ملفات - شهر رمضان

نكث الوعُود هدم للثقة

أَسْحارٌ رَمَضانِيَّةٌ السَّنةُ الثَّانيَةُ عشَرَة (٥)

يقضي الأِنسانُ وقتاً طويلاً لبناءِ الثِّقةِ إِلَّا أَنَّهُ يُحطِّمها بوعدٍ واحدٍ لم يلتزِم بهِ أَمَّا على مُستوى المُجتمع فإِنَّ السِّياسي والمسؤُول والزَّعيم إِذا كرَّرَ نَكثهِ بوعُودهِ التي يقطعَها للنَّاخبِ والمُواطن فسيسقُط في عيونهِم فلَم تعُد قيمتهُ عندهُم تُساوي شَروى نقيرٍ. وإِنَّ الإِلتزام بالوعُودِ دينٌ وأَخلاقٌ وتربِيةٌ...

 (فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ).

 إِنَّ من أَسوأ وأَخطر الأَمراض التي تُصيب الفَرد هوَ مرَض عدَم الوَفاء بالوعُودِ والعهُودِ فهوَ من علاماتِ المُنافق كما يَصِفُ أَميرُ المُؤمنينَ (ع) إِبنُ النَّابِغة بقَولهِ (إِنَّه لَيَقُولُ فَيَكْذِبُ ويَعِدُ فَيُخْلِفُ ويُسْأَلُ فَيَبْخَلُ ويَسْأَلُ فَيُلْحِفُ ويَخُونُ الْعَهْدَ).

 والإِلتزامُ بالعهدِ خُلقٌ إِلهيُّ (وَعْدَ ٱللَّهِ ۖ لَا يُخْلِفُ ٱللَّهُ وَعْدَهُۥ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) أَمَّا الخُلفُ بهِ فهوَ خُلُقٌ شيطانيٌّ (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ ۖ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَىٰ مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ ۚ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ).

 ولذلكَ فإِنَّ تكرار الخُلفِ عن عمدٍ يورِثُ النِّفاقَ (وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ* فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ* فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ) والآيةُ تُشيرُ إِلى حقيقةِ أَنَّ الخُلفَ والكَذِبَ تَوأَمانِ وهُما كخطَّينِ مُتوازيَينِ كسِكَّةِ قِطارٍ.

 والخُلفُ مرضٌ نفسيٌّ مازال أَنَّهُ يُنتِجُ النِّفاقَ كما تقُولُ الآيةِ الكريمةِ. 

 وهو المرضُ الذي يُدمِّرُ الثِّقة بينَ النَّاس وبالتَّالي يُحطِّم العِلاقات الإِجتماعيَّة كما أَنَّهُ سببٌ في تدميرِ شخصيَّةِ الفردِ في المُجتمعِ ويقضي على قيمَتهِ واعتبارهِ ووزنهِ، ولذلكَ فإِنَّ جماعة المُؤمنينَ لا يخلفُونَ وعداً ولا يتجاهلون عهداً لماذا؟! لقَولِ الله تعالى (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ ۖ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا) فهو مسؤُوليَّة بغضِّ النَّظرِ عن هويَّةِ مَن تعهَّدتَ لهُ أَكانَ مُسلِماً أَم لم يكُن، مُؤمناً أَم لا!.

 كذلكَ لأَنَّ الإِلتزام بالعهُودِ من عُرى الإِيمانِ والتَّقوى كما في قولهِ تعالى (بَلَىٰ مَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ وَاتَّقَىٰ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) وقوله (وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ۖ).

 ولقد وصفَت آيات القُرآن الكريم الذينَ يعِدُونَ ليبيعُوا وعودهُم فيَشتريها [النَّاخب] مثلاً ويتعهَّدونَ ليضحكُوا على ذقُونِ النَّاسِ بقولِها (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَـٰئِكَ لَاخَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).

 كم تهديدٌ ووعيدٌ وتحذيرٌ في هذهِ الآيةِ الكريمةِ لمُخلفِ الوعدِ؟! فهل تظنُّ أَنَّ المُرشَّح في الإِنتخابات الذي يَعِدُ ويخلِفُ عندهُ ذرَّةَ إِيمانٍ أَو تقوى أَو أَخلاق؟! خاصَّةً ذاكَ الذي تحمِل قائمتهُ الإِنتخابيَّة أَسماءَ الله الحُسنى وعناوين المُقدَّساتِ ليغُوصَ في التَّضليلِ والدجلِ أَكثر فأَكثر؟!.

 حتَّى على المُستوى الفردي فإِنَّ الأَب الذي لا يفي بوعُودهِ لزَوجتهِ [الأُم] أَو لأَطفالهِ يُحطِّم قيمتهُ في عيونهِم ويسحَق كلامهُ في نظرهِم فلم يعُد لكلامهِ أَو لوعُودهِ قيمةٌ إِذا حاوَلَ مرَّةً أُخرى حتَّى إِذا أَقسمَ لهُم بأَغلظِ الأَيمانِ.

 وإِذا كرَّرَ معهُم الخُلفَ فسيُجرِّأَهُم على نعتهِ بالكذَّابِ والمُنافقِ!.

 يقضي الأِنسانُ وقتاً طويلاً لبناءِ الثِّقةِ إِلَّا أَنَّهُ يُحطِّمها بوعدٍ واحدٍ لم يلتزِم بهِ خاصَّةً إِذا لم يكُن وراءهُ مُبرِّرٌ معقُولٌ ومقبُولٌ.

 أَمَّا على مُستوى المُجتمع فإِنَّ السِّياسي والمسؤُول والزَّعيم إِذا كرَّرَ نَكثهِ بوعُودهِ التي يقطعَها للنَّاخبِ والمُواطن فسيسقُط في عيونهِم فلَم تعُد قيمتهُ عندهُم تُساوي شَروى نقيرٍ.

 وإِنَّ الإِلتزام بالوعُودِ دينٌ وأَخلاقٌ وتربِيةٌ، وبرأيي فإِنَّ أَهمَّها كُلَّها هوَ الثَّقافة التي تبنِيها التَّربية والتَّعلم لبِنةً لبِنةً.

بمعنى آخر فإِنَّ الطِّفل الذي يتعلَّم الوفاء بالعهُود سيشبُّ ويكبَر وهوَ يمقُتُ نكثَ الوَعد سواءً من قِبلهِ للآخرين أَو من قِبل الآخرين لهُ.

 ولذلكَ يلزَم على الأَبوَينِ ما يلي؛

 ١/ أَن لا يعِدُوا الأَولادَ بشيءٍ يعرفُونَ مُسبقاً بأَنَّهم لا يقدِرُونَ على الوفاءِ بهِ، وهذا خُلُقٌ يحتاجُ إِلى قليلٍ من الحِكمةِ وكثيرٍ من الصَّبرِ.

 إِنَّ سياسةَ تقديم الوُعود للأَطفال لإِسكاتهِم مثلاً أَو لتهدئةِ غضبهِم أَو لإِشغالِهِم إِلى حينٍ والتي يستخدِمها بعض الآباء معَ الأَبناء هيَ سياسةٌ خاطِئةٌ ومُدمِّرةٌ تُحطِّمُ أَعصابهُم وتهدِمَ الثِّقة، فالأَولادُ لا ينسَونَ ولذلكَ فإِنَّ تكرار هذهِ السِّياسة معهُم سترسِم في ذهنهِم وفي شعورهِم صُورة الأَب الكذَّاب أَو الأُم الدجَّالة التي تعِد ولا تفي، وهذا أَمرٌ خطيرٌ جدّاً في العمليَّةِ التربويَّةِ وبناءِ الأَبناء.

 ٢/ على الأَبوَينِ أَن يُساعدا الأَولاد في تنفيذِ وعودهِم التي يقطعُونها للآخَرين [الأَصدِقاء مثلاً] فإِذا وعدَ الإِبنُ أَباهُ بشيء فلا ينبغي للأَبِ أَن يستغلَّ هذا الوَعد للإِيقاعِ بإِبنهِ مثلاً أَو الإِنتقام منهُ أَو إِستدراجهِ أَو ما إِلى ذلكَ، بل على العكسِ فإِنَّ عليهِ أَن يُساعدهُ على الإِلتزامِ بوعدهِ لأَيِّ كانَ لينشأَ الإِبن وهوَ يحترِم عهودهُ ويشعُر بالمسؤُوليَّةِ تجاهَ أَيِّ وعدٍ يقطعهُ لأَحدٍ سواءً داخل الأُسرة أَو لأَحدٍ من أَصدقائهِ أَو ما إِلى ذلكَ.

 قد يصادفُ أَن يعطي الإِبنُ وعداً خاطِئاً لصديقهِ فلا ينبغي على الأَب هُنا إِحراجهُ بحثِّهِ على نكثِ الوعد، أَبداً، وإِنَّما مُساعدتهِ في الإِلتزامِ بالوعدِ مع إِفهامهِ بطبيعةِ الخطأ الذي يرتكِبهُ بمثلِ هذا الوعدِ، وإِذا كانَ بالإِمكانِ عدم الإِلتزام بهِ لتقليلِ الضَّررِ مثلاً فيلزم أَن يكونَ عن وعيٍّ وليسَ بالغُشِّ والتَّضليلِ والكَذبِ.

 ٣/ يلزم أَن يفهمَ الأَبناء بأَنَّ نكث الوعُود والعهُود مهما كانَت بسيطة هوَ سقوطٌ أَخلاقيٌّ وعدم إِحترام لمبدأ المسؤُوليَّة فضلاً عن كونهِ دليلاً على غَيابِ الوازعِ الدِّيني.

 وأَقولُ بغضِّ النَّظرِ عن طبيعةِ العهدِ، فالمعيارُ ليسَ حجم العهدِ ونوعهِ وإِنَّما المعيارُ في المبدأ [الوَفاء أَو النَّكث]. 

 ٤/ إِنَّ الإِلتزام بالعهودِ والوعودِ مسؤُوليَّةٌ مُتبادَلةٌ وهيَ تشاركيَّة في نفسِ الوقتِ.

 يقولُ تعالى في مُحكمِ كتابهِ الكريم (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) ما يعني أَنَّ التَّعاهد مع الله تعالى هوَ إِلتزامٌ مُتبادَل بينَ العبدِ وربِّهِ، وهذا قمَّة الإِنصاف والعَدل والإِحسان الإِلهي، وإِلَّا فلقَد كان بالإِمكانِ أَن يفرُضَ الله تعالى، وهو ربُّ العزَّةِ القادِر على كُلِّ شيءٍ، أَن يفرُضَ الإِلتزام على عبادهِ من دونِ أَن يعدَهُم بشيءٍ!.

اضف تعليق