حتى اللحظات الاخيرة من حياته لم يتوان أمير المؤمنين عن الالتزام بمبدأ التضحية من أجل القيم التي ضحى من أجلها رسول الله، فهو يعرف قاتله، لكن "لا قصاص قبل الجناية"، يترك للجاني فرصة التغيير في لحظة خاطفة بينه وبين نفسه، ربما تحصل دون علم الإمام...
"فرتُ و ربّ الكعبة"
كما لو أنه انتظرها طوال حياته فتلقفها أخيراً والسعادة تغمره الى درجة أن يُقسم بما لا أعظم وأجلّ منه، سبحانه وتعالى.
منذ أن كان علياً في شبابه، يهفو الى الموت والتضحية بين يدي رسول الله، صلى الله عليه وآله، في غمرة المواجهة المحتدمة بين رسالة السماء وقوى الشرك والكفر في مكة.
أول إطلالة فدائية كانت في ليلة المبيت، يوم اجتمعت كلمة الباطل على اغتيال النبي الأكرم، كآخر سهم في جعبة المشركين للتخلص من هذا الخطر الداهم على مصالحهم وعقيدتهم الفاسدة.
أخبر النبي الأكرم ابن عمّه الشاب المتألق بأنه يقدم على عمل خطير، ينام مكانه في بيت الجدّ؛ عبد المطلب، ليوهم المشركين بوجوده، فيتمكن من مغادرة مكة الى جبل ثور للابتعاد عن الانظار لفترة معينة، فربما تهوي عليه سيوف القوم ويكون في لحظة خاطفة في عداد الموتى (الشهداء).
لم يتأمل الموقف مطلقاً، بل بادر رسول الله بالسؤال: وهل تسلم أنت يا رسول الله؟!
فأجاب: بلى
فأخذ علي بن أبي طالب مضجعه فوراً، ولم يكترث لما حوله من تحركات حول الدار، حيث فرضوا حصاراً عليه لئلا يخرج النبي، ويطمئنوا من وجوده، ولم يفكر لحظة واحدة بأنه ربما يخسر شبابه وحياته.
وفي معركة أحد العصيبة، حيث دارت الدائرة على المسلمين بسبب تمرّد البعض لأوامر رسول الله، فتعرض النبي لطعنات وضربات شديدة، واستشهد حمزة، وعديد المسلمين بسبب الهجوم المباغت لكتيبة من المشركين يقودها خالد بن الوليد، الامر الذي دفع بنفر من المسلمين للهروب من ساحة المعركة على أثر إشاعات بمقتل النبي الأكرم، ولكن؛ أمير المؤمنين، كان مثل الليث المزمجر وسط الميدان، يذبّ عن رسول الله، ويدفع عنه الكتائب المهاجمة من كل حدبٍ وصوب، حتى أصيب باكثر من سبعين جراحة في انحاء مختلفة من جسده، بين ضرب بالسيف، وطعن برمح، واصابة بالنبل، وبعد انجلت الغبرة، جاء الى رسول الله، وأبدى أسفه لعدم نيله الشهادة كما عمّه حمزة، فصبّره النبي الأكرم وقال: "إنها من ورائك يا علي".
وفي خطبة النبي الأكرم لاستقبال شهر رمضان المبارك، عندما بيّن فضائل الشهر الكريم، وما على المسلمين فعله واغتنامه من الفرص ليكونوا من أهل ضيافة الله، بادر أمير المؤمنين في نهاية الخطبة التي يرويها هو بنفسه، "فقمت وقلت: يا رسول الله! ما أفضل الاعمال في هذا الشهر؟ قال: يا أبا الحسن! أفضل الاعمال في هذا الشهر؛ الورع من محارم الله عزّوجلّ، ثم بكى، فقلت: يا رسول الله، ما يبكيك؟ فقال: يا علي لما يُستحل منك في هذا الشهر، كأني بك وأنت تصلي لربك وقد انبعث أشقى الأولين والآخرين شقيق عاقر ناقة ثمود، فيضربك ضربة على قرنك يخضب منها لحيتك".
فقال أمير المؤمنين: "فقلت: يارسول الله، وذلك في سلامة من ديني؟ فقال، صلى الله عليه وآله: في سلامة من دينك".
ماذا تعني: "سلامة الدين"؟
إنها العصمة من الانحراف، والتشويه، والتفكك، فيكون الدين منظومة متكاملة من القيم والأحكام والأخلاق والعقائد يكمل بعضه الآخر، وغير قابل للتجزئة والتحوير، بل ويكون الدين عصيّاً على التفسيرات والاجتهادات الشخصية الخاضعة لمصالح خاصة، كما سعى الى هذا، الحكام وشريحة من حملة العلم طيلة الاربعة عشر قرناً الماضية، وما يزالون.
لذا فان مطلب بهذه الضخامة تهون أمامه نفس علي بن أبي طالب، رغم معرفته بأنه الخليفة من بعد رسول الله، و يفترض ان يكون قائد الأمة المطاع، مع سجل لامع من الانجازات والمفاخر، و أي شخص آخر مكانه بعدد أقل بكثير من الانجازات، يفكر بمستقبله السياسي لخدمة الدين والمذهب! لا أن يفرط بنفسه فتخسر الساحة الاجتماعية والسياسية رمزاً كبيراً!
وتضحية أخرى ربما تفوق في حجمها، التضحية بالنفس وحتى المال، خاضها أمير المؤمنين، عليه السلام، عندما التزم الصمت والصبر على جماعة السقيفة والانقلابيين، فقد تحمّل الأذى النفسي المريع لما حصل من حادثة الدار، وما جرى على الصديقة الزهراء، عليها السلام، لما يعجز عنه أي انسان آخر في مكانه، عليه السلام.
حتى اللحظات الاخيرة من حياته لم يتوان أمير المؤمنين عن الالتزام بمبدأ التضحية من أجل القيم التي ضحى من أجلها رسول الله، فهو يعرف قاتله، لكن "لا قصاص قبل الجناية"، يترك للجاني فرصة التغيير في لحظة خاطفة بينه وبين نفسه، ربما تحصل دون علم الإمام، ولنفترض أنه، عليه السلام، اعتقل عبد الرحمن بن ملجم، بدعوى اصطحابه للسيف في المسجد، ثم استشهد الإمام في مكان آخر، فان السنّة ستجري على الأمة بمشروعية اعتقال أي شخص في طريقه لتنفيذ عمل مخالف للقانون، ولم نكن نستنكر الاجراءات التي نراها اليوم من اعتقالات على الضنّة والتهمة، ونعدها مخالفة للقانون والشرع.
بشجاعته في تقبل القضاء الإلهي بأن يهوي عليه سيف ذلك الشقي، وهو في محراب صلاته فجر ليلة التاسع عشر من شهر رمضان، قدم لنا أمير المؤمنين، عليه السلام، درساً في التضحية بالمصالح والذات من أجل القيم والمبادئ، لا أن تكون التضحية بأرواح الناس وكرامتهم ومصيرهم لتحقيق مصالح شخصية زائلة.
اضف تعليق