاد العبد عن معبوده! إذ أن ما يريده الله منا في رمضان وما تريده بعض القنوات يكمن في سطور هذه الآية الشريفة: قال تعالى: (وَ اللهُ يُرِيدُ أن يَتوبَ عَلَيُكم وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعونَ الشَّهَوَات أن تَميلوا مَيْلا عَظِيما).
كما ان في المقابل انا واثق بأن العبرة ليست بكثرة العبادة الظاهرية والرياء وأين وصلت في قراءة القرآن، العبرة في إن قلبك أين وصل!! هل وصل الى محراب العبودية لله جل وعلا وأنت ترفع يدك بالدعاء؟!، فالدعاء سمة المؤمن، وروضة القلب، وعبادة ميسورة مطلقة غير مقيدة بمكان، ولا زمان ولا حال.
فالذين اختاروا طريقا غير الدعاء للوصول الى الله، سيعلمون بعد أن تنهكهم الدروب، ان الله أقرب اليهم من حبل الوريد.
وعلى سبيل الدعاء.. ما أعظم أن نرفع أيدينا ونحن في غمرة الروحانية والتعبد، لنطلب من القادر الجبار.. نصرا عزيزا لحراس الليل وحماة الوطن الذين هم خلف سواتر الكرامة، يحاربون شر الأشرار، ولا تعيقهم شدة الحر أو الجوع والعطش من ذلك.. ليجبروا كسر الوطن ويأمنوا ليلا هانئا لأطفال العراق.. فوالله انه الجهاد الأكبر، يستلهمون معاني التقوى والصبر وهم يطيعون الله بجميع أوامره، كما أن قدوتهم الكبرى هو الرسول الكريم (ص) الذي خاض معارك عديدة في شهر رمضان وأبرزها بدر، التي حققت إنتصارا باهرا للمسلمين.
فالمجاهد المؤمن يؤدي فريضة الصوم في جبهات القتال لأنه يعلم بأن طاعة الله أساس التقوى.. كما انه يتذكر أبا عبد الله الحسين وذويه يوم عاشوراء، إذ إنهم رمز العزة والبطولة في الجهاد ضد الظالمين، لأنهم من أجل إعلاء كلمة الحق قضوا شهداء أبراراً، على الرغم من الظمأ والجوع وشدة الحرارة.
إذاً أكثروا من الدعاء في شهر التقوى والدعاء.. للأبطال المرابطين عند سواتر الظمأ، فبلطف الله ورحمته وقوته، ينتصر أبطالنا ونرفع راية الحق عاليا، لنعيش شهر رمضان آخر بنكهة نصر عراقي مبين.
اضف تعليق