ليست الفنون التشكيلية مجرد أدواتٍ لتزيين الشهر الكريم، بل هي جسرٌ بين الماديّ والغيبي. كل لوحةٍ أو منحوتةٍ تُذكّر أن رمضان ليس امتناعاً عن الطعام، بل تحوّلاً نحو الجمال الأخلاقي والروحي. وكما أن الصيام سرٌ بين العبد وربه، فإن الفن النابع من القلب يصبح سراً مرئياً يربط كل من يراه بجوهر الإيمان...
عندما يعلو هلال رمضان، تتحوّل الشوارع إلى لوحةٍ مضيئةٍ تتناغم فيها أنوار الفوانيس الذهبية مع ظلال القِدَمِ الساعية نحو المساجد، وتتلبّد السماء بلونٍ من الرهبة تُصوّره فرشاة الفنان كأنما تلامس جوهر الروح. هنا، حيث يمتزج الجمال بالعبادة، تُولد الفنون التشكيلية لغةً عالميةً تعبّر عن روح هذا الشهر الكريم، لا بالكلمات، بل بالألوان والخطوط والضوء. فكيف يصوّر الفنّانون التشكيليون قداسة رمضان، ويحوّلون مفرداته الروحية إلى أعمالٍ تُلامس القلب قبل العين؟
الخط العربي: كلمات تتنفّس نوراً
لا يُختزل رمضان في الصوم فحسب، بل في كلمات القرآن التي تتدفّق كالنهر في لياليه. وهنا يبرز الخط العربي كفنٍّ مقدّسٍ يجسّد الآيات الكريمة التي تُتلى في الصلاة أو تُعلّق على الجدران كتذكارٍ بصريٍ للعبادة. فالفنانون، مثل محمود طه في مصر أو حسن مسعودي في إيران، ينسجون الحروف بحبرٍ ذهبيٍّ على خلفياتٍ زرقاء عميقة، كأنما يُحوّلون سورة "إنا أنزلناه في ليلة القدر" إلى منظرٍ سماويٍّ يخطف الأبصار. حتى أن بعض المعارض تُخصّص قاعاتٍ كاملةٍ للخطوط التي تروي قصص العتق من النار، أو فضائل الصبر، كأن الحروف نفسها تصوم وتصلّي مع الناظرين.
الرسم: ألوان الوجد الإنساني
في اللوحات الزيتية والمائية، تتحوّل لحظات رمضان إلى مشاهدَ حيّة: عائلةٌ تجتمع حول مائدة إفطارٍ يكسوها اللون الفيروزي للصحون التقليدية، بينما تلمع وجوه الأطفال بفرح انتظار الأذان. أو امرأةٌ ترفع يديها بالدعاء في جوف الليل، يحيط بها ضوء القمر الذي يرسم الفنان تفاصيله بخيوط فضية. الفنانة السعودية ندى المطيري، مثلاً، تستخدم ألوان الأكريليك الساطعة لتصوير أسواق رمضان المليئة بالتمور والبهارات، بينما يلجأ الفلسطيني توفيق إلى الألوان الترابية ليصوّر اللاجئين وهم يشاركون قطعة خبز الإفطار تحت خيمةٍ ممزقة. هنا، يصبح الفن مرآةً للمشاعر الإنسانية الجامعة بين الجوع والأمل.
التصوير الضوئي: توثيق اللحظات الخالدة
لا يقلّ التصوير الفوتوغرافي تأثيراً، فعدسة الكاميرا تلتقط ما يعجز الوصف عن تقديمه: يدٌ مجعّدة تمسك بملعقةٍ لتذوق طبق الشوربة الأولى، أو دموع شيخٍ أثناء دعاء القنوت. في مشروع "رمضان حول العالم" الذي أطلقه المصور عمر رحمن، نرى تناقضاتٍ مثيرة: صلاة الفجر في مسجد الشيخ زايد بأضوائه الباهرة، وصلاة الغروب في قرية أفريقية حيث المصلون يسجدون على حصيرٍ من القش. هذه الصور لا تُذكّر بالعبادة فحسب، بل تخلق حواراً بصرياً عن وحدة المسلمين في التنوّع.
المنحوتات والتركيبات: فنٌّ يلمس الفضاء العام
أما الفنون ثلاثية الأبعاد، فتُحوّل المدن إلى متحفٍ مفتوح. في إسطنبول، تُزيّن الساحات بمنحوتاتٍ ضخمة للفوانيس تُضاء بالطاقة الشمسية، بينما تُعلّق في دبي أقمشة شفافة مطرّزة بآيات الصوم، تتحرّك مع الريح كالأرواح. الفنانة الكويتية منى الخاطر صمّمت عام 2022 تركيباً تفاعلياً بعنوان "أمنيات القمر"، حيث يكتب الزوّار أمنياتهم على أوراقٍ زجاجية تُضاء ليلاً كالنجوم، رمزاً لليالي الدعاء المستجابة.
عندما يصبح الفن صومعةً روحية
في النهاية، ليست الفنون التشكيلية مجرد أدواتٍ لتزيين الشهر الكريم، بل هي جسرٌ بين الماديّ والغيبي. كل لوحةٍ أو منحوتةٍ تُذكّر أن رمضان ليس امتناعاً عن الطعام، بل تحوّلاً نحو الجمال الأخلاقي والروحي. وكما أن الصيام سرٌ بين العبد وربه، فإن الفن النابع من القلب يصبح سراً مرئياً يربط كل من يراه بجوهر الإيمان. هكذا، حين ينتهي الشهر، تبقى الأعمال الفنية شهاداتٍ خالدةٍ على أن الروح الإنسانية، حين تلتقي بالإلهام، تُنتج جمالاً يقاوم النسيان، كفانوسٍ يُضيء في كل زمان.
اضف تعليق