رمضان في العراق ليس مجرد شهرٍ يمر، بل هو ذاكرةٌ جماعيةٌ تُنقش على مائدة الطعام. فما بين لقمة التمر الأولى ونسمة السحور الأخيرة، تكشف الموائد العراقية عن حقيقةٍ جلية: الطعام هنا ليس وقودًا للجسد، بل جسرٌ يربط الماضي بالحاضر، وقصةٌ ترويها الأجيال بملاعقها قبل ألسنتها...
عندما يُرخي أذان المغرب ستائره على سماء العراق، لا تعلو الأصوات إلا همسات الشكر وصليل الملاعق على الصحون، وكأن الزمن يتوقف ليُفسح المجال لطقوسٍ قديمة تتنفس من بين أطباق المائدة. هنا، حيث تُحاكي رائحة الهريسة المُطعَّمة بالدارسين حكايا الجدَّات، وتتوارث الأيادي سرَّ 'نومي بصرة' الذي يروي عطش قرونٍ من الصيام، تصبح المائدة الرمضانية لوحةً تختزل تاريخ شعبٍ يؤمن أن للطعام لغةً تُروى بها الهُويَّة. فكيف تحوَّلت أطباق بسيطة كالشوربة والتمن إلى سفراء لثقافةٍ عراقيةٍ لا تنفصل عن رمضان؟ ولماذا تبقى هذه الموائد، رغم تقلبات الزمن، حصنًا منيعًا يحرس ذاكرة شعبٍ يرفض أن تذوب خصوصيته في طوفان العولمة؟
الأطباق الأساسية... لا إفطار بدونها
رغم اختلاف التفاصيل، تتفق الموائد العراقية على أساسيات لا غنى عنها.
- كما تؤكد بشرى عباس من بابل: "أكيد الشوربة والتمر واللبن، وباقي الأطباق تختلف حسب اليوم؛ يوم سمك، ويوم دولمة وغيرها."
- وتضيف انتصار محمد من بابل: "الشوربة، التمر، التمن، والمرق بأنواعه هي أساسيات مائدتنا الرمضانية."
-من جهتها، تشير ملاك حسن من البصرة: "اللبن والتمر أساس، لأنهما من العادات الصحية التي لها فوائد عديدة."
حلويات رمضان... نكهة خاصة وحنين للطفولة
لا تكتمل السفرة الرمضانية دون حلويات تلامس القلب قبل الذوق:
- في هذا السياق، تصف آيات علاء الشمري من بغداد: "حلاوة التمن، والشعرية، وحلاوة التمر... نُعدها بزبد أو دهن حر ونحشوها بالجوز. أما الهريسة فلا نأكلها إلا في رمضان."
- وتؤكد بان خاتون من كربلاء: "أنا مسؤولة عن الحلويات في البيت، وسفرتنا الرمضانية ما تكمل بدونها."
- بدورها، تُعلق سُرى علاء الياسري من المثنى: "حلاوة التمر رمزٌ للبركة، وقد ورد ذكر التمر في القرآن والأحاديث النبوية."
ـوتشير زينب الحوراء علي نوري من البصرة: "الحلوى ضرورية بعد الإفطار، ونحب أشياء خفيفة مثل الكاستر أو المحلبي".
مشروبات رمضانية... بين الانتعاش والهوية
المشروبات التراثية تُضفي نكهةً فريدة على المائدة:
- تشرح آيات علاء الشمري من بغداد: "مشروب ‘نومي بصرة’ أساسي في السحور، ونكهته لا تُقارن."
- وتضيف زهراء العلي من البصرة: "نبدأ بالتمر واللبن، ثم نومي بصرة مع الشوربة والسلطة."
الأطباق الرئيسية... تنوع يرضي الجميع
من التمن إلى التشريب، تتنوع الأطباق لتعكس غنى المطبخ العراقي:
- توضح ركيه محمد من بغداد: "صحن الشوربة والتمر والعصائر أساسيات الفطور، والمقبلات مثل الرغيف تُكمل المائدة."
- وتذكر بنين ليث من كربلاء: "المقبلات تعطي طعمًا مميزًا؛ فهي وسط بين الأكل الحار والمشروبات الباردة."
- من جانبها، تقول رؤى إياد الخزرجي من بغداد: "التكنولوجيا جعلت المائدة أكثر تنوعًا، لكن الشوربة تبقى طبقًا رئيسيًا."
ـوتلخص زينب الحوراء علي نوري من البصرة: "التمن هو الأساس لأنه يشبع، ونسوي أطباق جانبية حسب اللي متوفر".
رمضان... ذكريات وكرم لا يُنسى
رمضان ليس شهر طعام فحسب، بل قصة كرمٍ وترابط:
- تلخص وداد الجبوري من بابل: "في ذاكرتنا صورة الكرم العراقي؛ تبادل الأطباق بين الجيران، والعزومات التي تجمع الأهل."
- وتختتم عُلا العامري من كربلاء: "نفضل الأكلات كالتشريب باللحم العراقي، لكن روح رمضان تبقى في تجمع العائلة."
رمضان في العراق ليس مجرد شهرٍ يمر، بل هو ذاكرةٌ جماعيةٌ تُنقش على مائدة الطعام. فما بين لقمة التمر الأولى ونسمة السحور الأخيرة، تكشف الموائد العراقية عن حقيقةٍ جلية: الطعام هنا ليس وقودًا للجسد، بل جسرٌ يربط الماضي بالحاضر، وقصةٌ ترويها الأجيال بملاعقها قبل ألسنتها. فحين تذوب نكهة الهريسة في الفم، أو تُنثر حبات السمسم على حلاوة التمر، لا يُعيد العراقيون إحياء تراثهم فحسب، بل يُرسلون رسالةً للعالم بأن بعض الموروثات أقوى من أن تُسكتها الحداثة. وهكذا، تبقى مائدة رمضان العراقية شاهدًا على أن الهُويَّة تُصنع في المطابخ قبل أن تُكتب في الكتب، وأن شعبًا يحفظ أسرار أطباقه، قادرٌ على حماية أسرار وجوده.
اضف تعليق